المسألةُ السادسةُ: حكمُ إحدادِ المعتدةِ منْ طلاقٍ.
المرادُ بهذهِ المسألةِ هوَ بَيانُ خلافِ أهلِ العلمِ رحمهمُ اللهُ في ثبوتِ أحكامِ الإحدادِ بالطلاقِ، وقبلَ الخوضِ في أقوالهمْ يحسنُ بنا تحريرُ محلِّ النزاعِ في المسألةِ؛ فإنَّ أهلَ العلمِ رحمهمُ اللهُ متفقونَ على أنَّ المطلقةَ الرجعيةَ لا إحدادَ عليها بالطلاقِ، بلْ ينبغي لها أنْ تتجملَ وتتزينَ وتتعرضَ لمطلقِها؛ لعلَّ اللهَ يحدثُ بعدَ ذلكَ أمرًا. انظر الإجماع ص 112، موسوعة الإجماع 1/54، شرح مسلم للنووي 10/112، المغني 11/285. وذهبَ بعضُ الشافعيةِ إلى استحبابِ الإحدادِ للرجعيةِ إذا طُلِّقتْ مدةَ عدتها. انظر: روضة الطالبين 8/405، المجموع 18/118. واتفقَ أهلُ العلمِ أيضًا على أنَّ المطلقةَ قبلَ الدخولِ لا إحدادَ عليها بالطلاقِ. انظر: موسوعة الإجماع 1/54. فتبينَ أنَّ محلَّ الخلافِ هوَ في المعتدةِ منْ طلاقٍ بائنٍ بينونةً صغرى كالمخلوعةِ والمفسوخةِ، أوْ كبرى كالمطلقةِ ثلاثًا. وللعلماءِ في هذهِ المسألةِ قولانِ:
القولُ الأولُ: وجوبُ الإحدادِ على المعتدةِ منْ طلاقٍ بائنٍ، وهوَ مذهبُ الحنفيةِ، حاشية رد المحتار 3/531. والشافعيِّ في القديمِ، انظر: روضة الطالبين 8/405. ورواية في مذهبِ أحمدَ، وعليهِ أكثرُ أصحابِهِ، انظر: الإنصاف 9/203، المغني 11/299، المبدع 8/140. وبهِ قالَ سعيدُ بنُ المسيبِ وأبو عبيدٍ وأبو ثورٍ، المغني 11/299. واستدلوا بما يلي:
أولًا: حديثُ أمِّ سلمةَ رضي اللهُ عنها: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى المعتدةَ أنْ تختضبَ بالحناءِ؛ فإنَّ الحناءَ طيبٌ. وفي لفظٍ آخرَ: نهى المعتدةَ عنِ التكحلِ والدهنِ والخضابِ والحناءِ، وقالَ: «الحناءُ طِيبٌ». انظر نصب الراية 3/211، البناية 5/437. قالوا: «وهذا عامٌّ في كلِّ معتدةٍ، فيشملُ المعتدةَ منْ وفاةٍ أوْ منْ طلاقٍ». انظر: المبسوط 6/58 – 59، البناية 5/437.
ثانيًا: ما رُوِيَ موقوفًا على إبراهيمَ النخعيِّ، وهوَ منَ التابعينَ، قالَ: المطلقةُ والمختلعةُ والمُتوفَّى عنها والملاعنةُ لا يختضبنَ، ولا يتطيبنَ، ولا يلبسنَ ثوبًا، ولا يخرجنَ منْ بيوتهنَّ. قالوا: «وإبراهيمُ أدركَ عصرَ الصحابةِ وزاحمَهمْ في الفتوى، فيجوزُ تقليدُهُ». شرح فتح القدير 4/338.
