المبحثُ الأولُ: حكمُ إحدادِ المرأةِ على زوجِها المتوفَّى عنها
حكى غيرُ واحدٍ منْ أهلِ العلمِ الإجماعَ على أنَّ الإحدادَ واجبٌ على المتوفَّى عنها زوجها منَ المسلماتِ الحرائرِ في عدةِ الوفاةِ، أمَّا الصحابةُ رضي اللهُ عنهمْ فلمْ يعلمْ منهمْ مخالفٌ، وأمَّا منْ بعدهمْ فقدْ نُسِبَ الخلافُ إلى الحسنِ البصريِّ والشعبيِّ، وقدْ ضُعِّفَ ما نسبَ إلى الحسنِ؛ قالَ العينيُّ رحمهُ اللهُ: «لا يصحُّ هذا عنِ الحسنِ، قالهُ ابنُ العربيِّ». عمدة القاري 8/67. وقدِ استنكرَ هذا الشذوذَ جماعةٌ ممنْ حكوهُ، فالواجبُ عدمُ الالتفاتِ إليهِ؛ لعدمِ الدليلِ عليهِ، ولمخالفتِهِ صريحَ السنةِ. قالَ ابنُ المنذرِ رحمهُ اللهُ بعدَ ذكرِهِ أدلةَ الوجوبِ: «وهذا قولُ منْ لقيناهُ وبلغناهُ منْ أهلِ العلمِ إلا الحسنَ البصريَّ، فإنَّهُ انفردَ بهِ عنِ الناسِ فكانَ لا يرى الإحدادَ، والسنةُ مُسْتغنًى بها عنْ قولِ كلِّ أحدٍ». عمدة القاري 8/68. وقالَ ابنُ قدامةَ رحمهُ اللهُ: «ولا نعلمُ بينَ أهلِ العلمِ خلافًا في وجوبِهِ على المتوفَّى عنها زوجها، إلا عنِ الحسنِ فإنَّهُ قالَ: لا يجبُ الإحدادُ، وهوَ قولٌ شذَّ بهِ عنْ أهلِ العلمِ وخالفَ بهِ السنةَ، فلا يعرجُ عليهِ». المغني 11/284. وقالَ الحافظُ ابنُ حجرٍ رحمهُ اللهُ: «ومخالفتُهما –أي: الحسنُ والشعبيُّ– لا تقدحُ في الاحتجاجِ، وإنْ كانَ فيها ردٌّ على منِ ادعى الإجماعَ». فتح الباري 9/486. ولذلكَ حكى أبو محمدٍ بنُ حزمٍ رحمهُ اللهُ عدمَ الاتفاقِ على وجوبِ الإحدادِ، مراتب الإجماع ص 78. ولا شكَّ أنَّ ما قالَهُ منِ انتفاءِ الإجماعِ بورودِ المخالفةِ صوابٌ عندَ جمهورِ العلماءِ، فبقِيَ النظرُ في أدلةِ الفريقينِ لمعرفةِ الراجحِ منَ القولينِ.
