المسألةُ الرابعةُ: حكمُ إحدادِ الذميةِ المتوفَّى عنها.
تقدمَ أنَّ جمهورَ العلماءِ ذهبوا إلى أنَّ الإحدادَ لازمٌ لكلِّ مُتوفًّى عنها ولوْ كانتْ ذميَّةً، وذهبَ الحنفيةُ إلى عدمِ وُجوبِهِ على الذميَّةِ، انظر: تبيين الحقائق 3/34، شرح فتح القدير 4/336. ووافقَهمُ ابنُ كنانةَ ونافعٌ ومالكٌ في روايةٍ وابنُ منذر انظر: الجامع لأحكام القرآن 3/179، المدونة 2/435. وابنُ القيمِ وغيرُهمْ.
واستدلَّ الحنفيةُ ومنْ وافقَهمْ بما أخرجَهُ الشيخانِ وغيرُهما مرفوعًا: «لا يحلُّ لامرأةٍ تؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ أنْ تحدَّ على ميتٍ فوقَ ثلاثٍ، إلا على زوجٍ أربعةَ أشهرٍ وعشرًا»، رواه البخاري في كتاب الطلاق، باب: تحد المتوفَّى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرًا (3/420) برقم (5334، 5335، 5336، 5337). ورواه مسلم (2/1123 ـ 1125) برقم (1486) ووجهُ استدلالهمْ: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم جعلَ الإحدادَ منْ أحكامِ منْ يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ، قالَ ابنُ القيمِ رحمهُ اللهُ: «فلا تدخلُ الكافرةُ»، وقالَ أيضًا في بيانِ استدلالهمْ بالحديثِ: «قالوا: وعدولُهُ عنِ اللفظِ العامِّ المطلقِ إلى الخاصِّ المقيدِ بالإيمانِ، يقتضي أن هذا من أحكام الإيمان ولوازمهِ وواجباتِهِ، فكأنَّهُ قالَ: منِ التزمَ الإيمانَ، فهذا منْ شرائعِهِ وواجباتِهِ». زاد المعاد 5/698. وقالوا: إنَّ الكافرةَ غيرُ مخاطبةٍ بحقوقِ الشرعِ، قالَ البابرتيُّ في شرحِ العنايةِ على الهدايةِ: أمَّا الكافرةُ وهي الكتابيةُ؛ فلأنها غيرُ مخاطبةٍ بحقوقِ الشرعِ، والحدادُ منْ حقوقِهِ، وقدْ أشارَ إلى ذلكَ قولُهُ صلى الله عليه وسلم: «لا يحلُّ لامرأةٍ تؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ». رواه البخاري في كتاب الطلاق، باب: تحد المتوفَّى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرًا (3/420) برقم (5334، 5335، 5336، 5337). ورواه مسلم (2/1123 ـ 1125) برقم (1486)
وأمَّا الجمهورُ فاستدلوا بعمومِ الأدلةِ الموجبةِ للإحدادِ، وأنها تشملُ الذميةَ، ولا دليلَ على إخراجِها منْ هذهِ العموماتِ، وعللوا قولهمْ بأنَّهُ لا عدةَ إلا بإحدادٍ، والعدةُ ثابتةٌ عليهنَّ، فالإحدادُ ثابتٌ أيضًا، قالَ الشافعيُّ رحمهُ اللهُ: «والحُرةُ والكبيرةُ والمسلمةُ والصغيرةُ والذميةُ والأمةُ المسلمةُ في الإحدادِ كلهنَّ سواءٌ، منْ وجبتْ عليها عدةُ الوفاةِ وجبَ عليها الإحدادُ لا يختلفنَ، ودلتْ سنةُ رسولِ صلى الله عليه وسلم على أنَّ المعتدةَ منَ الوفاةِ تكونُ بإحدادٍ، ألَّا تعتدَّ امرأةٌ بغيرِ إحدادٍ؛ لأنهنَّ إنْ دخلنَ في المخاطباتِ بالعدةِ دخلنَ في المخاطباتِ بالإحدادِ، ولوْ تركتِ امرأةٌ الإحدادَ في عدتها حتى تنقضي، أوْ في بعضِها، كانتْ مسيئةً، ولمْ يكنْ عليها أنْ تستأنفَ إحدادًا؛ لأنَّ موضعَ الإحدادِ في العدةِ، فإذا مضتْ أوْ مضى بعضُها لمْ تعدَّ لما مضى». الأم 5/232. وقالَ ابنُ العربيِّ رحمهُ اللهُ: «لأنَّهُ –أيِ الإحداد– منْ توابعِ العدةِ، فيلزمُها كالسكنِ وعدمِ النكاحِ». عارضة الأحوذي 5/173.
