المبحثُ الأولُ: مـدةُ الإحدادِ
تختلفُ مدةُ الإحدادِ باختلافِ الميتِ المحدِّ عليهِ، وذلكَ على قسمينِ:
القسمُ الأولُ: مدةُ الإحدادِ على غيرِ الزوجِ.
وردتِ الأحاديثُ النبويةُ ناصَّةً على أنَّهُ يجوزُ الإحدادُ على غيرِ الزوجِ ثلاثَ ليالٍ فقطْ؛ قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لا يحلُّ لامرأةٍ تؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ أنْ تحدَّ على ميتٍ فوقَ ثلاثٍ». رواه البخاري في كتاب الطلاق، باب: تحد المتوفَّى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرًا (3/420) برقم (5334، 5335، 5336، 5337). ورواه مسلم (2/1123 ـ 1125) برقم (1486) فدلَّ الحديثُ على إباحةِ الإحدادِ ثلاثةَ أيامٍ، ومنعهِ فيما زادَ على ذلكَ. وقالَ القرطبيُّ رحمهُ اللهُ: «وفي قولِهِ صلى الله عليه وسلم: «فوقَ ثلاثٍ إلا على زوجٍ» دليلُ تحريمِ إحدادِ المسلماتِ على غيرِ أزواجِهنَّ فوقَ ثلاثٍ، وإباحةُ الإحدادِ عليهم ثلاثًا». الجامع لأحكام القرآن 3/180. ومما يدلُّ على إباحتِهِ في الثلاثِ فقطْ ما رواهُ الشيخانِ منْ حديثِ بنتِ أبي سلمةَ، قالتْ: دخلتُ على أمِّ حبيبةَ زوجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم حينَ توفي أبوها أبو سفيانَ بنُ حربٍ، فدعتْ بطيبٍ فيهِ صفرةٌ؛ خلوقٌ أوْ غيرُهُ، فدهنتْ منهُ جاريةً ثمَّ مستْ بعارضيها، ثمَّ قالتْ: واللهِ ما لي بالطِّيبِ منْ حاجةٍ، غيرَ أني سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ على المنبرِ: «لا يحلُّ لامرأةٍ تؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ أنْ تحدَّ على ميتٍ فوقَ ثلاثٍ، إلا على زوجٍ أربعةَ أشهرٍ وعشرًا». رواه البخاري في كتاب الطلاق، باب: تحد المتوفَّى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرًا (3/420) برقم (5334، 5335، 5336، 5337). ورواه مسلم (2/1123 ـ 1125) برقم (1486)
فهذهِ أمُّ حبيبةَ رضي اللهُ عنها فهِمتْ منْ إباحتِهِ في الثلاثِ منعَهُ فيما زادَ؛ ولذلكَ تطيَّبتْ معَ عدمِ حاجتِها إلى الطِّيبِ. وقدْ وردَ عنْ زينبَ بنتِ جحشٍ رضي اللهُ عنها مثلُ هذا في إحدادِها على أخيها. فلا يجوزُ الإحدادُ على ميتٍ فوقَ ثلاثةِ أيامٍ كائنًا منْ كانَ إلا على الزوجِ، وهذا مذهبُ عامةِ أهلِ العلمِ رحمَهمُ اللهُ. زاد المعاد 5/696.
ويشكلُ على هذا ما أخرجَهُ أبو داودَ في مراسليهِ رواه أبو داود في مراسيله ص 295، قال عنه الحافظ ابن حجر في فتح الباري 9/486: «مرسل أو معضل»، وهو شاذ أيضًا؛ إذ إنه مخالف لما رواه الثقات، فلا يُعتمَدُ عليه. منْ طريقِ جريرِ بنِ حازمٍ، قالَ: سمعتُ عمرَو بنَ شعيبٍ: «أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رخَّصَ للمرأةِ أنْ تحدَّ على زوجِها حتى تنقضي عدَّتها، وعلى أبيها سبعةَ أيامٍ، وعلى منْ سواهما ثلاثةَ أيامٍ». فظاهرُ الحديثِ جوازُ ما فوقَ الثلاثةِ إلى السبعةِ في حقِّ الأبِ، وهوَ مخالفٌ لعمومِ الأحاديثِ التي لم تفرِّقْ بينَ الأبِ وغيرِهِ.
