المطلب الأول: الأصل في تحديد الأسعار:
إن من أبرز السمات التي تميّز بها الاقتصاد الإسلامي في تحديد أسعار السلع والخدمات أنه يربط ذلك بقوى العرض والطلب، وفي هذا غاية العدل، ومراعاة مصالح الخلق، واعتبار لظروف الأسواق، واختلاف السلع والخدمات من حيث تكاليفها، ووفرتها، وحاجة الناس لها. وبهذا تُحصَّل المصالح، وتُدرأ المفاسد، وتستقيم أمور الناس في أسواقهم وتجاراتهم، فلا إجحاف بالباعة ولا إضرار بالمستهلكينينظر: الاقتصاد الإسلامي- بحث الثمن العدل في الإسلام-، للدكتور البلخي ص (153)، قيود الملكية الخاصة للدكتور: عبدالله المصلح ص (419)، ضوابط تنظيم الاقتصاد الإسلامي في السوق للدكتور عناية، ص (63)، الحلال والحرام للدكتور القرضاوي ص (234). .
ولما كانت قاعدة الشريعة وأصلها المتين إقامة العدل في معاش الناس ومعاملاتهم امتنع النبي- صلى الله عليه وسلم- من التسعير لَمَّا غلا السعر في عهده- صلى الله عليه وسلم- وقال لمن طَلَب منه التسعير: «إِنَّ اللهَ هُوَ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الْمُسَعِّرُ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللهَ، وَلا يُطالِبُني أحدٌ بمَظْلِمَةٍ ظَلَمْتُهَا إِيَّاهُ في دمٍ، ولا مالٍ». فنبّه النبي- صلى الله عليه وسلم- بذلك إلى أنه لا يجوز التدخل في أسعار السلع والخدمات ما دام غلاؤها ورخصها راجعًا إلى ميزان العرض والطلب، واختلافه قلة وكثرة، وأن التدخل في مثل هذه الحال نوع من الظلم للخلق في أموالهم وتجاراتهمينظر: المنتقى للباجي (5/18)، الطرق الحكمية ص (206). ، ومخالفة للقاعدة الشرعية الكبرى التي تبنى عليها التجارات والمعاملات، وهي التراضي في البياعات وسائر المعاوضاتينظر: العقود لابن تيمية ص (152 - 154)، مجموع الفتاوى (29/6، 14 -15، 155. فإن الله- تعالى- قد اشترط لإباحة أكل المال في ذلك التراضي، فقال جلَّ وعلا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ سورة النساء، جزء آية: (29).، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا الْبَيْعُ عَنْ تَرَاضٍ» رواه ابن ماجه في التجارات- باب بيع الخيار-، رقم (2185)، (2/736). من حديث أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه-. قال في مصباح الزجاجة (2/168): "هذا إسناد صحيح رجاله ثقات"، فالتراضي أصل تبنى عليه العقود كلها، فلا يجوز التضييق على الناس، والحجر عليهم في أموالهم وتجاراتهم بالتسعير أو غير ذلك؛ لأن الناس مسلطون على أموالهم لا يباح لأحد أن يأخذها أو شيئًا منها دون طيب نفس من أهلهاينظر: مختصر المزني ص (92)، الحاوي الكبير (5/409)، نيل الأوطار (6/312). . وبهذا يتبين بوضوح أن أسعار السلع والخدمات حق لأصحابها، فإليهم تقديرها لا يتعرض لهم في ذلك ما داموا على قانون العدل سائرينينظر: تكملة شرح فتح القدير (10/59)، تبيين الحقائق (6/28)، المغني (6/312). .
لكن إذا امتنع أرباب السلع والتجارات من بيعها مع ضرورة الناس إليها، إلا بزيادة على ثمن المثل، فهنا اختلف أهل العلم- رحمهم الله- في حكم التسعير وإلزام أهل التجارات وأرباب السلع بالبيع بثمن المثلتناول كثير من أهل العلم هذه المسألة بالبحث والدراسة قديمًا وحديثًا، ينظر: مجموع الفتاوى (28/90 - 105)، مجلة البحوث الإسلامية، العدد السادس، ربيع الثاني- جمادى الثانية 1402هـ، بحث اللجنة الدائمة ص (51 - 95)، حكم التسعير في الشريعة الإسلامية، لعبد الله الزاحم، رسالة ماجستير في الجامعة الإسلامية، الموسوعة الفقهية الكويتية (11/301 - 311). .
فذهب الشافعيةينظر: مختصر المزني ص (92)، مغني المحتاج (2/38)، حاشية قليوبي وعميرة (2/186). ، والحنابلةينظر: المغني (6/311 - 312)، كشاف القناع (3/187)، الإنصاف (3/338)، وابن حزم من الظاهريةينظر: المحلى (9/40). إلى عدم جواز التسعير وتحديد الأثمان والأسعار بناء على ما تقدم من امتناع النبي- صلى الله عليه وسلم- عن التسعير، ويكون عدم التدخل هو الأصل.
أما الحنفيةينظر: تبيين الحقائق (6/28)، الفتاوى الهندية (3/214)، البناية في شرح الهداية (11/245 - 246). ، والمالكيةينظر: التاج والإكليل لمختصر خليل (4/380)، المنتقى للباجي (5/18).، وبعض الحنابلةينظر: مجموع الفتاوى (28/105)، الطرق الحكمية ص (215)، الإنصاف (4/338) فذهبوا إلى أنه يجوز لولي الأمر والجهات المختصة التدخل في تحديد أسعار وأثمان السلع والخدمات؛ تحقيقًا للعدل، وتحصيلًا للمصلحة العامة، وحفاظًا على النظام العامينظر: نظام الإسلام لمحمد المبارك ص (107)..