أدلةُ القولِ الأولِ:
القولُ الأولُ: هوَ ما ذهبَ إليهِ جماهيرُ العلماءِ منْ وجوبِ الإحدادِ على المتوفَّى عنها زوجها، واستدلوا بأدلةٍ؛ منها:
أولًا: قالَ اللهُ تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾. سورة البقرة: الآية 234. والتربصُ المذكورُ في الآيةِ هوَ التأني والتصبرُ عنِ النكاحِ كما قالَ القرطبيُّ رحمهُ اللهُ. الجامع لأحكام القرآن 3/176. وقالَ ابنُ العربيِّ رحمهُ اللهُ: «هوَ الانتظارُ». أحكام القرآن 1/208. وقالَ الحافظُ ابنُ كثيرٍ رحمهُ اللهُ: «هذا أمرٌ منَ اللهِ للنساءِ اللاتي يتوفى عنهنَّ أزواجهنَّ أنْ يعتددنَ أربعةَ أشهرٍ وعشرَ ليالٍ». تفسير القرآن العظيم 1/419. وعندَ النظرِ في معنى كلمةِ التربصِ، نعلمُ أنها بمجردها لا تفيدُ إلا الانتظارَ، ولكنَّ السنةَ الشريفةَ بيَّنتْ جميعَ ما يتعلقُ بهذا التربصِ منْ أحكامٍ، قالَ القرطبيُّ رحمهُ اللهُ: «والأحاديثُ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم متظاهرةٌ بأنَّ التربصَ في الوفاةِ إنما هوَ بإحدادٍ، وهوَ الامتناعُ عنِ الزينةِ ولبسِ المصبوغِ الجميلِ والطِّيبِ ونحوِه، وهذا قولُ جمهورِ العلماءِ»، وإلا فالآيةُ دلتْ على وجوبِ العدةِ فقطْ، وهي تجب بدونِ إحدادٍ كما في الرجعيةِ إجماعًا، ولذا قالَ ابنُ المنذرِ رحمهُ اللهُ بعدَ الآيةِ: «فثبتتِ العدةُ على المتوفَّى عنها بظاهرِ كتابِ اللهِ عزَّ وجلَ، ووجبَ الإحدادُ عليها بخبرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم». الإشراف على مذاهب العلماء ص 294. ومما يجدرُ التنبهُ لهُ أنَّ أكثرَ العلماءِ لمْ يذكروا الآيةَ في أدلةِ وجوبِ الإحدادِ على المتوفَّى عنها زوجُها.
ثانيًا: حديثُ زينبَ بنتِ جحشٍ وأمِّ حبيبةَ رضي اللهُ عنهما، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: «لا يحلُّ لامرأةٍ تؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ أنْ تحدَّ على ميتٍ فوقَ ثلاثِ ليالٍ إلا على زوجٍ أربعةَ أشهرٍ وعشرًا». رواهُ الشيخانِ. رواه البخاري في كتاب الطلاق، باب: تحد المتوفَّى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرًا (3/420) برقم (5334، 5335، 5336، 5337). ورواه مسلم (2/1123 ـ 1125) برقم (1486) والحديثُ ظاهرٌ في المنعِ منَ الإحدادِ على كلِّ أحدٍ فوقَ ثلاثٍ إلا على الزوجِ، فإنَّهُ يُحَدُّ عليهِ أربعةَ أشهرٍ وعشرًا، ولمْ تتعرضْ هذهِ الروايةُ إلى حكمهِ، بلْ غايةُ ما هنالكَ أنها بيَّنتْ حِلَّهُ وإباحتَهُ. ولكنَّ روايةَ حفصةَ رضي اللهُ عنها بيَّنتْ أنَّ ذلكَ على سبيلِ الوجوبِ؛ ففي صحيحِ مسلمٍ عنْ حفصةَ رضي اللهُ عنها، قالتْ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لا يحلُّ لامرأةٍ تؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ أنْ تحدَّ على ميتٍ فوقَ ثلاثةِ أيامٍ، إلا على زوجِها فإنها تحدُّ عليهِ أربعةَ أشهرٍ وعشرًا». رواه مسلم (2/1127) برقم (1490) فقولُهُ صلى الله عليه وسلم: «فإنها تحدُّ عليهِ أربعةَ أشهرٍ وعشرًا» خبرٌ بمعنى الأمرِ. قالَ الحافظُ ابنُ حجرٍ رحمهُ اللهُ مُعلِّقًا على الحديثِ: قولُهُ: «لا يحلُّ» استدلَّ بهِ على تحريمِ الإحدادِ على غيرِ الزوجِ، وهوَ واضحٌ، وعلى وجوبِ الإحدادِ المدةَ المذكورةَ على الزوجِ، واستشكلَ بأنَّ الاستثناءَ وقعَ بعدَ النفيِّ فيدلُّ على الحلِّ فوقَ الثلاثِ على الزوجِ لا على الوجوبِ، وأجيبَ بأنَّ الوجوبَ استفيدَ منْ دليلٍ آخرَ كالإجماعِ فتح الباري 9/ (485 – 486). وهوَ رحمهُ اللهُ يشيرُ بقولِهِ: «كالإجماعِ» إلى ما نقلهُ الإمامُ النوويُّ رحمهُ اللهُ عنِ القاضي، حيثُ قالَ: «واستفيدَ وجوبُ الإحدادِ في المتوفَّى عنها منَ اتفاقِ العلماءِ على حملِ الحديثِ على ذلكَ، معَ أنَّهُ ليسَ في لفظهِ ما يدلُّ على الوجوبِ». شرح مسلم للنووي 10/112. وأجابَ الحافظُ ابنُ حجرٍ رحمهُ اللهُ عنْ عدمِ دلالةِ الحديثِ على الوجوبِ، فقالَ: «وأجيبَ بأنَّ السياقَ يدلُّ على الوجوبِ؛ فإنَّ كلَّ ما منعَ منهُ إذا دلَّ دليلٌ على جوازهِ، كانَ ذلكَ الدليلُ دالًّا بعينهِ على الوجوبِ، كالختانِ والزيادةِ على الركوعِ في الكسوفِ ونحوِ ذلكَ». فتح الباري 9/486.
