المبحثُ الثالثُ: الحكمةُ منَ الإحدادِ
إنَّ مما يحسنُ التنبيهُ إليهِ عندَ الكلامِ على حكمِ العباداتِ الحكمةَ العامةَ للتشريعِ؛ لما في ذلكَ منْ إزالةِ التكلفِ في بحثِ ما خَفِيَتْ حكمتُهُ ولمْ تظهرْ لأهلِ العلمِ علَّتُهُ؛ إذِ الحكمةُ العامةُ كافيةٌ شافيةٌ وتوجدُ في كلِّ التشريعاتِ، وهي:
أولًا: اختبارُ مدى رضا العبدِ وانقيادِهِ وتسليمِهِ لما أمرَ اللهُ تعالى واجتنابِهِ ما نهى عنهُ وزجرَ.
ثانيًا: توفيرُ المنحِ الربانيةِ للعبدِ المسلمِ في جلبِ الأجرِ والثوابِ، وتكثيرِهِ وتنميتِهِ، وتقليلِ المعاصي والذنوبِ؛ قالَ اللهُ تعالى: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾ [سورة هود: الآية 114]. ومعَ ذلكَ فقدْ تلمسَ أهلُ العلمِ -رحمَهمُ اللهُ- عددًا منَ الحكمِ الخاصةِ بالإحدادِ وأسرارِ تشريعِهِ، ويمكنُ تلخيصُها بالآتي:
أولًا: تعظيمُ قدْرِ عقدِ النكاحِ وبيانُ خطرِهِ.
ثانيًا: تعظيمُ حقِّ الزوجِ وحفظُ عشرتِهِ.
ثالثًا: تطييبُ نفسِ أقاربِ الزوجِ ومراعاةُ شعورهمْ.
رابعًا: سدُّ ذريعةِ تطلعِ المرأةِ للنكاحِ أوْ تطلعِ الرجالِ إليها.
خامسًا: الإحدادُ منْ مكملاتِ العدةِ ومقتضياتها.
سادسًا: تأسفٌ على فواتِ نعمةِ النكاحِ الجامعةِ بينَ خيري الدنيا والآخرةِ؛ حيثُ إنَّهُ سببٌ منْ أسبابِ النجاةِ في الحالِ والمآلِ.
سابعًا: موافقةُ الطباعِ البشريةِ، فإنَّ النفسَ تتفاعلُ معَ المصائبِ والنوائبِ، فأباحَ اللهُ لها حدًّا تستطيعُ منْ خلالِهِ التعبيرَ عنْ مشاعرِ الحزنِ والألمِ بالمصابِ، معَ الرضا التامِّ بما قضى اللهُ تعالى وقدَّرَ.
وقدْ جلَّى هذهِ الحكمَ العلماءُ -رحمَهمُ اللهُ- في كلامِهمْ؛ فقالَ ابنُ القيمِ رحمهُ اللهُ: «هذا –أي: الإحدادُ– منْ تمامِ محاسنِ الشريعةِ وحكمتِها ورعايتِها لمصالحِ العبادِ على أكملِ الوجوهِ؛ فإنَّ الإحدادَ على الميتِ منْ تعظيمِ مصيبةِ الموتِ، كانَ أهلُ الجاهليةِ يبالغونَ فيها أعظمَ مبالغةٍ، ويضيفونَ إلى ذلكَ شَقَّ الجيوبِ، ولطْمَ الخدودِ، وحلْقَ الشعورِ، والدعاءَ بالويلِ والثبورِ، وتمكثُ المرأةُ سنةً في أضيقِ بيتٍ وأوحشهِ لا تمسُّ طيبًا ولا تدهنُ ولا تغتسلُ، إلى غيرِ ذلكَ مما هوَ تسخطٌ على الربِّ تعالى وأقدارِهِ، فأبطلَ اللهُ -سبحانَهُ وتعالى- برحمتِهِ ورأفتهِ سُنَّةَ الجاهليةِ، وأبدلنا بها الصبرَ والحمدَ والاسترجاعَ الذي هوَ أنفعُ للمصابِ في عاجلتِهِ وآجلتهِ، ولما كانتْ مصيبةُ الموتِ لا بدَّ أنْ تحدثَ للمصابِ منَ الجزعِ والألمِ والحزنِ ما تتقاضاهُ الطباعُ، سمحَ لها الحكيمُ الخبيرُ في اليسيرِ منْ ذلكَ، ثمَّ قالَ: «فإنَّ فطامَ النفوسِ عنْ مألوفِها بالكليةِ منْ أشقِّ الأمورِ عليها، فأعطيتْ بعضَ الشيءِ؛ ليسهلَ عليها تركُ الباقي، فإنَّ النفوسَ إجابتها إليهِ أقربُ منْ إجابتِها لوْ حُرِمَتْ بالكُلِّيةِ». إعلام الموقعين 2/146 – 147. وقالَ أيضًا رحمهُ اللهُ: «والمقصودُ أنَّهُ للنساءِ؛ لضعفِ عقولهنَّ وقلةِ صبرهنَّ الإحداد على موتاهنَّ ثلاثةَ أيامٍ». إعلام الموقعين 2/148. وقالَ الحافظُ ابنُ حجرٍ رحمهُ اللهُ في علةِ إباحةِ الإحدادِ على القريبِ: «وكأنَ هذا القدرَ أبيحَ لأجلِ حظِّ النفسِ ومراعاتها، وغلبةِ الطباعِ البشريةِ». فتح الباري 9/477. قالَ ابنُ القيمِ رحمهُ اللهُ أيضًا: «وأمَّا الإحدادُ على الزوجِ فإنَّهُ تابعٌ للعدةِ، وهوَ منْ مقتضياتها ومُكمِّلاتها؛ فإنَّ المرأةَ إنما تحتاجُ إلى التزينِ والتجملِ والتعطرِ لتتحببَ إلى زوجها وتردَّ لها نفسهُ ويحسنَ ما بينهما منَ العشرةِ، فإنْ ماتَ الزوجُ واعتدتْ منهُ، وهيَ لمْ تصلْ إلى زوجٍ آخرَ، فاقتضى تمامُ حقِّ الأولِ وتأكيدُ المنعِ منَ الثاني قبلَ بلوغِ الكتابِ أجلَهُ أنْ تمنعَ مما تضعُهُ النساءُ لأزواجهنَّ، معَ ما في ذلكَ منْ سدِّ الذريعةِ إلى طمعِها في الرجالِ وطمعهمْ فيها بالزينةِ والخضابِ والتطيبِ، فإذا بلغَ الكتابُ أجلَهُ صارتْ محتاجةً إلى ما يرغبُ في نكاحِها، فأُبِيحَ لها منْ ذلكَ ما يباحُ لذاتِ الزوجِ، فلا شيءَ أبلغُ منْ هذا المنعِ والإباحةِ، ولوِ اقترحتْ عقولُ العالمينَ لمْ تقترحْ شيئًا أحسنَ منهُ». إعلام الموقعين 2/148. وقالَ أيضًا: ومما ذكرَ منْ حكمِ الإحدادِ إظهارُ التأسفِ على فواتِ نعمةِ النكاحِ التي هي منَ النعمِ الدينيةِ والدنيويةِ؛ إذْ إنها منْ أسبابِ النجاةِ في الحالِ والمآلِ. فتح الباري 4/338.