المسألةُ الثالثةُ: بيانُ معنى قولِهِ تعالى: ﴿وَعَشْرًا﴾
للعلماءِ في تفسيرِ قولِهِ تعالى: ﴿وَعَشْرًا﴾: في آيةِ البقرةِ قولانِ:
القولُ الأولُ: ذهبَ جمهورُ العلماءِ منَ الحنفيةِ، انظر: حاشية رد المحتار 9/275، شرح فتح القدير 3/313. والمالكيةِ، الكافي للمالكية ص 294. والشافعيةِ، الكافي للمالكية ص 294. والحنابلةِ، الإنصاف 9/275. إلى أنَّ المرادَ بالآيةِ عشرُ ليالٍ بأيامِها، فلا تحلُّ حتى تدخلَ الليلة الحادية عشرة. قالَ ابنُ عطيةَ رحمهُ اللهُ: «قالَ جمهورُ أهلِ العلمِ: ويدخلُ في ذلكَ اليومُ العاشرُ، وهوَ منَ العدة؛ لأنَّ الأيامَ معَ الليالي». المحرر الوجيز 2/216. وقالَ ابنُ المنذرِ رحمهُ اللهُ: «والعشرةُ التي معَ الأربعةِ الأشهرِ عشرةُ أيامٍ بلياليها». الإقناع 2/324. والتمسوا لتذكيرِ العددِ في الآيةِ عللًا؛ فقيلَ: إنَّ المعنى: وعشر مُدَدٍ، كلُّ مدةٍ يومٌ وليلةٌ، وقيلَ: بلْ ذُكِّرَ العددُ في الآيةِ تغليبًا لحكمِ الليالي؛ إذِ الليلةُ أسبقُ منَ اليومِ، والأيامُ في ضمنِها؛ لأن ابتداء الشهورِ بالليلِ عندَ الاستهلالِ، فلما كانَ أولُّ الشهرِ الليلةَ غلِّبَ الليلُ، وقيلَ: إنَّهُ لما اجتمعَ المذكرُ والمؤنثُ غُلِّبَ جانبُ تذكيرِ اللفظِ؛ لأنَّهُ أخفُّ منَ التأنيثِ. انظر: الجامع لأحكام القرآن، 3/186 المحرر الوجيز 2/216، الفتوحات الإلهية 1/190. وذكرَ الطبريُّ رحمهُ اللهُ أنَّ تغليبَ المؤنثِ بتذكيرِ العددِ لا يجوزُ إلا في الليالي والأيامِ خاصةً، فيقالُ: (صُمْنا عشرًا)، قالَ رحمهُ اللهُ: فإنْ أظهروا معَ العددِ مُفسِّرَهُ، أسقطوا منْ عددِ المؤنثِ «الهاء» وأثبتوها في عددِ المذكرِ، كما قالَ تعالى ذكرُهُ: ﴿سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا﴾ [سورة الحاقة: الآية 7]. فأسقطَ الهاءَ منْ سبعٍ، وأثبتها في الثمانيةِ. وأمَّا بنو آدمَ فإنَّ منْ شأنِ العربِ إذا اجتمعتِ الرجالُ والنساءُ ثمَّ أبهمتْ عددُها: أنْ تخرجَهُ على عددِ الذكرانِ دونَ الإناثِ، تفسير الطبري 2/2/515. وذكرَ نحوهُ النوويُّ رحمهُ اللهُ. انظر: شرح مسلم 10/112.
القولُ الثاني: اقتصارُ الحكمِ على الليالي، فتخرجُ المرأةُ منَ العدةِ في اليومِ العاشرِ، فتنقضي عدتها بانقضاءِ عشرِ ليالٍ، وبهِ قالَ الأوزاعيُّ ويحيى بنُ أبي كثيرٍ وبعضُ السلفِ وابنُ حزمٍ رحمهمُ اللهُ، واستندوا إلى ما رُوِيَ عنِ ابنِ عباسٍ رضي اللهُ عنهُ أنَّهُ قرأَ: «وعشرُ ليالٍ».
وما ذهبَ إليهِ الجمهورُ هوَ الصوابُ، وهوَ اختيارُ شيخنا محمدٍ العثيمينَ. وعلى كل حال: فإنَّ المسلمَ إذا اختلطتْ عليهِ الأمورُ، واشتبهَ الحلالُ بالحرامِ، وجبَ عليهِ الأخذ بالأحوطِ، والاحتياطُ هنا: ألَّا تخرجَ منْ عدَّتها إلا بتمامِ اليومِ العاشرِ، والفارقُ بينَ القولينِ منْ حيثُ المدة لا يكادُ يذكرُ، فمنِ اتقى الشبهاتِ، فقدِ استبرأَ لدينهِ وعرضهِ، واللهُ أعلمُ.
وفي تخصيصِ عدةِ الوفاةِ بهذهِ المدةِ الطويلةِ عِلَلٌ؛ منها: أنَّ هذهِ المدةَ يتكاملُ فيها خلقُ الإنسانِ ونفخُ الروحِ فيهِ، وهي مائةٌ وعشرونَ يومًا، وهي الأربعةُ الأشهرُ، ولما كانتِ الأشهرُ تزيدُ وتنقصُ بنقصانِ الأهلةِ جُبِرَ الكسرُ إلى العقدِ احتياطًا. الجامع لأحكام القرآن 3/187. وقيلَ: زيدَ العشرُ؛ لأنَّ الروحَ تُنْفَخُ فيهِ، وذكرَهُ الطبريُّ رحمهُ اللهُ عنْ أبي العاليةِ وسعيدِ بنِ المسيبِ. تفسير الطبري 2/2/516. وقالَ ابنُ عطية رحمهُ اللهُ: وجعلَ اللهُ تعالى العشرَ تكملةً؛ إذْ هي مظنةٌ لظهورِ الحركةِ بالجنينِ؛ وذلكَ لنقصِ الشهورِ أوْ كمالها، أوْ سرعةِ حركةِ الجنينِ أوْ إبطائها. المحرر الوجيز 2/216.
ومنَ العللِ التي ذُكِرَتْ في تحديدِ مدَّةِ الوفاةِ بأربعةِ أشهرٍ وعشرٍ، ما نقلهُ القاسميُّ رحمهُ اللهُ عنِ المهايميِّ، حيثُ قالَ: «أبدى المهايميُّ الحكمةَ في تحديدِ عدةِ المتوفَّى عنها بهذا القدرِ، فقالَ: لئلا يتعارضَ في قلبها حبُّ المتوفَّى وحبُّ الجديدِ، فأخذتْ مدةَ صبرها –وهوَ أربعةُ أشهرٍ- وزيدَ عليهِ العشرُ؛ إذْ بذلكَ ينقطعُ صبرُها، فتميلُ إلى الجديدِ ميلًا كُليًّا، فينقطعُ في قلبها حبُّ المتوفى». وما ذكرَهُ رحمهُ اللهُ فيهِ نظرٌ منْ جهةِ أنَّهُ علةُ الحكمِ أوِ المدةِ، واللهُ أعلمُ.