ثالثًا: قياسُ المبتوتةِ على المتوفَّى عنها زوجُها؛ وذلكَ للاتفاقِ بينهما في بعضِ الأحكامِ. قالَ الطحاويُّ رحمهُ اللهُ بعدَ ذكرِهِ الأحاديثَ التي فيها نهي المطلقةِ عنِ الخروجِ منْ منزلها: «فلمَّا ساوتْ –أي: المطلقةُ المبتوتةُ– المتوفَّى عنها زوجُها في وجوبِ بعضِ الإحدادِ عليها، ساوتها في وُجوبِ كُلِّيَّتهِ عليها». شرح معاني الآثار 3/79. وأيضًا لاتفاقِهما في فواتِ نعمةِ النكاحِ، قالَ السرخسيُّ رحمهُ اللهُ: «فهي كالمتوفَّى عنها زوجُها، وتأثيرُهُ أنَّ الحدادَ إظهارُ التأسفِ على فواتِ نعمةِ النكاحِ والوطءِ الحلالِ بسببِهِ، وذلكَ موجودٌ في المبتوتةِ كوجودِهِ في المتوفَّى عنها زوجُها، وعينُ الزوجِ ما كانَ مقصودًا لها حتى يكونَ التحزنُ بفواتِهِ، بلْ كانَ مقصودُها ما ذكرْنا منَ النعمةِ؛ وذلكَ يفوتها في الطلاقِ والوفاةِ بصفةٍ واحدةٍ»، المبسوط 6/ (58 – 59). ومنْ مسوغاتِ قياسِ المبتوتةِ على المتوفَّى عنها زوجُها: اشتراكهما في العدةِ.زاد المعاد 5/700.
رابعًا: أنَّ المعنى الذي منْ أجلهِ فُرِضَ الحدادُ على المتوفَّى عنها زوجُها موجودٌ في المطلقةِ طلاقًا بائنًا؛ إذِ المقصودُ بهِ ألَّا يتشوفَ إليها الرجالُ في العدَّةِ، ولا تتشوفُ إليهمْ؛ وذلكَ سدًّا للذريعةِ في مكانِ حفظِ الأنسابِ. بداية المجتهد 2/124.
القولُ الثاني: عدمُ وُجوبِ الإحدادِ على المعتدةِ منْ طلاقٍ بائنٍ، وهوَ مذهبُ المالكيةِ، جواهر الإكليل 1/5389، المنتقى 4/145. والشافعيِّ في الجديدِ، انظر: روضة الطالبين 8/405، المجموع 18/181. ورواية في مذهبِ أحمدَ انظر: الإنصاف 9/302، المبدع 8/140. وهي المذهبُ عندَ الأصحابِ. انظر: الإنصاف 9/281، زاد المستنقع ص 72. وبهِ قالَ عطاءٌ وربيعةُ المغني 11/299. وابنُ عبدِ البرِّ التمهيد 71/319. وابنُ القيمِ،زاد المعاد 5/700. والشوكانيُّ نيل الأوطار 8/84. وغيرهمْ.
واستدلَّ أصحابُ هذا القولِ بأنَّ النصوصَ الموجبةَ للإحدادِ لا تتناولُ المطلقةَ، فعلى منْ أوجبهُ الدليلُ. انظر: التمهيد 17/319، نيل الأوطار 8/84، المغني 11/299. قالَ ابنُ القيمِ رحمهُ اللهُ: «الذي دلَّتْ عليهِ السُّنة أثبتتْ ونفتْ، فخصتْ بالإحدادِ الواجبِ الزوجاتِ، وبالجائزِ غيرهنَّ على الأمواتِ خاصةً، وما عداها فهوَ داخلٌ في حكمِ التحريمِ على الأمواتِ، فمنْ أينَ لكمْ دخولُهُ على المطلقةِ البائنِ؟».زاد المعاد 5/700. وقالَ الباجيُّ رحمهُ اللهُ: «وقولُهُ صلى الله عليه وسلم: «أنْ تحدَّ على ميتٍ» يقتضي اختصاصَ هذا الحكمِ بالوفاةِ، وأمَّا المطلقةُ فلا تعلقَ لها بالحديثِ». المنتقى 4/145.