ويمكنُ أنْ يعترضَ على جوابِهِ رحمهُ اللهُ بأنَّهُ لا يلزمُ منْ ورودِ دليلِ الإباحةِ لشيءٍ مُنِعَ أنْ يكونَ ذلكَ دالًّا على الوجوبِ. قالَ شيخنا العلامةُ محمدُ بنُ صالحٍ العثيمينُ رحمهُ اللهُ عندَ مراجعتي لهُ في كلامِ الحافظِ رحمهُ اللهُ: في هذهِ القاعدةِ نظرٌ؛ إذْ يلزمُ منهُ أنَّ كلَّ مُستثنى منْ مُحرَّمٍ فإنَّ الاستثناءَ يدلُّ على وجوبِهِ، وهذا غيرُ مطردٍ. ثمَّ أقولُ: إنَّهُ عندَ التأملِ في الأمثلةِ التي ساقها رحمهُ اللهُ نجدُ أنها لا تسلمُ منْ معارضٍ؛ فإنَّ الختانَ ذهبَ أكثرُ أهلِ العلمِ إلى عدمِ وجوبهِ، انظر: فتح الباري 10/341. كما أنَّ زيادةَ الركوعِ في صلاةِ الكسوفِ سُنةٌ عندَ جماعةٍ منْ أهلِ العلمِ، قالَ البهوتيُّ رحمهُ اللهُ في زيادةِ ركوعِ صلاةِ الكسوفِ: وما بعدَ الأولِ سنةٌ لا تدركُ بهِ الركعةُ. الروض المربع ص 127. ومما يقوي دلالةَ الحديثِ على وجوبِ إحدادِ المتوفَّى عنها زوجُها روايةُ أمِّ عطيةَ رضي اللهُ عنها قالتْ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لا تحدُّ امرأةٌ على ميتٍ فوقَ ثلاثٍ إلا على زوجٍ أربعةَ أشهرٍ وعشرًا، ولا تلبسُ ثوبًا مصبوغًا إلا ثوبَ عصبٍ، ولا تكتحلُ، ولا تمسُّ طيبًا إلا إذا طهرتْ نبذةً منْ قسطٍ أوْ أظفارٍ». متفقٌ عليهِ واللفظُ لمسلمٍ. رواه البخاري في كتاب الطلاق، باب: القسط للحادة عند الطهر (3/421) برقم (5341)، ورواه مسلم برقم (938). فإنَّهُ بعدَ ذكرِ مدةِ إحدادِ المرأةِ على زوجِها المتوفَّى عنها، عقبهُ بأحكامٍ متعلقةٍ بِهِ، فيها نهي المعتدةِ عنْ أشياءَ منَ الزينةِ مباحةٍ في الأصلِ، فدلَّ منْعُها منها مدةَ الإحدادِ على وُجوبهِ عليها؛ إذْ لوْ كانَ الأمرُ مباحًا فقطْ، لمْ يلزمها الامتناعُ عنِ المذكوراتِ. قالَ النوويُّ رحمهُ اللهُ مشيرًا إلى هذا: ولكنِ اتفقوا على حملهِ -أيْ: حديثنا هذا- على الوجوبِ معَ قولهِ صلى الله عليه وسلم في الحديثِ الآخرِ حديثِ أمِّ سلمةَ، وحديثِ أمِّ عطيةَ في الكحلِ والطِّيبِ، ومنعها منهُ، واللهُ أعلمُ. شرح مسلم للنووي 10/112.