والجوابُ على هذا الحديثِ منْ وجهينِ:
أولًا: الحديثُ أرسلَهُ عمرُو بنُ شعيبٍ، وهوَ منْ صغارِ التابعينَ، فإنَّ ابنَ حجرٍ جعلهُ منَ الطبقةِ الخامسةِ في التقريبِ، تقريب التهذيب ص 423. وقالَ في هذهِ الطبقةِ: الطبقةُ الصغرى منهمْ –أيِ التابعينَ– الذينَ رأوا الواحدَ والاثنينَ، ولمْ يثبتْ لبعضِهمُ السماعُ منَ الصحابةِ كالأعمشِ، تقريب التهذيب ص 75. وقدْ قيلَ: إنهُ ليسَ منَ التابعينَ، فعلى تسليمِ أنَّهُ منَ التابعينَ، فإنَّهُ منْ صغارِهمْ كما رأيتَ، فإنَّ جُلَّ روايتهِ عنْ صغارِ الصحابةِ، ومرسلُ هؤلاءِ الصواب فيهِ ما ذهبَ إليهِ الشافعيُّ رحمهُ اللهُ وكثيرٌ منَ المتقدمينَ، منْ أنَّ المعتبرَ منها مراسيلُ كبارِ التابعينَ إذا أسندَ، أوْ قوي بمرسلٍ مقبولٍ، أوْ وافقَ قولَ صحابيٍّ، أوْ فتوى لجماعاتٍ منَ العلماءِ بمثلِ ما نصَّ عليهِ؛ انظر: النكت على كتاب ابن الصلاح 2/551، المراسيل لأبي داود ص 21. ولهذا أسقطَ ابنُ حجرٍ رحمهُ اللهُ الاحتجاجَ بهِ؛ لكونِهِ مُرْسلًا أوْ مُعْضلًا، فتح الباري 9/486. فعليهِ يكونُ الحديثُ ضعيفًا منْ ناحيةِ السندِ، ثمَّ لوْ صحَّ سندُهُ، لأمكنَ القول بشذوذِهِ؛ إذِ الأحاديثُ كلها متفقةٌ على منعِ الزيادةِ على الثلاثِ إلا على الزوجِ أربعةَ أشهرٍ وعشرًا.
ثانيًا: على القولِ بصحتهِ وعدمِ شذوذِهِ يمكنُ أنْ يقالَ: إنَّ هذا الحديثَ مخصصٌ لعمومِ الأحاديثِ الأخرى، فيخرجُ الأبُ منْ عمومِ أحاديثِ المنعِ، فيجوزُ الإحدادُ عليهِ سبعةَ أيامٍ، ويبقى منْ سواهُ داخلًا في عمومِ النهي. وأشارَ الحافظُ ابنُ حجرٍ -رحمهُ اللهُ تعالى- إلى هذا، فقالَ: «فلوْ صحَّ لكانَ خصوصُ الأبِ يخرجُ منْ هذا العمومِ». فتح الباري 9/486.
القسمُ الثاني: مدةُ الإحدادِ على الزوجِ.
لما كانتْ عدةُ المتوفَّى عنها ظرفًا لإحدادِها، احتيجَ إلى البحثِ في عدَّتها: فيقالُ: المتوفَّى عنها لا تخلو منْ أنْ تكونَ حائلًا أوْ حاملًا، ولكلِّ واحدةٍ منهما عدةٌ تخصُّها.
النوعُ الأولُ: عدةُ الحائلِ.
