المبحثُ الثاني: تجنبُ الزينةِ في الثيابِ
أجمعَ أهلُ العلمِ على أنَّ الحادةَ يحرمُ عليها لُبْسُ كلِّ ما فيهِ زينةٌ منَ الثيابِ؛ الإجماع ص 112، المغني 11/286. لقولِهِ صلى الله عليه وسلم: «وَلَا تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا إِلَّا ثَوْبَ عَصْبٍ»، رواه البخاري في كتاب الطلاق، باب: القسط للحادة عند الطهر (3/421) برقم (5341)، ورواه مسلم برقم (938) واللفظ له، وزاد أبو داود (2/292)، باب: فيما تجتنبه المعتدة في عدتها: «ولا تختطب». وزاد النسائي (6/203) برقم (3534): «ولا تمتشط». ولقولِهِ: رواه الإمام أحمد (6/302)، وأبو داود (2/292) واللفظ لهما، ورواه النسائي (6/203) برقم (3535) دون قوله: «ولا الحلي»، وقد ضعف ابن حزم الحديث؛ فقال في المحلى (10/277): «ولا يصح؛ لأن إبراهيم بن طهمان ضعيف». وقد استنكر ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد (5/708 -709) تضعيف الحديث بإبراهيم؛ فقال: «ولا يحفظ عن أحد من المحدثين قط تعليل حديث رواه ولا تضعيفه». وهذا الإطلاق من العلامة ابن القيم في نفي عدم تعليل وتضعيف المحدثين ما رواه ابن طهمان يحتاج إلى تأمل وتحرير؛ فقد قال ابن حبان: قد تفرد عن الثقات بأشياء معضلات، كما نقله الألباني في «تحذير الساجد»، بل قال فيه ابنُ عمار الموصلي: ضعيف الحديث مضطرب الحديث، فإطلاق ضعف حديثه وإن كان فيه نظر، إلا أنه كما قال الحافظ في التقريب: ثقة يغرب – وهو الذي تفرد بحديث: «إن في مسجد الخيف قبر سبعين نبيًّا». ا هـ «تحذير الساجد». صلى الله عليه وسلم «لا تلبسُ المعصفرَ منَ الثيابِ ولا الممشقَ». الممشَّق قال في الفتح الرباني 17/47: «بضم الميم الأولى وفتح الثانية وتشديد الشين المعجمة مفتوحة على لفظ اسم المفعول من التفصيل المصبوغ بطين أحمر، يسمَّى مِشقًا بكسر الميم، وهي المغرة». وهذا هوَ الذي عليهِ عامةُ أهلِ العلمِ، وألحقوا بالمنصوصِ كلَّ ما وافقَهُ في المعنى أوْ كانَ أولى منهُ بالمنعِ. قالَ ابنُ القيمِ رحمهُ اللهُ: وهذا يعمُّ المعصفرَ والمزعفرَ، وسائرَ المصبوغِ بالأحمرِ والأصفرِ والأخضرِ والأزرقِ الصافيِّ، وكلَّ ما يصبغُ للتحسينِ والتزينِ. زاد المعاد 5/704. وقدْ حكى ابنُ المنذرِ رحمهُ اللهُ الإجماعَ على منعِها منَ الثيابِ المصبغةِ والمعصفرةِ إلا ما صبغَ بالسوادِ، ففيهِ خلافٌ. الإشراف على مذاهب العلماء ص 295. وقدْ أجمعوا أيضًا على أنَّ للحادةِ لبسَ الأبيضِ منِ الثيابِ، ومنعَ بعضُ المالكيةِ الجيدَ منهُ. شرح مسلم للنووي 6/118. وقدْ ذهبَ ابنُ حزمٍ إلى المنعِ منَ المصبوغِ فقطْ. أمَّا ما عداهُ منْ ثيابِ الزينةِ غيرِ المصبوغةِ، ولبسِ منسوجِ الذهبِ والفضةِ والجوهرِ والياقوتِ والزمردِ وغيرِ ذلكَ، فليسَ ممنوعًا عندهُ، ومستندهُ أنَّ الحديثَ نهى عنِ المصبوغِ فقطْ. المحلى 10/276. حيثُ جاءَ فيهِ قولُهُ صلى الله عليه وسلم: «وَلَا تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا». قالَ ابنُ دقيقِ العيدِ رحمهُ اللهُ: «وقدْ يؤخذُ منْ مفهومِ الحديثِ جوازُ ما ليسَ بمصبوغٍ، ولكنْ بالنظرِ إلى المعنى الذي