ثالثًا: حديثُ أمِّ سلمةَ رضي اللهُ عنها، قالتْ: جاءتِ امرأةٌ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقالتْ: يا رسولَ اللهِ ابنتي توفي زوجُها وقدِ اشتكتْ عينها، أفتكحلُها؟ فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لا» مرتينِ أوْ ثلاثًا، كلُّ ذلكَ يقولُ: «لا»، ثمَّ قالَ صلى الله عليه وسلم: «إنما هي أربعةُ أشهرٍ وعشرٌ، وقدْ كانتْ إحداكنَّ في الجاهليةِ ترمي البعرةَ على رأسِ الحولِ». رواهُ البخاريُّ ومسلمٌ. رواه البخاري في كتاب الطلاق، باب: تحد المتوفَّى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرًا (3/420) برقم (5334، 5335، 5336، 5337). ورواه مسلم (2/1123 ـ 1125) برقم (1486) وقدِ استدلَّ النوويُّ رحمهُ اللهُ بهذا الحديثِ على وجوبِ الإحدادِ في عدةِ الوفاةِ، ويندرجُ تحتَ هذا الدليلِ كلُّ الأدلةِ الأخرى، والتي فيها منعُ المتوفَّى عنها زوجُها منْ أشياءَ مباحةٍ لها مدةَ العدةِ، كحديثِ أمِّ عطيةَ المتقدمِ قريبًا، وحديثِ أمِّ سلمةَ رضي اللهُ عنها: أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: «المتوفَّى عنها زوجُها لا تلبسُ المعصفرَ منَ الثيابِ ولا الممشقةَ ولا الحلي، ولا تختصبُ، ولا تكتحلُ». رواهُ أحمدُ وأبو داودَ والنسائيُّ. رواه الإمام أحمد (6/302)، وأبو داود (2/292) واللفظ لهما، ورواه النسائي (6/203 ) برقم (3535) دون قوله: «ولا الحلي»، وقد ضعف ابن حزم الحديث؛ فقال في المحلى (10/277): «ولا يصح؛ لأن إبراهيم بن طهمان ضعيف». وقد استنكر ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد (5/708 -709) تضعيف الحديث بإبراهيم؛ فقال: «ولا يحفظ عن أحد من المحدثين قط تعليل حديث رواه ولا تضعيفه». وهذا الإطلاق من العلامة ابن القيم في نفي عدم تعليل وتضعيف المحدثين ما رواه ابن طهمان يحتاج إلى تأمل وتحرير؛ فقد قال ابن حبان: قد تفرد عن الثقات بأشياء معضلات، كما نقله الألباني في «تحذير الساجد»، بل قال فيه ابنُ عمار الموصلي: ضعيف الحديث مضطرب الحديث، فإطلاق ضعف حديثه وإن كان فيه نظر، إلا أنه كما قال الحافظ في التقريب: ثقة يغرب – وهو الذي تفرد بحديث: «إن في مسجد الخيف قبر سبعين نبيًّا». ا هـ «تحذير الساجد».
هذا مجملُ ما استدلَّ بهِ جمهورُ العلماءِ على وجوبِ إحدادِ المتوفَّى عنها زوجُها، واللهُ أعلمُ.
أدلةُ القولِ الثاني:
ويُمكِنُ أنْ يُستدَلَّ للقائلينَ بعدمِ وجوبِ الإحدادِ على المتوفَّى عنها زوجُها بدليلينِ:
أولًا: حديثُ أسماءَ بنتِ عميسٍ رضي اللهُ عنها، قالتْ: لما أصيبَ جعفرٌ أمرني رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقالَ: «تسلَّبي ثلاثًا، ثمَّ اصنعي ما شئتِ». أخرجهُ أحمدُ وابنُ حبانَ والطبرانيُّ والبيهقيُّ والطحاويُّ، ولفظُ أحمدَ: دخلَ عليَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم اليومَ الثالثَ منْ قتلِ جعفرٍ، فقالَ: «لا تحدِّي بعدَ يومكِ هذا». رواه الإمام أحمد (6/369، 438)،، ورواه ابن حبان (الإحسان) واللفظ له (7/418)، برقم (3148)، والبيهقي (7/438)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (3/75)، والطبراني في الكبير (24/193) برقم (369)، بلفظ: «تسكني ثلاثًا». وقد ذكر أهل العلم لهذا الحديث علتين: هما الشذوذ والانقطاع.
قالَ ابنُ القيمِ رحمهُ اللهُ في بيانِ وجهِ استدلالهمْ بهذا الحديثِ: «قالوا: وهذا ناسخٌ لأحاديثِ الإحدادِ؛ لأنهُ بعدَها، فإنَّ أمَّ سلمةَ رضي اللهُ عنها روتْ حديثَ الإحدادِ، وأنَّهُ صلى الله عليه وسلم أمرها بهِ إثرَ موتِ أبي سلمةَ، ولا خلافَ في أنَّ موتَ أبي سلمةَ كانَ قبلَ موتِ جعفرٍ رضي اللهُ عنهما». زاد المعاد 5/697.
ثانيًا: ما رواهُ ابنُ عمرَ، عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنهُ قالَ: «لا إحدادَ فوقَ ثلاثٍ». روى العقيلي في الضعفاء (2/78) قال: حدثني الخضر بن داود، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن هانئ، قال: قلت لأبي عبد الله: تحفظ عن حنظلة، عن سالم، عن ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تحل الحدود فوق ثلاث», يعني: الإحداد؟ فعجب منه, وقال: هذا حديث منكر، ثم قال: من غير حنظلة؟ قلت: حميد بن الأسود، قال: كان عفان يحمل على هذا الشيخ، وكان عبد الرحمن ختنه.
وأجابَ الجمهورُ -رحمهمُ اللهُ- عما استدلَّ بِهِ أصحابُ هذا القولِ بما يلي:
أولًا: الجوابُ على حديثِ أسماءَ رضي اللهُ عنها
أجابَ العلماءُ عنْ حديثِ أسماءَ بأربعةِ أجوبةٍ:
الأولُ: أنَّ الحديثَ شاذٌّ، وبهذا قالَ أحمدُ وإسحاقُ -رحمهما اللهُ- الجامع لأحكام القرآن 2/180. وأشارَ إلى هذهِ العلةِ البيهقيُّ رحمهُ اللهُ، فقالَ: والأحاديثُ قبلهُ أثبتُ، والمصيرُ إليها أولى، وباللهِ التوفيقُ. السنن الكبرى للبيهقي 7/438. وقالَ في معرفةِ السننِ والآثارِ: «والحديثُ في إحدادِها ثابتٌ، فالمصيرُ إليهِ أولى، وباللهِ التوفيقُ». معرفة السنن والآثار 11/222. وحكى الحافظُ ابنُ حجرٍ رحمهُ اللهُ عنْ شيخِهِ العراقيِّ القولَ بشذوذِهِ، قالَ رحمهُ اللهُ: «وأجابَ –يعني شيخهُ– بأنَّ هذا الحديثَ شاذٌّ مُخالفٌ للأحاديثِ الصحيحةِ، وأجمعوا على خلافِهِ». فتح الباري 9/487. وقالَ ابنُ القيمِ رحمهُ اللهُ عنْ روايةٍ منْ رواياتِ حديثِ أسماءَ رضي اللهُ عنها: «وفي الحديثِ الثاني حجاجُ بنُ أرطأةَ، ولا يُعارَضُ بحديثهِ حديثُ الأئمةِ الأثباتِ الذينَ همْ فرسانُ الحديثِ». زاد المعاد 5/697.