الحائلُ هي غيرُ الحاملِ، وهي إمَّا أنْ تكونَ مدخولًا بها، أوْ غيرَ مدخولٍ بها، وكلا الصنفينِ عدَّتُهُ منَ الوفاةِ أربعةُ أشهرٍ وعشرٌ؛ لعمومِ قولِهِ تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾، [سورة البقرة: الآية 234]. ولما أخرجَهُ الشيخانِ مرفوعًا: «لا يحلُّ لامرأةٍ تؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ أنْ تحدَّ على ميتٍ فوقَ ثلاثٍ، إلا على زوجٍ أربعةَ أشهرٍ وعشرًا»، رواه البخاري في كتاب الطلاق، باب: تحد المتوفَّى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرًا (3/420) برقم (5334، 5335، 5336، 5337). ورواه مسلم (2/1123 ـ 1125) برقم (1486) فظاهرُ الآيةِ والحديثِ يشملُهما، فلا فرقَ بينَ مدخولٍ بها وغيرِ مدخولٍ بها. قالَ الزركشيُّ رحمهُ اللهُ: «ولا فرقَ بينَ قبلِ الدخولِ وبعدِهِ؛ إعمالًا لعمومِ الآيةِ والخبرِ». شرح الزركشي 5/552. وقالَ ابنُ القيمِ رحمهُ اللهُ: «وأمَّا عدةُ الوفاةِ فتجبُ بالموتِ، سواءٌ دخلَ بها أوْ لمْ يدخلِ اتفاقًا، كما دلَّ عليهِ عمومُ القرآنِ والسنةِ». زاد المعاد/ 664. وانظر: الأحكام لابن دقيق العيد (2/195 – 199). لعمومِ النصوصِ ولخصوصِ ما جاءَ عنِ ابنِ مسعودٍ رضي اللهُ عنهُ، أنَّهُ سئلَ عنْ رجلٍ تزوجَ امرأةً، ولمْ يفرضْ لها صداقًا، ولمْ يدخلْ بها حتى ماتَ، فقالَ ابنُ مسعودٍ رضي اللهُ عنهُ: «لها مثلُ صداقِ نسائِها، لا وكس ولا شطط، وعليها العدةُ، ولها الميراثُ». فقامَ معقلُ بنُ سنانَ رضي اللهُ عنهُ فقالَ: «قضى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في بروعَ بنتِ واشقٍ امرأةٍ منا مثلَ الذي قضيتَ». ففرحَ بها ابنُ مسعودٍ. رواهُ الخمسةُ وابنُ حبانَ والحاكمُ بسندٍ صحيحٍ كما تقدمَ. رواه النسائي واللفظ له (6/121) برقم (3354)، وأبو داود (2/588) والترمذي (3/441)، وابن ماجه (1/60) برقم (1891)، والإمام أحمد (3/480)، وابن حبان (الإحسان) (9/409) برقم (4100)، والحاكم في المستدرك (2/180)، وقال بعد سرد رواياته 2/181: «فصار الحديث صحيحًا على شرط الشيخين»، ووافقه الذهبي، وقال الألباني في إرواء الغليل 6/359: «هو كما قالا». قال الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير 3/191: «وصححه ابن مهدي والترمذي، وقال ابن حزم: لا مغمز فيه لصحة إسناده، والبيهقي في الخلافيات». وقال شيخنا عبد العزيز بن باز -رحمه الله-: «إسناده لا بأس به».
وهذا قدْ أجمعَ عليهِ العلماءُ رحمهمُ اللهُ؛ قالَ ابنُ المنذرِ رحمهُ اللهُ: «وأجمعوا أنَّ عدةَ الحرةِ المسلمةِ التي ليستْ بحاملٍ منْ وفاةِ زوجِها أربعةُ أشهرٍ وعشرٌ، مدخولًا بها أوْ غيرَ مدخولٍ، صغيرةً لمْ تبلغْ أوْ كبيرةً قدْ بلغتْ». الإجماع ص 108. انظر: الإشراف على مذاهب العلماء ص 274.
