المبحثُ الثاني: أقسامُ الإحدادِ الحكميةُ
ينقسمُ الإحدادُ منْ حيثُ حكمُه الشرعيُّ إلى قسمينِ:
القسمُ الأولُ: الإحدادُ الشرعيُّ
وهوَ ما كانَ وفقَ أمرِ اللهِ ورسولِهِ، وهوَ نوعانِ:
النوعُ الأولُ: إحدادُ المرأةِ على زوجِها المتوفَّى عنها.
النوعُ الثاني: إحدادُ المرأةِ على غيرِ زوجها.
وسيأتي بسطٌ وتفصيلٌ لأحكامِ كلٍّ منَ النوعينِ وأدلتهِ في فصلِ أحكامِ الإحدادِ إنْ شاءَ اللهُ تعالى.
القسمُ الثاني: الإحدادُ الجاهليُّ
وهوَ ما لمْ يكنْ على أمرِ اللهِ ورسولِهِ، وهوَ نوعانِ:
النوعُ الأولُ: الإحدادُ الجاهليُّ القديمُ
إنَّ الناظرَ في أحوالِ المرأةِ قبلَ الإسلامِ ليوقنُ إيقانًا لا يخالطهُ ريبٌ أنها كانتْ تعاني ألوانًا عديدةً منَ الظلمِ والحيفِ والجورِ، ومنَ الصورِ التي يتجلى فيها العدوانُ على المرأةِ والظلمُ لها في تلكَ العصورِ المظلمةِ، ولهُ صلةٌ بموضوعنا، هوَ طريقةُ إحدادِ المرأةِ على زوجِها إذا توفي عنها، فقدْ نقلتْ لنا دواوينُ السنةِ وكتبُ الآثارِ تلكَ الصورةَ البشعةَ التي كانَ يمارسُها المجتمعُ الجاهليُّ على المرأةِ؛ فالمرأةُ في الجاهليةِ إذا توفي عنها زوجُها عمدتْ إلى شرِّ بيتها فلبثتْ فيهِ حولًا، ولبستْ أطمارَ ثيابها، فلا تغتسلُ ولا تتنظفُ، ولا ترى شمسًا ولا ريحًا، حتى إذا حالَ عليها الحولُ خرجتْ بأقبحِ منظرٍ وأفظعِ مرأى، فتؤتى بدابةٍ –حمارٍ، أوْ شاةٍ، أوْ طائرٍ– فتمسحُ بهِ جلدها، فلا يكادُ يعيشُ بعدما تتمسحُ بهِ مما يجدُ منْ أوساخِها وروائحِها، وقدْ ذكرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعضَ النساءِ لما أرادتْ أنْ تترخصَ لابنتها في الكحلِ، فقالَ صلى الله عليه وسلم: «إنما هي أربعةُ أشهرٍ وعشرٌ، وقدْ كانتْ إحداكنَّ في الجاهليةِ ترمي بالبعرةِ على رأسِ الحولِ». وقدْ سئلتْ زينبُ -راويةُ الحديثِ- عنْ أمِّ سلمةَ رضي اللهُ عنها: وما ترمي بالبعرةِ على رأسِ الحولِ؟ فقالتْ: كانتِ المرأةُ إذا توفي عنها زوجها دخلتْ حشفًا ولبستْ شرَّ ثيابها، ولمْ تمسَّ طيبًا حتى تمرَّ السنةُ، ثمَّ تؤتى بدابةٍ –حمارٍ، أوْ شاةٍ، أوْ طائرٍ– فتفتضُ بهِ، فقلما تفتضُّ بشيءٍ إلا ماتَ، ثمَّ تخرجُ فتعطى بعرةً فترمي بها، ثمَّ تراجعُ بعدُ ما شاءتْ منْ طيبٍ أوْ غيرِهِ. رواه البخاري كتاب الطلاق، باب: تحد المتوفَّى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرًا (3/420) برقم (5334، 5335، 5336، 5337). ورواه مسلم (2/1123 ـ 1125) برقم (1486)
النوعُ الثاني: الإحدادُ الجاهليُّ الحديثُ
وَصْفُ الشيءِ بأنَّهُ جاهليُّ ليسَ وقفًا على زمانٍ أوْ مكانٍ معينينِ، بلْ هوَ وصفٌ متى ما بدتْ معالمهُ وقامتْ رسومهُ ثبتَ حكمُهُ، فهوَ يخترقُ حدودَ الزمانِ والمكانِ، فلا غرابةَ أنْ نطلقَ في هذا الزمانِ المتطورِ المستنيرِ بالعلومِ الماديةِ على كلِّ ما خالفَ الهدي الربانيَّ بأنهُ جاهليٌّ؛ إذِ الجاهليةُ متضمنةٌ لعدمِ العلمِ أوْ لعدمِ العملِ بهِ كما قالَ شيخُ الإسلامِ رحمهُ اللهُ الفتاوى 7/ 540، وللشيخ كلام طويل في بيان معنى الجاهلية في اقتضاء الصراط المستقيم 1/223 – 227. وقالَ الأستاذُ محمدٌ قطبٌ: «ليستِ الجاهليةُ صورةً معينةً محدودةً كما يتصورها الطيبونَ الذينَ يرونَ أنها فترةٌ تاريخيةٌ مضتْ إلى غيرِ رجوعٍ، إنما هي جوهرٌ معينٌ، يمكنُ أنْ يتخذَ صورًا شتى بحسبِ البيئةِ والظروفِ والزمانِ، فتتشابهُ كلُّها في أنها جاهليةٌ، وإنِ اختلفتْ مظاهرُها كلَّ الاختلافِ». وقالَ أيضًا: «إنما الجاهليةُ –كما عناها القرآنُ وحددَها– حالةٌ نفسيةٌ ترفضُ الاهتداءَ بهدي اللهِ، ووضعٌ تنظيميٌّ يرفضُ الحكمَ بما أنزلَ اللهُ ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾. [سورة المائدة: الآية 50]. "جاهلية القرن العشرين" ص (6 – 7).
ولما كانَ مصدرُ التشريعِ الجاهليِّ هوَ الهوى والشيطانُ لا هدى الرحمنِ، ظهرَ التخبطُ والاضطرابُ في التشريعاتِ والأحكامِ الجاهليةِ، وفي موضوعنا بالخصوصِ: ظهرَ هذا الاضطرابُ جليًّا؛ ففي الوقتِ الذي يحرقُ فيهِ بعضُ أصحابِ الدياناتِ المرأةَ بعدَ موتِ زوجها، كما هو الحالُ عندَ البوذيينَ والهنادكةِ، يفترشُ المرأةَ عشيقُها ليلةَ وفاةِ زوجها في المجتمعاتِ الغربيةِ والانحلاليةِ الإباحيةِ، هذهِ صورةٌ منْ صورِ الحياةِ الجاهليةِ في هذا العصرِ المفتونِ.
ومنْ صورِ الإحدادِ الجاهليِّ المعاصرِ الإحدادُ العامُّ في الدولِ لموتِ رئيسٍ أوْ عظيمٍ أوْ حلولِ مصابٍ عامٍ، ومنْ مظاهرِ هذا الإحدادِ إيقافُ الأعمالِ وتنكيسُ الأعلامِ قال شيخنا بكر بن عبد الله أبو زيد -رحمه الله-: «تنكيسها يعني: تنزيل العلم عن مستواه في الارتفاع». وتغييرُ برامجِ الإعلامِ بما يناسبُ المقامَ منْ ثناءٍ على الميتِ وذكرِ أعمالهِ، وغيرِ ذلكَ مما يندرجُ تحتَ تقديسِ الأشخاصِ وتعظيمهمْ، ولا يشكُّ عالمٌ بقواعدِ الشريعةِ ونصوصِها، عارفٌ بسيرةِ أهلِ القرونِ الفاضلةِ، أنَّ هذا الفعلَ ليسَ مما يَجِيءُ بمثلهِ الشرعُ الحنيفُ، ولا فعَلَهُ السلفُ الصالحُ مع كثرةِ منْ فقدوا -رحمهمُ اللهُ- منَ العظماءِ والأكابرِ، فهؤلاءِ الصحابةُ خيرُ القرونِ رضي اللهُ عنهمْ بما فيهمْ خيرُ الخلقِ وسيدُ البشرِ وخليلُ الرحمنِ صلى الله عليه وسلم، لمْ يفعلوا ما فعلَهُ المتأخرونَ مع منْ يعظمونهمْ، فدلَّ ذلكَ على عدمِ مشروعيتِهِ؛ إذْ لوْ كانَ مشروعًا لفعلوهُ، وقدْ تقدمَ أنَّ الإحدادَ مما اختصتْ بهِ النساءُ دونَ الرجالِ، وهي إنما تحدُّ على زوجِها المتوفَّى عنها أربعةَ أشهرٍ وعشرًا، أوْ على غيرِهِ ثلاثةَ أيامٍ، أمَّا ما سوى ذلكَ فهوَ منَ الإحدادِ الممنوعِ.
ولا شكَّ أنَّ تعطيلَ أعمالِ الناسِ لأجلِ موتِ أحدِهمْ فيهِ إفسادٌ لمصالحِ الأحياءِ، وإهدارٌ لطاقاتهمْ، وربطِهمْ بالموتى، وكأنَّ الإحدادَ المبتدعَ مما أخذهُ بعضُ المسلمينَ عنِ الكفارِ، ومعلومٌ منْ نصوصِ الكتابِ والسنةِ أنَّ التشبهَ بهمْ ممنوعٌ، قالَ اللهُ تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾، [سورة المائدة: الآية 51]. والتشبهُ بهمْ منْ موالاتهمْ، وقدْ نهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عنْ ذلكَ، فقالَ: «ومنْ تشبهَ بقومٍ فهوَ منهمْ». رواهُ أحمدُ وأبو داودَ. أحمد 2/50، أبو داود 4/314، وقد حسن إسناده شيخ الإسلام في اقتضاء الصراط المستقيم 1/236. وقالَ شيخُ الإسلامِ رحمهُ اللهُ بعدَ ذكرِ هذا الحديثِ: «وهذا الحديثُ أقلُّ أحوالِهِ أنْ يقتضي تحريمَ التشبهِ بهمْ، وإنْ كانَ ظاهرُهُ يقتضي كفرَ المتشبهِ بهمْ». اقتضاء الصراط المستقيم 1/236.