هذا مجملُ ما استدلوا بهِ، وأجابوا عنْ أدلةِ الحنفيةِ ومنْ وافقَهمْ، بأنَّ ذكرَ الإيمانَ باللهِ واليومِ الآخرِ ليسَ لحصرِ الحكمِ في أصحابِ هذا الوصفِ، إنما هوَ لبيانِ أنَّ هذا الحكمَ ألصقُ بمنِ اتصفَ بهذا الوصفِ، لا أنَّهُ خاصٌّ بهِ، قالَ ابنُ عبدِ البرِّ رحمهُ اللهُ: «هذا لا حُجةَ فيهِ –أيْ: دليلُ الحنفيةِ– لأنَّ العلةَ حرمةُ المسلمِ الذي تعتدُّ منْ مائهِ، وجاءَ الحديثُ بذكرِ منْ يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ؛ لأنَّ الخطابَ إلى منْ هذهِ حالتهُ كانَ يتوجَّهُ، فدخلَ المؤمناتُ بالذكرِ، ودخلَ غيرُ المؤمناتِ بالمعنى الذي ذكرْناهُ». عارضة الأحوذي 5/173.
ويحتملُ وجهًا ثانيًا في علةِ ذكرِ الإيمانِ باللهِ واليومِ الآخرِ: أنَّهُ ترغيبٌ في ذلكَ ووعيدٌ لمنْ خالفَهُ، أيْ: أنَّهُ لا يتركُهُ منْ يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ. انظر: المنتقى. فالغرضُ من ذكرِ ذلكَ تأكيدُ التحريمِ: «لما يقتضيهِ سياقُهُ ومفهومُهُ منْ أنَّ خلافَهُ مُنافٍ للإيمانِ باللهِ واليومِ الآخرِ». إحكام الأحكام لابن دقيق العيد (2/196).
الترجيحُ:
الراجحُ في هذهِ المسألةِ ما ذهبَ إليهِ الحنفيةُ ومنْ وافقَهمْ، منْ عدمِ وجوبِ الإحدادِ على الذميةِ؛ لقوةِ ما استدلوا بِهِ، وبقي الجوابُ عما استدلَّ بهِ الجمهورُ، وهوَ كما يلي:
أولًا: قولُكمْ: إنَّ الأدلةَ عامةٌ للذميةِ، ولا دليلَ على إخراجِها منْ هذهِ العموماتِ، فجوابُهُ: أنَّ الأدلةَ قائمةٌ على أنها غيرُ مطالبةٍ بهذا الحكمِ، وإنْ كانتْ مخاطبةً بهِ؛ ذلكَ أنَّ الشارعَ لا يُلزِمُها شرائعَ الإيمانِ إلا بعدَ دخولها فيهِ، فحكمُ الإحدادِ مُعلَّقٌ بوصفٍ وهوَ الإيمانُ باللهِ واليومِ الآخرِ، وهوَ لمْ ينصَّ عليهِ إلا لأنَّ لهُ تأثيرًا في الحكمِ.
