المسألةُ الأولى: حكمُ انقضاءِ العدةِ بالسقطِ.
انقضاءُ العدَّةِ بالسقطِ يختلفُ باختلافِ زمنِ الإسقاطِ، ويمكنُ تلخيصُهُ في الحالاتِ التاليةِ:
الحالُ الأولى: أنْ تضعَ ما تبيَّنَ فيهِ خلْقُ الإنسانِ، سواءٌ قبلَ نفخِ الروحِ أوْ بعدَهُ، فهذا تنقضي بهِ العدةُ بالإجماعِ، قالَ ابنُ المنذرِ رحمهُ اللهُ: «أجمعَ كلُّ منْ نحفظُ عنهُ منْ أهلِ العلمِ على أنَّ عدةَ المرأةِ تنقضي بالسقطِ تسقطهُ إذا عُلِمَ أنَّهُ وُلِدَ». الإشراف على مذاهب العلماء ص 282.
الحالُ الثانيةُ: أنْ تضعَ مُضغةً لمْ يتبيَّنْ فيها خلْقُ إنسانٍ، ولها صورتانِ:
الأولى: أنْ يشهدَ نساءٌ ثقاتٌ بأنَّ فيها صورةً خفيَّةً لخلقِ إنسانٍ، فالسقطُ هنا يترتبُ عليهِ انقضاءُ العدةِ عندَ جمهورِ العلماءِ، منهمُ الأئمةُ الأربعةُ. انظر: حاشية رد المحتار 3/511، جواهر الإكليل 1/387، التفريع 2/116، الأم 5/221، الإنصاف 9/272، المحلى 10/266.
وأمَّا الصورةُ الثانيةُ: فهي أنْ يشهدَ نساءٌ ثقاتٌ بأنَّ ما وضعتْهُ مبتدأَ خلقِ إنسانٍ، فهذا تنقضي بهِ العدةُ في مذهبِ الشافعيةِ، وروايةٌ عنِ الحنابلةِ، انظر: روضة الطالبين 8/376، الإنصاف 9/273. وهوَ ما تُفتي بهِ اللجنةُ الدائمةُ للبحوثِ العلميةِ والإفتاءِ. انظر: الملحقات
الحالُ الثالثةُ: أنْ تضعَ ما لمْ يشهدِ القوابلُ بأنَّهُ مبتدأُ خلْقِ إنسانٍ، أوْ علقةٌ، أوْ نطفةٌ، فهذا لا تنقضي بهِ العدةُ، ولا يترتبُ عليهِ حكمٌ عندَ جمهورِ العلماءِ. انظر: الأم 5/221، التفريع 2/116، جواهر الإكليل 1/387، المغني 11/231. وذهبَ المالكيةُ إلى أنها إنْ ألقتْ علقةً فما فوقَ، انقضتْ بهِ عدتها، وأمَّا إنْ كانَ دونَ العلقةِ، فليسَ بشيءٍ ولا تنقضي بهِ العدةُ. أضواء البيان 5/33. واستدلوا بقولِهِ تعالى: ﴿وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾، وذهبَ إلى هذا القولِ ابنُ حزمٍ رحمهُ اللهُ، واستدلَّ لذلكَ بحديثِ حذيفةَ بنِ أسيدٍ الغفاريِّ، وفيهِ قالَ صلى الله عليه وسلم: «وَإِذَا مَرَّ بِالنُّطْفَةِ ثِنْتَانِ وَأَرْبَعُونَ لَيْلَةً بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهَا مَلَكًا، فَصَوَّرَها وَخَلَقَ سَمْعَها وَبَصَرَها، وَجِلْدَها وَلَحْمَها وَعِظَامَها، ثمَّ قالَ: يَا رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟»، رواهُ مسلمٌ. مسلم 4/2037 برقم (2644). ثمَّ قالَ: «معناهُ خلقُ الجملةِ التي تنقسمُ بعدَ ذلكَ سمعًا وبصرًا وجلدًا ولحمًا وعظامًا، فصحَّ أنَّ أولَ خلقِ المولودِ كونُهُ علقةً، لا كونُهُ نطفةً وهي الماءُ». المحلى 10/267.
والذي يترجحُ أنها إنْ وضعتْ ما تبيَّنَ فيهِ خلقُ إنسانٍ أوْ شهدَ القوابلُ بأنَّ السقطَ مبدأُ خلقِ آدميٍّ، فإنَّهُ تنقضي بهِ العدةُ. وإنْ لمْ يتبينْ أوْ لمْ يشهدِ القوابلُ، فإنَّهُ لا عبرةَ بهِ ولا يتعلقُ بهِ حكمٌ، وهذا هوَ الراجحُ، وبهذا عُلِمَ أنَّهُ لا عبرةَ بنفخِ الروحِ، بلِ العبرةُ بالتبيُّنِ. قالَ شيخُ الإسلامِ: «وإذا ألقتْ سقطًا انقضتْ بهِ العدةُ، وسقطتْ بهِ النفقةُ، وسواءٌ كانَ قدْ نُفِخَ فيهِ الروحُ أمْ لا، إذا كانَ قدْ تبيَّنَ فيهِ خلْقُ الإنسانِ». الفتاوى 34/98.
أمَّا الجوابُ عمَّا استدلَّ بهِ المالكيةُ منْ أنَّ المرادَ بالآيةِ وضعُ ما يعتبرُ حملًا، فبأنْ يقالَ: إنَّ النطفةَ والعلقةَ والمضغةَ التي لمْ تخلقْ دمٌ، ولا عبرةَ بهِ، فهوَ كدمِ العرقِ لا يثبتُ بهِ حكمٌ. وأمَّا ما استدلَّ بهِ ابنُ حزمٍ رحمهُ اللهُ فأقربُ الأقوالِ فيهِ أنَّ ذلكَ تصويرٌ خفيٌّ غيرُ مُدْرَكٍ. قالَ ابنُ القيمِ رحمهُ اللهُ في كلامِهِ على روايةِ حذيفةَ: «فيتعينُ حملهُ على تصويرٍ خفيٍّ لا يدركُهُ إحساسُ البشرِ؛ فإنَّ النطفةَ إذا جاوزتِ الأربعينَ انتقلتْ علقةً، وحينئذٍ يكونُ أولُ مبدأ التخليقِ، فيكونُ معَ هذا المبدأ مبدأُ التصويرِ الخفيِّ الذي لا ينالُهُ الحسُّ». ثمَّ قالَ: «وهذا التقديرُ الثالثُ أليقُ بألفاظِ الحديثِ، وأشبهُ وأدلُّ على القدَرِ، واللهُ أعلمُ بمرادِ رسولهِ». طريق الهجرتين وباب السعادتين ص139. وهذا هوَ الذي استظهرَهُ شيخُنا محمدٌ العثيمينُ رحمهُ اللهُ لما قرأتُ عليهِ كلامَ ابنِ القيمِ رحمهُ اللهُ.