المطلب الثاني: البيع بأقل من ثمن المثل:
لمعرفة حكم التخفيضات العادية التي يمنحها الباعة؛ للترغيب في سلعهم وخدماتهم لا بد من النظر في كلام أهل العلم- رحمهم الله- في حكم البيع بأنقص من ثمن المثل. وبمراجعة ما قاله أهل العلم في هذه المسألة يتبين أن لهم فيها قولين:
القول الأول: يجوز بيع السلع والخدمات بأقل من سعر مثلها.
وهذا مذهب الحنفيةينظر: تبيين الحقائق (6/28)، الفتاوى الهندية (3/214، 173).، وقول ابن رشد من المالكيةينظر: البيان والتحصيل (9/306، 356).، والشافعيةينظر: مختصر المزني ص (92)، مغني المحتاج (2/38).، والحنابلةينظر: المغني (6/311 - 312)، كشاف القناع (3/187)، وابن حزم من الظاهريةينظر: المحلى (9/40)..
القول الثاني: لا يجوز بيع السلع والخدمات بأقل من سعر مثلها.
وهذا مذهب المالكيةينظر: المنتقى للباجي (5/17)، شرح الزرقاني على الموطأ (3/299)، تبيين المسالك (3/275).
تنبيه: قال ابن القيم في الطرق الحكمية ص (215): "قال ابن القصار المالكي: اختلف أصحابنا في قول مالك: (ولكن من حط سعرًا)، فقال البغداديون: أراد من باع خمسة بدرهم، والناس يبيعون ثمانية، وقال قوم من البصريين: أراد من باع ثمانية، والناس يبيعون خمسة، فيفسد على أهل الأسواق بيعهم، وربما أدى إلى الشغب والخصومة"، وبهذا يتبين أن للمالكية في هذه المسألة قولين..
أدلة القول الأول:
الأول: أن النبي- صلى الله عليه وسلم- عدّ التدخل في تحديد الأسعار نوعًا من الظلم الذي يجب الامتناع منه، فقال- صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللهَ هو القَابِضُ الباسِطُ الْمُسَعِّرُ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللهَ، وَلا يُطَالِبُني أَحَدٌ بِمَظْلِمَةٍ ظَلَمْتُهَا إِيَّاهُ في دَمٍ ولا مالٍ».
الثاني: أن الشريعة ندبت إلى السماحة، والسهولة في البيع والشراء، وسائر المعاملات، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم -: «رَحِمَ اللهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا باعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى» رواه البخاري في كتاب البيوع- باب السهولة والسماحة في الشراء والبيع... -، رقم (2076)، (2/81). من حديث جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما -.، ولا شك أن البيع بأقل من ثمن المثل داخل في ذلك. قال ابن رشد فيمن باع بأرخص مما يبيع أهل السوق: ((بل يشكر على ذلك إن فعله لوجوه الناس، ويؤجر فيه إذا فعله لوجه الله)) البيان والتحصيل (9/306). .
الثالث: أن أثمان السلع والخدمات وأسعارها حق لأربابها، فلا يُحجر عليهم فيها، ولا يُتعرض لهم في تقديرهاينظر: تبيين الحقائق (6/28)، المغني (6/312)..
أدلة القول الثاني:
استدل القائلون بمنع البيع بأقل من ثمن المثل بما يلي:
الأول: أن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- مرّ بحاطب بن أبي بلتعة- رضي الله عنه- وهو يبيع زبيبًا له بالسوق، فقال له عمر بن الخطاب- رضي الله عنه -: ((إما أن تزيد في السعر، وإما أن ترفع من سوقنا)) رواه مالك في كتاب البيوع- باب الحكرة والتربص-، رقم (57)، (2/651)، والبيهقي في سننه في كتاب البيوع- باب التسعير- (6/29)، وفي معرفة السنن والآثار في كتاب البيوع-باب التسعير- رقم (11653)، (13/205)، وعبد الرزاق في المصنف في كتاب البيوع- باب هل يسعر-، رقم (14905)، (8/207)، وابن حزم في المحلى (9/40). كلهم بهذا اللفظ. وقد ضعّفه ابن حزم؛ لأن سعيدًا لم يسمع من عمر إلا نعيه للنعمان بن مقرن فقط، وسيأتي جواب هذا في الإجابة على ما ورد على هذا الأثر من مناقشات. .