وأجابوا عنْ أدلةِ القولِ الأولِ بما يلي:
أولًا: الحديثُ الذي استدلوا بهِ لمْ يثبتْ، فلا يُعْتَمدُ عليهِ في إثباتِ الحكمِ، ثمَّ إنَّهُ لوْ صحَّ، فإن عُمومَه مخصوصٌ بالأحاديث التي فيها المنعُ عنِ الإحدادِ على ميتٍ فوقَ ثلاثٍ، إلا للمتوفَّى عنها زوجُها أربعةَ أشهرٍ وعشرًا، ففيه حصرٌ وتخصيصٌ لوجوب الإحدادِ فوقَ الثلاثِ على الميتِ، فلا يتناولُ إلا هذهِ الصورةَ؛ لأنَّ المتوفَّى عنها منْ جملةِ المعتداتِ، فصحَّ حملُ الحديثِ عليها، ثم إنه لما كانَ عمومُ هذا الحديثِ قدْ دخلَهُ التخصيصُ، وذلكَ في المطلقةِ قبلَ الدخولِ اتفاقًا، بقي عندنا المعتدةُ منْ وفاةٍ والمعتدةُ المبتوتةُ، وقدْ وردَ النصُّ صريحًا بلزومِ الإحدادِ للمعتدةِ منْ وفاةٍ وحَصَرَ الحكم فيها، أمَّا المعتدةُ المبتوتة فلا دليل على دخولها إلا العمومُ المخصصُ الذي عارضَهُ منطوقُ أحاديثِ وجوبِ الإحدادِ على المعتدةِ منْ وفاةٍ، وحصره فيها، فلا يصحُّ الاستدلالُ بعدَ هذا كلِّهِ على هذهِ الصورةِ التي ظاهرُ السنةِ ينهى عنها، ووجبَ حمْلُهُ على ما يوافقُ الأحاديثَ الصحيحةِ الصريحةِ؛ كي تجتمعَ الأدلةُ.
ثانيًا: احتجاجُهمْ بقولِ إبراهيمَ النخعيِّ بأنَّهُ أدركَ الصحابةَ، وزاحمَهمْ في الفتوى، فيجوزُ تقليدُهُ. فهذا قدْ يَسوغُ عندَ عدمِ النصوصِ، أمَّا وظواهرُ الأدلةِ تدلُّ على خلافِ قولِهِ، فلا يَسوغُ لنا أنْ نُقلِّدَهُ هو أوْ أحدًا منَ العلماءِ، وندعَ ظواهرَ الكتابِ والسُّنةِ.
ثالثًا: اعتمادُهمُ القياسَ في إثباتِ الحُكْمِ للمعتدةِ المبتوتةِ غيرُ سائغ ولا صحيحٍ منْ عدةِ وُجوهٍ:
الأولُ: أن منْ شروطِ العلةِ التي منْ أجلِها يلحقُ الفرعُ بالأصلِ ألَّا تخالفَ نصًّا أوْ إجماعًا؛ ولأنَّ القياسَ لا يقاومُهما. انظر: شرح الكوكب المنير 4/85. فقياسُهم المعتدةَ المبتوتةَ على المعتدةِ منْ وفاةٍ لتوافقهما في بعضِ الأحكامِ غيُر صحيحٍ؛ لمقابلتِهِ قولَ اللهِ تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾. سورة الأعراف: الآية 32. قالَ ابنُ القيمِ رحمهُ اللهُ: «قدْ أنكرَ اللهُ عز وجل على منْ حرَّمَ زينتَهُ التي أخرجَ لعبادِهِ والطيباتِ منَ الرزقِ، وهذا يدلُّ على أنَّهُ لا يجوزُ أنْ يُحرَّمَ منَ الزينةِ إلا ما حرَّمَ اللهُ ورسولُهُ، واللهُ –سبحانهُ- قدْ حرَّمَ على لسانِ رسولِهِ صلى الله عليه وسلم زينةَ الإحدادِ على المتوفَّى عنها مدةَ العدةِ، وأباحَ رسولُهُ الإحدادَ بتركِها على غيرِ الزوجِ، فلا يجوزُ تحريمُ غيرِ ما حرَّمَهُ، بلْ هوَ على أصلِ الإباحةِ». زاد المعاد 5/700. وقالَ الشافعيُّ رحمهُ اللهُ بعدَ ذكرِهِ بعضَ أوجِهِ التشابهِ بينَ المتوفَّى عنها والمطلقةِ طلاقًا بائنًا: «ولا يبينُ لي أنْ أوجبَهُ عليها؛ لأنهما قدْ يختلفانِ في حالٍ وإنِ اجتمعا في غيرِهِ». الأم 3/230. وهوَ أيضًا قياسٌ مقابلٌ لمفهومِ قولِهِ صلى الله عليه وسلم: «لا يحلُّ لامرأةٍ تؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ أنْ تحدَّ على ميتٍ فوقَ ثلاثٍ إلا على زوجٍ»؛ رواه البخاري في كتاب الطلاق، باب: تحد المتوفَّى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرًا (3/420) برقم (5334، 5335، 5336، 5337). ورواه مسلم (2/1123 ـ 1125) برقم (1486) فإنَّ ظاهرَ الحديثِ أنَّ الإحدادَ ممنوعٌ في الأصلِ إلا في حالينِ: على القريبِ ثلاثةَ أيامٍ، والمتوفَّى عنها زوجُها أربعةَ أشهرٍ وعشرًا، فقياسُ حالِ الحياةِ على حالِ الموتِ منْ أبطلِ القياسِ؛ لتباينِ الحالينِ. قالَ الزركشيُّ رحمهُ اللهُ: «والثانيةُ وهي اختيارُ أبي بكرٍ في الخلافِ وابنِ شهابٍ: لا تحدُّ إلا امرأةٌ تُوفِّي عنها زوجُها». شرح الزركشي 5/580. وقالَ النوويُّ رحمهُ اللهُ: «ودليلُ منْ قالَ: لا إحدادَ على المطلقةِ ثلاثًا قولُهُ صلى الله عليه وسلم: «إلا على الميتِ»، فخصَّ الإحدادَ بالميتِ بعدَ تحريمهِ في غيرِهِ ». شرح النووي على مسلم 10/ 112
الثاني: قولهمْ في تعليلِ ما ذهبوا إليهِ منْ إلحاقِ المعتدةِ المبتوتةِ بالمعتدةِ منَ الوفاةِ بأنَّهُ لإظهارِ التأسفِ على فواتِ نعمةِ النكاحِ، هوَ قياسٌ معَ الفارقِ؛ فهلْ يستوي -عقلًا- منْ بقي معَ زوجهِ إلى أنْ فرَّقَ بينهما الموتُ، ومنْ فارقَ زوجهُ في الحياةِ بطوعِهِ واختيارِهِ، وربما لكراهتِهِ لها؟ فكيفَ تقاسُ عليها معَ هذا البونِ الشاسعِ بينهما؟ قالَ ابنُ مفلحٍ رحمهُ اللهُ: «فأمَّا البائنُ فإنَّهُ فارقَها باختيارِهِ، وقطعَ نكاحَها، فلا معنى لتكلفِها الحزنَ عليهِ»، المبدع 8/140. وقالَ الباجيُّ رحمهُ اللهُ: «وهوَ أنَّ المتوفَّى فارقَ زوجَهُ، وهوَ على نهايةِ الإشفاقِ عليها والرغبةِ فيها، ولمْ تكنِ المفارقةُ منْ قِبَلِهِ، فلزمها لذلكَ الإحدادُ وإظهارُ الحزنِ، والمطلقةُ فارقَها مختارًا لفراقِها مقابحًا لها، فلا يتعلقُ بها حكمُ الإحدادِ كالملاعنةِ. المنتقى 4/145. ثمَّ إنَّ الإحدادَ على فواتِ الزوجِ لا مُجرَّدِ فواتِ الزوجيةِ؛ انظر: عارضة الأحوذي 5/172، فتح الباري 9/478. لأنَّهُ يمكنُ حصولها، أمَّا الزوجُ فلا بعدَ موتِهِ.
الثالثُ: قولهمْ: اتفاقُ المعتدةِ منْ طلاقٍ معَ المعتدةِ منْ وفاةٍ في المعنى؛ حيثُ إنهما اتفقا في المنعِ منَ النكاحِ مدتهما، فمنعتْ دواعيهِ في كلتا المدتينِ سدًّا للذريعةِ ومنعًا للاستعجالِ، فالجوابُ عليهِ: أنَّهُ ليسَ المقصودُ منَ الإحدادِ على الزوجِ الميتِ مجردَ ما ذكرْتُمْ منْ طلبِ الاستعجالِ؛ فإنَّ العدةَ فيهِ لمْ تكنْ لمجردِ العلمِ ببراءةِ الرحمِ، ولهذا تجبُ قبلَ الدخولِ، وإنما هوَ منْ تعظيمِ العقدِ، وإظهارِ خطرِهِ وشرفِهِ، وأنهُ عندَ اللهِ بمكانٍ، فجعلتِ العدةُ تحريمًا لهُ، وجعلَ الإحدادُ من تمامِ هذا المقصودِ وتأكيدِهِ ومزيدِ الاعتناءِ. زاد المعاد 5/701.