هوَ علةُ النهيِّ، يكونُ هذا ضربًا منَ الجمودِ». قالَ ابنُ القيمِ رحمهُ اللهُ: فقدْ دارَ كلامُ الإمامِ أحمدَ والشافعيِّ وأبي حنيفةَ رحمهمُ اللهُ على أنَّ الممنوعَ منهُ منَ الثيابِ، ما كانَ منْ لباسِ الزينةِ منْ أيِّ نوعٍ كانَ، وهذا هوَ الصوابُ قطعًا، فإنَّ المعنى الذي منعتْ منَ المعصفرِ والممشقِ لأجلهِ مفهومٌ، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم خصَّهُ بالذكرِ معَ المصبوغِ تنبيهًا على ما هوَ مثلُهُ، وأولى منهُ بالمنعِ، والبرودُ المحبرةُ الرفيعةُ الغاليةُ الأثمانِ مما يراد للزينةِ لارتفاعِهما وتناهي جودتهما، كانَ أولى بالمنعِ منَ الثوبِ المصبوغِ، وكلُّ منْ عقلَ عنِ اللهِ ورسولِهِ لمْ يستربْ في ذلكَ. زاد المعاد 5/707. وكلُّ ما صبغَ منَ الثيابِ بأصباغٍ لا يقصدُ بصبغِهِ حسنُهُ كالكحلي والأخضرِ المشبعِ والأسودِ أوْ صبغَ لنفي الوسخِ عنْهُ أوْ لتقبيحهِ، فالأئمةُ الأربعةُ انظر: شرح فتح القدير 3/340، جواهر الإكليل 1/389، مغني المحتاج 4/399، المبدع 8/143. وغيرُهمْ على جوازهِ؛ لأنَّهُ لا يقصدُ بهِ التزينُ، فلا يمنعُ منهُ. وقدْ يدلُّ لهذا قولُهُ صلى الله عليه وسلم: «وَلَا تَلْبسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا إِلَّا ثَوْبَ عَصْبٍ»، والعصبُ نبتٌ تصبغُ بهِ الثيابُ كما رجحهُ ابنُ قدامةَ المغني 11/289. وابنُ القيمِ زاد المعاد 5/711. وقالَ السهيليُّ: الورسُ والعصبُ نبتانِ باليمنِ لا ينبتانِ إلا بهِ، ورجحَ ابنُ حجرٍفتح الباري 9/491. رحمهُ اللهُ ما ذهبَ إليهِ الأكثرونَ انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر 3/245، المجموع المغيث 2/458، وغريب الحديث للحربي 1/304، لسان الميزان 1/604. منْ تفسيرِ العصبِ بأنَّهُ برودٌ يمنيةٌ يعصبُ غزلها، أيْ: يجمعُ ويشدُّ ثمَّ يصبغُ ويُنسجُ، فتأتي موشاة لبقاءِ ما عصبَ منهُ أبيض لمْ يأخذهُ صبغٌ. وعلى كلا التفسيرينِ، فالمرادُ المنعُ منْ ثيابِ الزينةِ، قالَ ابنُ قدامةَ رحمهُ اللهُ: «فأرخصَ النبيّ صلى الله عليه وسلم للحادةِ في لبسِ ما يصبغُ لغيِر التحسينِ» المغني 11/289. وقالَ شيخُنا محمدُ بنُ صالحٍ العثيمينُ -أثابهُ اللهُ- في قولِهِ صلى الله عليه وسلم: «ولا تلبسُ ثوبًا مصبوغًا إلا ثوبَ عصبٍ»: المرادُ ثوبُ الزينةِ، وليسَ المعنى أنها لا تلبسُ إلا الأبيضَ، فالثيابُ نوعانِ: ثيابٌ للتزينِ والتجملِ، فهذا لا يجوزُ للحادةِ، والنوعُ الآخرُ ثيابٌ بذلةٌ، أيْ: ليستْ للزينةِ، فمهما كانتْ ألوانها، فلا بأسَ بها. من تعليقات شيخنا على صحيح البخاري كتاب الطلاق باب القسط للحادة عند الطهر 3/421. والذي يبدو أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم إنما نصَّ على المصبوغِ؛ لأنَّهُ مما يتجملُ بصبغهِ غالبًا، وذهبَ جماعةٌ منْ أهلِ العلمِ، منهمْ عائشةُ وابنُ عمرَ والزهريُّ والثوريُّ واسحاقُ وأبو ثورٍ الإشراف على مذاهب العلماء ص 295. إلى منعِ الحادةِ منَ الأسودِ، وما شابههُ منَ الألوانِ مما لا يقصدُ بصبغهِ حسنهُ كالكحلي والأخضرِ المشبعِ، والراجحُ جوازُ ذلكَ، واللهُ أعلمُ.
