المبحثُ الأولُ: تعريفُ الإحدادِ
الإحدادُ لغةً: مصدر (أحدَّ) الرباعيُّ، ثلاثي (حدَّ) المضعفُ، زيدتْ عليهِ الهمزةُ، ومدارُ مادةُ الحاءِ والدالِ على المنعِ، ولذلكَ أُطْلِقَ على العقوباتِ الشرعيةِ التي وردَ فيها تحديدٌ شرعيٌّ: حدودٌ؛ وذلكَ لأنها تحدُّ صاحبَها، أيْ: تمنعُهُ منَ الاعتداءِ، وتطلقُ على امتناعِ المرأةِ عنِ الزينةِ والخضابِ وما في معناها إظهارًا للحزنِ. انظر مختار الصحاح (125 – 126)، لسان العرب (3/143)، تهذيب اللغة (3/15).
وأمَّا شرعًا: فقدْ تنوعتْ عباراتُ العلماءِ رحمهمُ اللهُ في تعريفِهِ، ويجمعُها أنْ يقالَ: إنَّ الإحدادَ: تربصٌ تجتنبُ فيهِ المرأةُ ما يدعو إلى جماعِها أوْ يرغبُ في النظرِ إليها منَ الزينةِ وما في معناها مدةً مخصوصةً في أحوالٍ مخصوصةٍ. انظر: الروض المربع ص 266، روضة الطالبين 8/405، شرح فتح القدير 4/338، الكافي ص 295، الموسوعة الفقهية (2/ 103 – 104).
ومنَ التعريفِ يتضحُ أنَّ أحكامَ الإحدادِ مما تختصُّ بها النساءُ دونَ الرجالِ، وهذا ظاهرٌ جليٌّ لكلِّ منْ تأملَ الحكمةَ التي منْ أجلِها شُرِعَ الإحدادُ، ومما يدلُّ على أنَّ الإحدادَ تختصُّ بهِ النساءُ دونَ الرجالِ ما أخرجَهُ الشيخانِ عنْ أمِّ حبيبةَ وزينبَ بنتَ جحشٍ -رضي اللهُ عنهما-، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: «لا يحلُّ لامرأةٍ تؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ أنْ تحدَّ على ميتٍ فوقَ ثلاثِ ليالٍ، إلا على زوجٍ أربعةَ أشهرٍ وعشرًا». رواهُ الشيخانِ. رواه البخاري في كتاب الطلاق، باب: تحد المتوفَّى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرًا (3/420) برقم (5334، 5335، 5336، 5337). ورواه مسلم (2/1123 ـ 1125) برقم (1486)
وكذلكَ حديثُ أمِّ عطيةَ رضي اللهُ عنها «لا تحدُّ امرأةٌ على ميتٍ فوقَ ثلاثٍ إلا على زوجٍ أربعةَ أشهرٍ وعشرًا». متفقٌ عليهِ. رواه البخاري في كتاب الطلاق، باب: القسط للحادة عند الطهر (3/421) برقم (5341)، ورواه مسلم برقم (938)
وهذا ظاهرٌ جليٌّ لكلِّ منْ تأملَ الآياتِ والأحاديثَ الواردةَ في الإحدادِ أوْ تأملَ الحكمةَ التي منْ أجلِها شُرِعَ الإحدادُ، ومما يدلُّ على ذلكَ أيضًا إجماعُ المسلمينَ على أنَّهُ لا إحدادَ على الرجلِ. الموسوعة الفقهية الكويتية (2/104). ويتضحُ هذا الإجماعُ منْ خلالِ إطباقِ كلِّ منْ كتبَ عنِ الإحدادِ وأحكامِهِ، لكنْ ذكرَ فقهاءُ الحنابلةِ ما يشعرُ بأنَّ للرجلِ أنْ يحدَّ؛ فقالَ في الإنصافِ معَ حاشيةِ الشرحِ 6/279: "فائدةٌ: يكرهُ للمصابِ تغييرُ حالِهِ منْ خلعِ ردائهِ ونعلِهِ، وتغليقِ حانوتِهِ وتعطيلِ معاشِهِ، على الصحيحِ منَ المذهبِ، وقيلَ: لا يكرهُ، وسئلَ الإمامُ أحمدُ عنْ مسألةٍ يومَ ماتَ بشرٌ، فقالَ: ليسَ هذا يومَ جوابٍ، هذا يومُ حزنٍ، وأطلقهما في الفروعِ. وقالَ المجدُ: لا بأسَ بهجرِ المصابِ الزينةَ وحسنَ الثيابِ ثلاثةَ أيامٍ، وجزمَ بهِ ابنُ تميمٍ وابنُ حمدانَ. إلا أنهمْ لمْ يذكروا أنهُ واجبٌ إلا على المتوفَّى عنها زوجُها، وهذا محلُّ اتفاقٍ بينهمْ، وإنَّما اختلفوا في بعضِ الحالاتِ هلْ يجبُ فيها الإحدادُ أوْ لا؟ كالمجنونةِ والصغيرةِ وغيرهما، لكنهمْ لمْ يذكروا خلافًا في وجوبِهِ أوِ استحبابِهِ على الرجالِ ألبتة. انظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" ص 294، "الموسوعة الفقهية" 2/104، وانظرْ: "حاشية مطالب أولي النهى" 1/924.