الرابعُ: قياسُهمُ المطلقةَ المبتوتةَ على المتوفَّى عنها زوجُها في وُجوبِ الإحدادِ بجامعِ اشتراكِهما في العدةِ بعيدٌ جدًّا؛ إذْ إنهما اختلفا في السببِ، وفي قدْرِ العدةِ أيضًا؛ فإنَّ سببَ عدةِ المتوفَّى عنها زوجُها الموتُ، وعدتها أربعةُ أشهرٍ وعشرٌ، وأمَّا المبتوتةُ فإنَّ سببَ عدَّتها الطلاقُ، وعدَّتها بالأقراءِ. قالَ ابنُ القيمِ رحمهُ اللهُ بعدَ ذكرِ الاتفاقِ على عدمِ وجوبِ الإحدادِ على الموطوءةِ بشُبهةٍ، ولا على المزني بها، أوِ المستبرأةِ، أوِ الرجعيةِ: «وهذا القياسُ –أي: المبتوتةُ على الرجعيةِ ومنْ شابهها– أولى منْ قياسِها على المتوفَّى عنها؛ لما بينَ العدتينِ منَ (الفروقِ) قدرًا، أوْ سببًا وحكمًا، فإلحاقُ عدةِ الأقراءِ بالأقراءِ أولى منْ إلحاقِ عدةِ الأقراءِ بعدةِ الوفاةِ». زاد المعاد 5/701. وقالَ ابنُ حزمٍ رحمهُ اللهُ: «ثمَّ يقالُ لهمْ: هَلَّا أوجبتمُ الإحدادَ على الملاعنةِ والمختلعةِ والمطلقةِ عندَكمْ طلاقًا بائنًا، فكلُّ هؤلاءِ عندَكمُ مفارقاتٌ لأزواجهنَّ، وأيضًا سمَّى اللهُ -عزَّ وجلَّ- المطلقةَ طلاقًا رجعيًا مُفارقةً لزوجِها بتمامِ عدتها؛ إذْ يقولُ اللهُ تعالى: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾، [سورة الطلاق: الآية 2]. ولا خلافَ في أنَّهُ لا إحدادَ عليها؛ لا في العدةِ ولا بعدَ العدةِ، وقدْ فرقَ اللهُ تعالى بينَ ما جمعوا بينَهُ، فجعلَ عدةَ المتوفَّى عنها زوجُها أربعةَ أشهرٍ وعشرًا، وعدةَ المبتوتةِ ثلاثةَ قروءٍ أوْ ثلاثةَ أشهرٍ، فلاحَ فسادُ منْ قاسَ إحداهما على الآخرِ، وباللهِ التوفيقُ. المحلى 10/281. وبهذا كلِّهِ يتبيَّنُ ضعْفُ هذا القياسِ ورجحانُ عدمِ الوجوبِ، واللهُ أعلمُ.
القولُ الثالثُ: استحبابُ الإحدادِ للمبتوتةِ، وهوَ القولُ الجديدُ للشافعيِّ انظر: روضة الطالبين 8/405. وأصحابِهِ انظر: نهاية المحتاج 7/149. قالَ الشافعيُّ -رحمهُ اللهُ: «وأحبُّ إليَّ للمطلقةِ طلاقًا بائنًا لا يملكُ زوجُها الرجعةَ: تحدُّ إحدادَ المتوفَّى عنها حتى تنقضي عدَّتها منَ الطلاقِ». الأم 3/230. وقالَ ابنُ المنذرِ رحمهُ اللهُ: «ورخصَ فيهِ عطاءُ ابنُ أبي رباحٍ وربيعةُ ومالكٌ». الإشراف على مذاهب العلماء ص 297.
والذي يبدو أنَّ هذا القولَ إنما قالَ بِهِ الشافعيُّ وأصحابهُ لأنَّ أدلةَ الوجوبِ لمْ تقوَ على إثباتِهِ، فرأوا الاستحبابَ لوجاهةِ بعضِ ما استدلَّ بهِ القائلونَ بالوجوبِ. ولكن الجوابُ على هذا أنْ يقالَ: الاستحبابُ حكمٌ منَ الأحكامِ الشرعيةِ، فلا بدَّ لهُ منْ دليلٍ يستندُ إليهِ. وقدِ اتضحَ في مناقشةِ أدلةِ القائلينَ بالوجوبِ ضعفُ ما استدلوا بهِ منَ النصِّ والقياسِ، فلا يقوى على معارضةِ ما يخالفُهُ منَ النصوصِ، فوجبَ القولُ بمقتضى الدليلِ منْ تخصيصِ الحكمِ بالمعتدةِ منَ الوفاةِ، واللهُ أعلمُ.