وقدِ اختلفَ أهلُ العلمِ في لبسِ الحريرِ للحادةِ، فذهبَ الحنفيةُ إلى منعهِ مطلقًا، والمالكيةُ في غيرِ الأبيضِ منهُ، انظر: تبيين الحقائق 3/35، حاشية رد المحتار 3/533. وذهبَ الظاهريةُ، انظر: بلغة السالك 2/279، المنتقي 4/147. والحنابلةُ، المغني 11/289. إلى جوازِ استعمالِهِ ما لمْ يصبغْ، والأصحُّ عندَ الشافعيةِ انظر: مغني المحتاج 4/399، شرح مسلم للنووي 7/117. الجوازُ، وقيلَ: الأصحُّ المنعُ. أوجز المسالك 10/289. قالَ ابنُ قدامةَ رحمهُ اللهُ: «ولا تمنعُ منْ حسانِ الثيابِ غيرِ المصبوغةِ، وإنْ كانَ رقيقًا سواءٌ كانَ منْ قطنٍ أوْ كتانٍ أوِ إبريسمٍ –أيْ حريرٌ– لأنَّ حسنهُ منْ أصلِ خلقتِهِ، فلا يلزمُ تغييرُهُ، كما أنَّ المرأةَ إذا كانتْ حسنةَ الخلقةِ، لا يلزمُها أنْ تغيرَ لونها وتشوهَ نفسَها». المغني 11/289.
والذي يترجحُ أنَّ الحادةَ تمنعُ منْ لبسِ الحريرِ مطلقًا؛ لأنَّهُ إنما أبيحَ لهنَّ في التزينِ بهِ، والحادةُ ممنوعةٌ منهُ، قالَ الحافظُ رحمهُ اللهُ: «قالَ الشيخُ أبو محمدٍ بنُ أبي جمرةَ: إنْ قلنا: إنَّ تخصيصَ النهيِّ للرجالِ لحكمةٍ، فالذي يظهرُ أنهُ سبحانَهُ وتعالى علمَ قلةَ صبرهنَّ عنِ التزينِ، فلطفَ بهنَّ في إباحتِهِ؛ ولأنَّ تزينهنَّ غالبًا إنما هوَ للأزواجِ». فتح الباري 10/296. وقالَ ابنُ القيمِ رحمهُ اللهُ: «فإذا كانَ الأبيضُ والبرودُ المحبرةُ الرفيعةُ الغاليةُ الأثمان مما يراد للزينةِ لارتفاعهما وتناهي جودتهما، كانَ أولى بالمنعِ منَ الثوبِ المصبوغِ، وكلُّ منْ عقلَ عنِ اللهِ ورسولِهِ لمْ يستربْ في ذلكَ». زاد المعاد 5/707. وهذا هوَ اختيارُ شيخِنا محمدٍ العثيمينَ -رحمهُ اللهُ وأثابهُ- لكنْ إذا احتاجتْ إليهِ، مثلَ أنْ يكونَ حكةً أوْ حساسيةً، فإنَّهُ لا بأسَ بهِ؛ لدفعِ الحاجةِ، فإنَّ ما حرمَ تحريمَ وسيلةٍ أبيحَ للحاجةِ، واللهُ أعلمُ.