الثاني: أنَّ الحديثَ منقطعُ الإسنادِ؛ قالَ البيهقيُّ رحمهُ اللهُ: «فلمْ يثبتْ سماعُ عبدِ اللهِ منْ أسماءَ، وقدْ قيلَ فيهِ: عنْ أسماءَ، فهوَ مرسلٌ». السنن الكبرى للبيهقي 7/438. وقدْ قالَ أبو محمد ابنُ حزمٍ رحمهُ اللهُ: «هذا منقطعٌ لا حُجَّةَ فيهِ؛ لأنَّ عبدَ اللهِ بنَ شدادٍ لمْ يسمعْ مِنْ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم شيئًا». المحلى 10/280. وقدْ أجابَ عنْ هذهِ العلةِ الحافظُ ابنُ حجرٍ رحمهُ اللهُ، فقالَ: «وهذا تعليلٌ مدفوعٌ؛ فقدْ صححَهُ أحمدُ، ولكنَّهُ قالَ: إنَّهُ مخالفٌ للأحاديثِ الصحيحةِ في الإحدادِ، قلتُ: وهوَ مصيرٌ منهُ إلى أنَّهُ يعلهُ بالشذوذِ». فتح الباري 9/487. وأعلَّهُ البيهقيُّ أيضًا بأنَّ فيهِ محمدَ بنَ طلحةَ ليسَ بالقويِّ. السنن الكبرى للبيهقي 7/438. قالَ الألبانيُّ رحمهُ اللهُ مُعلِّقًا على كلامِ البيهقيِّ رحمهُ اللهُ: «ورجالُ أحمدَ رجالُ الصحيحِ». مجمع الزوائد 3/17.
الثالثُ: أنَّ الحديثَ منسوخٌ، قالَ الطحاويُّ رحمهُ اللهُ في كلامِهِ على حديثِ أسماءَ: ففي هذا الحديثِ أنَّ الإحدادَ لمْ يكنْ على المعتدةِ في كلِّ عدتها، وإنما في وقتٍ منها، ثمَّ نسخَ ذلكَ، وأمرتْ بأنْ تحدَّ عليهِ أربعةَ أشهرٍ وعشرًا، شرح معاني الآثار 2/75. وساقَ بعدَ هذا الكلامِ الأحاديثَ التي زعمَ أنها الناسخةُ. وقالَ الحافظُ ابنُ حجرٍ رحمهُ اللهُ: «وليسَ فيها ما يدلُّ على النسخِ، لكنَّهُ يكثرُ منِ ادعاءِ النسخِ بالاحتمالِ، فجرى على عادتِهِ». فتح الباري 9/487.
الرابعُ: أنْ يكونَ الإحدادُ الذي فعلتْهُ أسماءُ قدْرًا زائدًا على الإحدادِ المعروفِ، مبالغةً في حُزنها على جعفرٍ، فنهاها عنْ ذلكَ بعدَ الثلاثِ.
ثانيها: أنها كانتْ حاملًا، فأُطلعَ صلى الله عليه وسلم أنَّ عدتها تنتهي بعدَ الثلاثِ بالوضعِ، فنهاها بعدَها عنِ الإحدادِ.
ثالثها: لعلَّهُ كانَ أبانها بالطلاقِ قبلَ استشهادِهِ، فلمْ يكنْ عليها إحدادٌ. فتح الباري 9/487.
ولا تخلو هذهِ الأجوبةُ منْ نقاشٍ، وأصحُّ ما أجابَ بهِ العلماءُ على هذا الحديثِ القولُ بشذوذِهِ، كما قالَ أحمدُ وإسحاقُ والبيهقيُّ رحمهمُ اللهُ تعالى.
ثانيًا: الجوابُ على حديثِ ابنِ عمرَ:
أجابَ الإمامُ أحمدُ لما سئلَ عنْ هذا الحديثِ، فقالَ: «هذا منكرٌ، والمعروفُ عنِ ابنِ عمرَ منْ رأيهِ». فتح الباري 9/487. وقالَ الحافظُ ابنُ حجرٍ رحمهُ اللهُ: «وهذا –أيْ: حديثُ ابنِ عمرَ– يحتملُ أنْ يكونَ لغيرِ المعتدةِ، فلا نكارةَ فيهِ، بخلافِ حديثِ أسماءَ واللهُ أعلمُ». فتح الباري 9/487.
والراجحُ ما ذهبَ إليهِ عامةُ أهلِ العلمِ، وهوَ الموافقُ للنصوصِ، وأنَّهُ ليسَ معَ المخالفِ ما يقاومُ أدلةَ الجمهورِ، واللهُ أعلمُ.