وإذا ثبتَ لزومُ العدةِ للحائلِ المدخولِ بها أوْ غيرِ المدخولِ، فإنَّ النصوصَ دلتْ على أنَّ مدةَ الإحدادِ هي مدةُ العدةِ كما تقدمَ، فتحدُّ الحائلُ المتوفَّى عنها أربعةَ أشهرٍ وعشرًا. قالَ ابنُ قدامةَ رحمهُ اللهُ: «فإنْ قيلَ: أَلَا حملتمُ الآيةَ: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ على المدخولِ بها، كما قلتمْ في قولِهِ تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ [سورة البقرة: الآية 228]. قلنا: إنما خصصْنا هذهِ بقولِهِ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا﴾ [سورة الأحزاب: الآية 49]. ولمْ يَرِدْ تخصيصُ عدةِ الوفاةِ، ولا أمكنَ قياسُها على المطلقةِ في التخصيصِ لوجهينِ:
أحدهما: أنَّ النكاحَ عقْدُ عُمْرٍ، فإذا ماتَ انتهى، والشيءُ إذا انتهى تقررتْ أحكامُهُ كتقررِ أحكامِ الصيامِ بدخولِ الليلِ، وأحكامِ الإجارةِ بانقضائها، والعدةُ منْ أحكامِهِ.
الثاني: أنَّ المطلقةَ إذا أتتْ بولدٍ، يمكنُ الزوجُ تكذيبَها ونفيَهُ باللعانِ، وهذا ممتنعٌ في حقِّ الميتِ، فلا يُؤْمَنُ أنْ تأتي بولدٍ، فيلحقُ الميتَ نسبُهُ ومالُهُ منْ ينفيهِ، فاحتطنا بإيجابِ العدةِ عليها لحفظِها منَ التصرفِ والمبيتِ في غيرِ منزلها حفظًا لها. المغني 11/ (223 – 224).
النوعُ الثاني: عدةُ الحاملِ.
اختلفَ أهلُ العلمِ في عدةِ الحاملِ المتوفَّى عنها زوجُها على ثلاثة أقوال:
القولُ الأولُ: أنَّ الحاملَ أجلُها أنْ تضعَ حملَها، ولوْ بعدَ الوفاةِ بوقتٍ يسيرٍ، ولوْ قبلَ دفنِهِ. وهوَ مذهبُ أكثرِ العلماءِ، الإشراف على مذاهب العلماء ص 281. ومنهمُ الأئمةُ الأربعةُ، انظر: شرح فتح القدير 4/310، المدونة 2/420، الأم 5/220، الكافي 3/302. وحكى ابنُ قدامةَ الإجماعَ عليهِ، فقالَ: «وأجمعوا أيضًا على أنَّ المتوفَّى عنها زوجُها إذا كانتْ حاملًا وضعَ حمْلِها، إلا ابنَ عباسٍ». المغني 11/227. وحكاهُ أيضًا ابنُ عبدِ البرِّ رحمهُ اللهُ. التمهيد 20 / 310
واستدلَّ هؤلاءِ بعدةِ أدلةٍ؛ منها:
أولًا: قالَ اللهُ تعالى: ﴿وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾، فالآيةُ دالةٌ على أنَّ كلَّ حاملٍ أجلُها وضعُ الحملِ، ومعلومٌ عندَ جمهورِ المفسرينَ أنَّ آيةَ الطلاقِ متأخرةٌ عنْ آيةِ البقرةِ، قالَ ابنُ مسعودٍ -رضي اللهُ عنهُ -: «نزلتْ سورةُ النساءِ القصرى بعدَ الطولى» رواه البخاري 3/313. وهوَ قول جمهورُ الصحابةِ -رضي الله عنهم- الناسخ والمنسوخ في القرآن ص 90. ومنْ بعدَهمْ. قالَ ابنُ النحاسِ: وهذا -أعني أنَّ قولَهُ تعالى: ﴿وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ﴾ ناسخةٌ للتي في البقرةِ أوْ مبينةٌ لها- قولُ أكثرِ الصحابةِ والتابعينَ والفقهاءِ. الناسخ والمنسوخ في القرآن ص 90. والذي جعلهمْ يقولونَ هذا هوَ تعارضُ العمومينِ؛ فإنَّ كلَّ واحدةٍ منَ الآيتينِ عامٌّ منْ وجهٍ وخاصٌّ منْ وجهٍ، فآيةُ سورة البقرةِ عامة في الحاملِ والحائلِ، وخاصة في المتوفى، وآيةُ سورة الطلاقِ عامة في المطلقةِ والمتوفَّى عنها، وخاصة في الحامل، فلا بدَّ منْ تخصيصِ أحدِ العمومينِ بخصوص الآخر، فنخصص عمومَ آيةِ البقرةِ بخصوص آية سورةِ الطلاقِ، فنقولُ: كلُّ متوفى عنها تعتدُّ أربعةَ أشهرٍ وعشرًا إلا الحاملَ، فإنَّ أجلَها وضعُ حملِها. انظر: المغني (11/227 – 228)، فتح الباري 9/474. وبهذا نكون قد عمِلْنا بالآيتينِ جميعًا، وقدْ دلَّ على هذا حديثُ أمِّ سلمةَ الآتي في قصةِ سبيعةَ. واستدلَّ بعضُهمْ على شمولِ آيةِ: ﴿وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ﴾ للمتوفى عنها بما رواه أحمد بن حنبل في مسنده - (5/ 116) والدارقطني في السنن (4/ 39) عنْ أبيِّ بنِ كعبٍ -رضي اللهُ عنهُ-، أنهُ سألَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عنْ قولِهِ تعالى: ﴿وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ﴾ للمطلقةِ ثلاثًا؟ فقالَ صلى الله عليه وسلم: «هي للمطلقةِ ثلاثًا، وللمتوفَّى عنها زوجُها». إلا أنَّ الحديثَ لا يصحُّ، ولوْ صحَّ لكانَ نصًّا في محلِّ النزاعِ.
الثاني: عنْ أمِّ سلمةَ رضي اللهُ عنها زوجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: أنَّ امرأةً منْ أسلمَ يقالُ لها: سبيعةُ كانتْ تحتَ زوجِها تُوفِّيَ عنها وهي حُبلى، فخطبَها أبو السنابلِ بنُ بعككٍ، فأبتْ أنْ تنكحَهُ، فقالَ: «واللهِ ما يصلحُ أنْ تنكحيهِ حتى تعتدي آخرَ الأجلينِ»، فمكثتْ قريبًا منْ عشرِ ليالٍ، ثمَّ جاءتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالَ: «انكحي». رواهُ الجماعةُ. رواه البخاري في المغازي، باب: فضل من شهد بدرًا (3/90) برقم (3991)، ومسلم (2/1122) برقم (1484). ورواياتُ هذا الحديثِ متعددةٌ، كلُّها فيها إذنُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لسبيعةَ في النكاحِ إذا وضعتْ حملَها، وردهُ لما قالَ أبو السنابلِ رضي اللهُ عنهُ. وهذا الحديثُ متأخرٌ عنْ آيةِ البقرةِ؛ فإنَّ القصةَ إنما وقعتْ في حجةِ الوداعِ، فإنَّ زوجَها الذي تُوفِّي عنها هوَ سعدُ ابنُ خولةَ -رضي اللهُ عنه-، وقدْ توفي في حجةِ الوداعِ كما في الصحيحينِ، ولفظُه: «فتُوفِّي عنها في حجةِ الوداعِ وهي حاملٌ». فتبينَ بهذا أنَّ عمومَ آيةِ البقرةِ: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ مخصوصٌ بآيةِ الطلاقِ: ﴿وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾.
قالَ القرطبيُّ رحمهُ اللهُ: «فبيَّنَ الحديثُ –أيْ: حديثُ سبيعةَ الأسلميةِ– أنَّ قولَهُ تعالى: ﴿وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾، محمولٌ على عمومِهِ في المطلقاتِ والمتوفَّى عنهنَّ أزواجُهنَّ، وأنَّ عدةَ الوفاةِ مختصةٌ بالحائلِ منَ الصنفينِ. الجامع لأحكام القرآن 3/175.
