المسألةُ الثانيةُ: حكمُ إحدادِ المغيبةِ:
سبقَ أنَّ إحدادَ المتوفَّى عنها مرتبطٌ بعدتها، فمسألتُنا هذهِ مبنيةٌ على عدَّةِ المغيبةِ، وهي التي يموتُ زوجُها، ولا تعلمُ بهِ إلا بعدَ زمنِ موتهِ، وفيها ثلاثةُ أقوالٍ لأهلِ العلمِ:
القولُ الأولُ: عدةُ المغيبةِ المتوفَّى عنها، تبدأُ منْ يومِ موتِ زوجِها، وهذا هوَ الذي عليهِ أكثرُ أهلِ العلمِ، وهوَ قولُ ابنِ عمرَ وابنِ مسعودٍ وابنِ عباسٍ رضي اللهُ عنهمْ، انظر: البناية 5/426، الفتاوى الهندية 1/533، المدونة 2/429، روضة الطالبين 8/425 الإنصاف 9/294. وبهِ قالَ الأئمةُ الأربعةُ وغيرُهمْ، المحلى 10/311. وهوَ اختيارُ ابنُ حزمٍ رحمهُ اللهُ، وانتصرَ لهُ الشوكانيُّ رحمهُ اللهُ انتصارًا قويًّا، فقالَ: «ولمْ يَرِدْ في الكتابِ والسُّنةِ ما يدلُّ على أنها لا تعتدُّ إلا منْ وقتِ العلمِ، بلْ ظاهرُ إطلاقاتِ الكتابِ والسنةِ أنَّ العدةَ منْ عندِ وقوعِ الموتِ أوِ الطلاقِ، وإنْ تأخرَ العلمُ بهما؛ لأنَّ هذهِ المدةَ التي مضتْ بعدَ الوقوعِ، وقبلَ العلمِ هي مدةٌ منَ المدةِ المتعقبةِ لموتِ الزوجِ أوْ طلاقهِ، فمنْ زعمَ أنَّهُ لا يحتسبُ بها فعليهِ الدليلُ، فإنْ عجزَ عنهُ، فهي منْ جملةِ العدةِ، وليسَ على المرأةِ إحدادٌ ولا غيرُهُ حتى تعلمَ؛ لأنها لا تكلفُ بلوازمِ العدةِ إلا بعدَ علمِها، وإلا كانَ ذلكَ منْ تكليفِ الغافلِ، وهوَ مجمعٌ على عدمِ التكليفِ بهِ. هذا على تقديرِ أنَّ هذا الحكمَ تكليفيٌّ، أعني: كونَ الموتِ والطلاقِ سببينِ للعدةِ، فإنْ كانا وضعيينِ، فالأمرُ أظهرُ». السيل الجرار 2/297 – 298. وعللَ ابنُ الهمامِ هذا القولَ، فقالَ رحمهُ اللهُ: «لأنَّ سببَ وجوبِ العدةِ الطلاقُ أوِ الوفاةُ، فيعتبرُ ابتداؤها منْ وقتِ وجوبِ السببِ». شرح فتح القدير 4/329.
القولُ الثاني: عدةُ المتوفَّى عنها زوجُها تبدأُ منْ حينِ يأتيها خبرُ وفاةِ زوجِها، وهذا القولُ مرويٌّ عنْ عليِّ بنِ أبي طالبٍ رضي اللهُ عنهُ، وبهِ قالَ الحسنُ البصريُّ وقتادةُ. المحلى 10/311. وحجتُهمْ أنَّ العدةَ حقٌّ للهِ وحقٌّ للزوجِ، فلا يسقطهُ عدمُ العلمِ، بلْ هوَ ثابتٌ لا يسقطُ إلا بالأداءِ، وهي لمْ تعلمْ، فتعتدُّ منْ علْمِها. والجوابُ عليهِ أنْ يقالَ: إنَّ كونه حقًّا للهِ تعالى لا يُنافي اعتدادَها منْ حينِ العلمِ؛ لأنَّ النصوصَ ربطتِ العدةَ بحدوثِ الوفاةِ، فلا تفصلُ عنها إلا بدليلٍ، واللهُ أعلمُ.
القولُ الثالثُ: عدتها إنْ قامتْ بينةٌ منْ يومِ الوفاةِ، وإنْ لمْ تقمْ فمِنْ حينِ بلوغِ الخبرِ، وهذا قولُ سعيدِ بنِ المسيبِ وعمرَ بنِ عبدِ العزيزِ الإشراف على مذاهب العلماء ص 284. والشعبيِّ المحلى 10/312. رحمهمُ اللهُ، وهوَ روايةٌ عنِ الإمامِ أحمدَ. قالَ ابنُ مفلحٍ رحمهُ اللهُ: «وإنْ طلقَ غائبٌ أوْ ماتَ، اعتدتْ منذُ الفرقةِ، وإنْ لمْ تحدَّ، وعنهُ هذا إنْ ثبتَ ببينةٍ أوْ كانتْ بوضعِ حملٍ، وإلا فمنْ بلوغِ الخبرِ». الفروع 5/550. فاشترطَ رحمهُ اللهُ ألَّا تكونَ المغيبةُ حاملًا قدْ وضعتْ، وهذا بالإجماعِ كما قالَ ابنُ المنذرِ. الإشراف على مذاهب العلماء ص 284.