المناقشة:
نوقش هذا الدليل من أربعة أوجه:
1- أن هذا الأثر لا يصح عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه -؛ لأنه من طريق سعيد بن المسيب، وهو لم يسمع من عمر إلا نعيه للنعمان بن مقرن فقط.
الإجابة:
يجاب عن تضعيف الأثر بهذه العلة: بأنها غير مسلّمة، فقد سئل الإمام أحمد عن رواية سعيد عن عمر- رضي الله عنه- هل هي حجة؟ فقال: ((هو عندنا حجة، قد رأى عمر وسمع منه، وإذا لم يُقبل سعيد عن عمر فمن يقبل)) تهذيب الكمال في أسماء الرجال (11/73). ، وقال الإمام مالك: ((كان يقال لابن المسيب: راوية عمر، فإنه كان يتبع أقضية عمر يتعلمها، وإن كان ابن عمر ليرسل إليه يسأله)) تاريخ الإسلام للذهبي، حوادث ووفيات سنة (81 - 100)، ص (372). ، وقال يحيى بن سعيد القطان: ((إن ابن المسيب كان يسمى راوية عمر بن الخطاب؛ لأنه كان أحفظ الناس لأحكامه وأقضيته)) تهذيب الكمال في أسماء الرجال (11/74). .
2- أن الذي نهى عنه عمر- رضي الله عنه- هو الزيادة في الثمن لا النقص عن سعر المثل، وذلك أن حاطبًا- رضي الله عنه- كان يبيع بالدراهم أقل مما كان يبيع به أهل السوق، وهذا مما لا يلام أحد عليه؛ لأنه ((لا يلام أحد على المسامحة في البيع والحطيطة فيه)) البيان والتحصيل (9/306)، وينظر: القبس في شرح الموطأ لابن العربي (2/838). .
ويؤيد هذا التوجيه أنه في بعض روايات قصة عمر مع حاطب- رضي الله عنهما-، أن عمر وجد حاطبًا يبيع الزبيب بالمدينة، فقال: ((كيف تبيع يا حاطب؟))، فقال: ((مدين))، فقال عمر: ((يبتاعون بأبوابنا، وأفنيتنا، وأسواقنا، وتقطعون في رقابنا، ثم تبيعون كيف شئتم، بع صاعًا وإلا فلا تبع في أسواقنا، وإلا فسيروا في الأرض ثم اجلبوا ثم بيعوا كيف شئتم)) رواه عبد الرزاق في المصنف في كتاب البيوع- باب هل يسعّر-، رقم (14906)، (8/207)، وابن حزم في المحلى (9/40) من طريق عبد الرزاق واحتج به. .
3- أن عمر- رضي الله عنه- رجع عن قوله لحاطبينظر: المغني (6/312). . ففي بعض الروايات أن عمر لما رجع حاسب نفسه، ثم أتى حاطبًا في داره، فقال له: ((إن الذي قلت ليس بعزيمة مني، ولا قضاء، وإنما هو أمر أردت به الخير لأهل البلد، فحيث شئت وكيف شئت فبع)) رواه البيهقي في السنن الكبرى في كتاب البيوع- باب التسعير- (6/29)، وفي السنن الصغرى في كتاب البيوع- باب التسعير-، رقم (2020)، (2/286)، وفي معرفة السنن والآثار في كتاب البيوع- باب التسعير-، رقم (11651)، (8/204 -205)، ونقله المزني عن الشافعي في مختصره ص (92). وهذا من رواية سعيد بن المسيب عن عمر، وقد ضعف ابن حزم هذا الطريق في المحلى (9/40)، وقد أجيب على هذا في جواب مناقشة الدليل الأول ص (173). .