وقالَ ابنُ عبدِ البرِّ رحمهُ اللهُ: لما كانَ عمومُ الآيتينِ متعارضًا –أعني: قولَ اللهِ عزَّ وجلَّ: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾، وقولَهُ: ﴿وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ﴾– لمْ يكنْ بُدٌّ منْ بيانِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لمرادِ اللهِ منهما على ما أمرَهُ اللهُ -عزَّ وجلَّ– بقولِهِ: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [سورة النحل: الآية 44]. فبيَّنَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مرادَ اللهِ منْ ذلكَ بما أفتى بهِ سبيعةَ الأسلميةَ، فكلُّ ما خالفَ ذلكَ فلا معنى لهُ منْ جهةِ الحجةِ، وباللهِ التوفيقِ. التمهيد 20/37. وقالَ البغويُّ رحمهُ اللهُ: «وعامةُ الفقهاءِ خصوا الآيةَ بخبرِ سبيعةَ»، شرح السنة 9/306. وعللَ الجمهورُ لهذا القولِ بتعليلينِ؛ قالَ ابنُ قدامةَ رحمهُ اللهُ: «ويحققُ أنَّ العدةَ إنما شُرِعَتْ لمعرفةِ براءتها منَ الحملِ، ووضعُهُ أدلُّ الأشياءِ على البراءةِ منهُ، فوجبَ أنْ تنقضي بِهِ العدةُ؛ ولأنَّهُ لا خلافَ في بقاءِ العدةِ ببقاءِ الحملِ، فوجبَ أنْ تنقضي بِهِ كما في حقِّ المطلقةِ». المغني 11/228.
القولُ الثاني: أنَّ الحاملَ تعتدُّ بأطولِ الأجلينِ، رُوِيَ هذا عنْ عليٍّ وابنِ عباسٍ رضي اللهُ عنهُما، الإشراف على مذاهب العلماء ص 281. واختارَهُ ابنُ سحنونَ رحمهُ اللهُ، "فتح الباري" (9/474). وعلةُ قولهمْ هذا هوَ تعارضُ العمومينِ: عمومِ قولِهِ تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ﴾، وعمومِ قولِهِ: ﴿وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾، قالَ ابنُ عبدِ البرِّ رحمهُ اللهُ: «وأمَّا مذهبُ عليٍّ وابنِ عباسٍ في هذهِ المسألةِ فمعناهُ الأخذُ باليقينِ».
ولكن هذا القول مرجوح لأمور:
أولًا: عمومُ آيةِ الطلاقِ أوسعُ منْ عمومِ آيةِ البقرةِ، فيُقدَّمُ عليها، قالَ ابنُ القيمِ رحمهُ اللهُ: «وفي القرآنِ ما يدلُّ على تقديمِ آيةِ الطلاقِ في العملِ بها، وهوَ أنَّ قولَهُ تعالى: ﴿أَجَلُهُنَّ﴾ مضافٌ ومضافٌ إليهِ، وهوَ يفيدُ العمومَ، أيْ: هذا مجموعُ أجلهنَّ لا أجلَ لهنَّ غيرُهُ. وأمَّا قولُهُ: ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ﴾، فهوَ فعلٌ مطلقٌ لا عمومَ لهُ، فإذا عُمِلَ بهِ في غيرِ الحاملِ كانَ تقييدًا لمطلقِهِ بآيةِ الطلاقِ. تهذيب السنن 3/203.
ثانيًا: قولُهُ تعالى في آيةِ البقرةِ: ﴿أَزْوَاجًا﴾ لا تفيدُ العمومَ؛ لأنها جمعٌ مُنكَّرٌ، والجمعُ المنكَّرُ لا عمومَ لهُ عندَ جمهورِ الأصوليينَ، انظر: المحصور (2/ 375 – 376)، المستصفى (2/37)، شرح الكوكب المنير (3/142). ذكرَ هذا الوجهَ الشوكانيُّ نيل الأوطار 8/79. والشنقيطيُّ رحمهما اللهُ. أضواء البيان 1/218. لكنْ يُشْكِلُ على هذا الوجهِ: أنَّ أحدًا منَ المفسرينَ لمْ يذكرْهُ غيرهما، سواءٌ منَ المتقدمينَ أمِ المتأخرينَ، فهمْ على أنَّ الآيةَ تفيدُ العمومَ لجميعِ المتوفَّى عنهنَّ، حتى الشوكانيُّ رحمهُ اللهُ قالَ في تفسيرِهِ: «وظاهرُ هذهِ الآيةِ العمومُ». فتح القدير 1/248.