قالَ ابنُ القيمِ رحمهُ اللهُ: والتحقيقُ أنَّ نفي حلِّ الفعلِ عنِ المؤمنينَ، لا يقتضي نفي حكمِهِ عنِ الكفارِ، ولا إثباتَهُ لهمْ أيضًا، وإنما يقتضي أنَّ منَ التزمَ الإيمانَ وشرائعَهُ، فهذا لا يحلُّ لَهُ، ويجبُ على كلِّ حالٍ أنْ يلزمَ الإيمانَ وشرائعَهُ، ولكنْ لا يلزمهُ الشارعُ شرائعَ الإيمانِ إلا بعدَ دخولِهِ فيهِ. زاد المعاد 5/698.
ثانيًا: قولهمْ: إنَّهُ لا عدةَ إلا بإحدادٍ، والعدةُ ثابتةٌ عليهنَّ، فالإحدادُ أيضًا ثابتٌ، وهذا غيرُ مسلَّمٍ؛ إذْ إنَّ العدةَ إنما وجبتْ عليها لتعلقِها بحقِّ الزوجِ. قالَ الزيلعيُّ رحمهُ اللهُ في التفريقِ بينَ العدةِ والإحدادِ: «بخلافِ العدةِ فإنها منْ حقوقِ الزوجِ»، تبيين الحقائق 3/36. هذا فضلًا عنْ أنَّ الآيةَ عامةٌ لكلِّ امرأةٍ مُتوفًّى عنها زوجُها، قالَ تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾، [سورة البقرة: الآية 234]. قالَ ابنُ العربيِّ رحمهُ اللهُ: «فحمْلُها على ما وردَ عامًّا إبطالٌ للخصوصِ» عارضة الأحوذي 5/172. ثمَّ إنَّ الإحدادَ منْ خطابِ التكليفِ؛ لأنَّ أحكامَهُ أفعالٌ حسِّيَّةٌ محكومٌ بحُرمتِها، بخلافِ العدَّةِ فإنها منْ ربطِ المسبباتِ بأسبابها، أيْ: إنَّهُ منْ خطابِ الوضعِ. حاشية رد المحتار 3/532.
ثالثًا: قولهمْ: إنَّ الإحدادَ حقُّ الزوجِ، فالجوابُ عنهُ أنْ يقالَ: لا شكَّ أنَّ الإحدادَ فيهِ شائبةُ حقِّ الزوجِ، ولكنَّ صلتَهُ بحقِّ اللهِ تعالى ألصقُ وأكبرُ، ولذلكَ قالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لا يحلُّ لامرأةٍ تؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ أنْ تحدَّ على ميتٍ فوقَ ثلاثٍ، إلا على زوجٍ أربعةَ أشهرٍ وعشرًا» رواه البخاري في كتاب الطلاق، باب: تحد المتوفَّى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرًا (3/420) برقم (5334، 5335، 5336، 5337). ورواه مسلم (2/1123 ـ 1125) برقم (1486) فأبرزَ فيهِ حقَّ اللهِ تعالى. قالَ ابنُ القيمِ رحمهُ اللهُ: «ولهذا لوِ اتفقتْ هي والأولياءُ والمتوفَّى على سقوطِهِ بأنْ أوصاها بتركِهِ، لمْ يسقطْ، ولزمَها الإتيانُ بهِ، فهوَ جارٍ مجرى العباداتِ، وليستِ الذميةُ منْ أهلِها». زاد المعاد 5/699. وقالَ الزيلعيُّ رحمهُ اللهُ في تعليلِ عدمِ وجوبِهِ على الكافرةِ: «أَلَا ترى أنَّهُ صلى الله عليه وسلم شرط أنْ تكونَ مؤمنةً بما رُوينا منَ الخبرِ، ولولا أنَّهُ عبادةٌ لَمَا شرطَ فيهِ الإيمانَ» تبيين الحقائق 3/35. وقدْ تقدمَ الكلامُ على ذلكَ.