4- أنه وإن صح ذلك عن عمر- رضي الله عنه- فلا حجة في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلمينظر: المحلى (9/40).
الإجابة:
أجيب على هذا بأن عمر- رضي الله عنه- له سنة متبعةينظر: إجمال الإصابة في أقوال الصحابة ص (47 - 55).، فهو داخل في قول النبي- صلى الله عليه وسلم-: «فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الراشدينَ الْمَهْدِيِّينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيهَا بِالنوَاجِذِ» رواه أبو داود في كتاب السنة- باب في لزوم السنة-، رقم (4607)، (5/13 - 14)، والترمذي في كتاب العلم- باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع-، رقم (2676)، (5/44 - 45)، وابن ماجه في المقدمة- باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين-، رقم (42)، (1/15-16) من حديث العرباض بن سارية- رضي الله عنه-.
قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح". .
الثاني: أن في تمكينهم من البيع بأقل من ثمن المثل ضررًا على أهل السوقينظر: المنتقى للباجي (5/18)، شرح الزرقاني على الموطأ (3/299)، المغني (6/316). ، فمن تمام النصح للمسلمين ألا يترك أهل الأسواق وما أرادوه إذا كان ذلك يفضي إلى فساد الأسواق واضطرابها وإلحاق الضرر بالمسلمين؛ لقول النبي- صلى الله عليه وسلم-: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ».
المناقشة:
نُوقش هذا بثلاثة أمور:
1- عدم التسليم بأن في البيع بأقل من سعر السوق ضررًا على أهل الأسواق؛ لأنهم إن شاءوا أرخصوا الأسعار، وإلا فهم أملك بأموالهم، كما أن الذي أرخص أملك بمالهينظر: المحلى (9/41). .
2- على التسليم بوجود الضرر في البيع بأقل من سعر الأسواق، فإن المصلحة الحاصلة لعموم الناس بإرخاص الأسعار أعظم من الضرر الحاصل لبعض أهل الأسواق، لاسيما وأنه غالبًا ما يكون ربح التاجر كبيرًا جدًّا. وهذا داخل في القاعدة العامة فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد أو تزاحمت فإنه يجب تقديم الراجح منهاينظر: الاستقامة لشيخ الإسلام ابن تيمية (2/216). .
3- أن عمر- رضي الله عنه- لم يأمر حاطبًا- رضي الله عنه- بالامتناع من البيع، ففي بعض الروايات أن عمر- رضي الله عنه- قال له: ((فإما أن ترفع السعر، وإما أن تدخل زبيبك، فتبيعه كيف شئت)). وهذا قد يُفهم منه أن منع عمر- رضي الله عنه- حاطبًا- رضي الله عنه- ليس لأجل نفي الضرر عن أهل السوق؛ لأنه لم يمنعه من البيع مطلقًاينظر: المغني (6/312)..
الترجيح:
الراجح من هذين القولين هو القول بجواز البيع بأقل من سعر السوق؛ لقوة أدلة القائلين به، وسلامتها من المناقشة، ولأن البياعات والمعاوضات مبناها على التراضي، كما قال الله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ سورة النساء، جزء آية: (29). ، فإذا رضي البائع أن يبيع سلعته أو خدمته بثمن دون السعر السائد، فلا وجه لمنعه من ذلك. كما أن الأصل في البيوع الحل، قال الله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ﴾ سورة البقرة، جزء آية: (275). ، فلا يمنع منها شيء إلا بدليل يُعتمد عليه، لكن إن رأى ولي الأمر أن مصلحة الناس لا تتم إلا بمنعهم من البيع بدون سعر المثل؛ لما في ترك ذلك من المفاسد، فإن ذلك جائز لا حرج فيه؛ لأن المقصود هو إصلاح معاش الناس، واستقامة أمرهم، فإذا كان ذلك لا يتحقق إلا بمنعهم من البيع بأقل من السعر السائد كان ذلك جائزًا، بل قد يكون واجبًا، والله- تعالى- أعلم.