والظاهرُ لي أنَّ العمومَ في الآيةِ إنما استفيدَ منَ الاسمِ الموصولِ، وهوَ قولُهُ تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ﴾، فإنَّ الآيةَ دلَّتْ على أنَّ كلَّ متوفى عنها، فعدَّتها أربعةُ أشهرٍ وعشرٌ. ولقدْ سألتُ شيخنا محمدَ بنَ صالحٍ العثيمينَ رحمهُ اللهُ عمَّا ذكرتُهُ منْ أنَّ العمومَ مُستفادٌ منَ الاسمِ الموصولِ، فوافقَهُ رحمهُ اللهُ، فَلِلَّهِ الحمدُ والمنةُ.
ثالثًا: رجوعُ بعضِ أصحابِ هذا القولِ عنهُ لمَّا تبيَّنَ له ما جاءتْ بهِ السنةُ، فلا معنى للقولِ بهِ، ولذلكَ قالَ ابنُ حجرٍ رحمهُ اللهُ بعدَ نقلهِ لاختيارِ ابنِ سحنونَ: «وهوَ شذوذٌ مردودٌ؛ لأنَّهُ إحداثُ خلافٍ بعدَ استقرارِ الإجماعِ». فتح الباري 9/474. فهذا ابنُ عباسٍ رضي اللهُ عنهُما رُوِيَ عنهُ الرجوعُ، ذكرَهُ الهرويُّ رحمهُ اللهُ في الناسخِ والمنسوخِ بسندٍ مرسلٍ، وذكرَهُ عنهُ غيرُ واحدٍ منَ العلماءِ. قالَ ابنُ حجرٍ رحمهُ اللهُ: «ويقالُ: إنَّهُ رجعَ، ويقويهِ أنَّ المنقولَ عنْ أتباعِهِ وفاقُ الجماعةَ في ذلكَ». فتح الباري 9/474.
القولُ الثالثُ: أنَّ الحاملَ لا تنقضي عدتها إلا إذا طهرتْ منَ النفاسِ، وهوَ قولُ الشعبيِّ والحسنِ والنخعيِّ وحمادِ بنِ سلمةَ، كلُّهمْ قالوا: لا تنكحُ حتى تطهرَ، وحكى عنهمِ ابنُ المنذرِ الكراهةَ فقطْ. الإشراف على مذاهب العلماء ص 281. واحتجوا بحديثِ سبيعةَ الأسلميةِ، وفيهِ: «فلما تعلّتْ منْ نفاسِها تجمَّلتْ للخطَّابٍ» رواه البخاري في المغازي، باب: فضل من شهد بدرًا (3/90) برقم (3991)، ومسلم (2/1122) برقم (1484). قالوا: ومعنى «تعلتْ» أيْ: طهرتْ، فأجابَ القرطبيُّ -رحمهُ اللهِ- عليهمْ فقالَ: «والحديثُ حجةٌ عليهمْ، ولا حجةَ لهمْ في قولها: «فلمَّا تعلتْ منْ نفاسِها تجمَّلتْ للخطَّابِ» كما في صحيحِ مسلمٍ وأبي داودَ؛ لأنَّ (تعلَّتْ) وإنْ كانَ أصلهُ طهرتْ منْ دمِ نفاسِها -على ما قالَهُ الخليلُ-، فيحتملُ أنْ يكونَ المرادُ هاهنا: تعلتْ منْ آلامِ نفاسِها، أيْ: استقلتْ منْ أوجاعِها». ثمَّ قالَ: «ولوْ سلمَ أنَّ معناهُ ما قالَهُ الخليلُ، فلا حجةَ فيهِ، وإنما الحجةُ في قولِهِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ لسبيعةَ: «وقدْ حللتِ حينَ وضعتِ»، فأوقعَ الحلَّ في حينِ الوضعِ، وعلقَهُ عليهِ، ولمْ يقلْ: إذا انقطعَ دمُكِ، ولا: إذا طهرتِ، فصحَّ ما قالَهُ الجمهورُ. الجامع لأحكام القرآن 3/176. فالحديثُ الواردُ حجةٌ في محلِّ النزاعِ، فكلُّ حجةٍ مطروحةٌ عندَ قولِهِ صلى الله عليه وسلم وتفسيرِهِ.