المسألة الأولى: ما يشترط فيه الشراء:
الفرع الأول: صورته:
هذا القسم يمثل أكثر صور هذا النوع من المسابقات؛ وذلك أن كثيرًا من المؤسسات والمراكز التجارية تشترط للحصول على الرقم الذي تتم القرعة أو السحب عليه أن يكون المشارك قد اشترى سلعة أو خدمة يراد ترويجها، أو أن يشتري من مركز أو محل تجاري يراد تنشيط مبيعاته.
الفرع الثاني: تخريجه الفقهي:
هذا القسم من المسابقات الترغيبية يمكن تخريجه على ما يلي:
التخريج الأول:
أن هذا النوع من المسابقات الترغيبية من القمار المحرم شرعًا؛ وذلك لأن المشاركين يبذلون مالًا للحصول على هذه الجوائز التي قد تحصل لهم، وقد لا تحصل، فهم بين غرمٍ وغنمٍ. وما كان كذلك فإنه يكون من الميسر المحرم.
ما يترتب على هذا التخريج:
أولًا: تحريم استعمال هذا النوع من الحوافز المرغِّبة في الشراء؛ لكونه قمارًا أو ميسرًا محرمًا.
ثانيًا: تحريم الاشتراك في هذه المسابقات؛ لكونها ميسرًا وقمارًا محرمًا.
التخريج الثاني:
أن هذا النوع من المسابقات الترغيبية هبة لمن تعينه القرعة.
ما يترتب على هذا التخريج:
أولًا: جواز هذا النوع من الحوافز الترغيبية؛ لأن الأصل في المعاملات الحل، ولا دليل على المنع.
ثانيًا: جواز المشاركة في هذه المسابقات؛ لأن حقيقتها هبة يستحقها من أخرجته القرعة.
ثالثًا: جواز أن تكون الجائزة الترغيبية في هذه المسابقات مجهولة، بناءً على جواز الجهالة والغرر في عقود التبرعات.
المناقشة لهذا التخريج:
نوقش هذا التخريج بالمنع؛ وذلك لأن الجائزة في هذه المسابقات ليست هبة محضة مجردة، بل هي مشروطة في عقد مبنية عليه، فإن هذه الجوائز يشترط لتحصيلها الشراء.
التخريج الثالث:
أن هذا النوع من المسابقات الترغيبية مسابقة بعوض من غير المتسابقين.
ما يترتب على هذا التخريج:
تقدم ذكر ما يترتب على هذا التخريج عند ذكر التخريج الفقهي للمسابقات التي يكون فيها عمل المتسابقين، والتي يشترط فيها الشراء، فأغنى ذلك عن إعادته.
المناقشة لهذا التخريج:
نوقش هذا التخريج بأن هذا النوع من الحوافز الترغيبية التي لا عمل فيها من المشاركين لا يمكن أن يخرّج على أنه مسابقة؛ لأن المسابقة لا بد أن تكون على عمل يتجارى فيه المتسابقون. ففي هذا التخريج نظر بيّن.
الفرع الثالث: حكمه:
اختلف أهل العلم المعاصرون في هذا النوع من المسابقات الترغيبية على قولين.
القول الأول: عدم جواز هذا النوع من المسابقات الترغيبية.
وهذا هو قول سماحة الشيخ عبد العزيز بن بازينظر: فتاوى إسلامية (2/367 - 368). ، واللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعوديةينظر: فتاوى إسلامية (2/366 - 367)، جريدة الجزيرة، العدد (9122)، الجمعة (18/5/1418هـ)، ص (23). ، وهو قديم قول شيخنا محمد الصالح العثيمينينظر: فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين (2/709)، أسئلة بعض بائعي السيارات، السؤال التاسع ص (17 - 18). ، وقول الشيخ عبدالله بن جبرينينظر: فتاوى للتجار ورجال الأعمال ص (57 - 58).، وأشار إلى هذا القول الدكتور رفيق المصريينظر: الميسر والقمار ص (168). .
القول الثاني: جواز هذا النوع من المسابقات الترغيبية، بشرط عدم رفع الثمن لأجل المسابقة، وألَّا يُشترى من أجلها، وهذا هو آخر قولي شيخنا العلامة الشيخ محمد الصالح العثيمينينظر: لقاء الباب المفتوح رقم (48)، السؤال (1164)، ص (157)، رقم (49)، السؤال (1185)، ص (85). ، وبه قال الدكتور يوسف القرضاويينظر: فتاوى معاصرة للدكتور القرضاوي (2/420). ، واللجنة في بيت التمويل الكويتيينظر: الفتاوى الشرعية في المسائل الاقتصادية، فتوى رقم (228). بيت التمويل الكويتي: شركة مساهمة كويتية، تقوم بالنشاطات المالية، وأوجه الاستثمار المختلفة مع استبعاد عنصر الربا، تأسس في عام 1397هـ، مركزه الرئيس الكويت. [ينظر: البنوك الإسلامية بين النظرية والتطبيق ص (228)]. وهيئة الفتاوى لبنك دبي الإسلاميينظر: فتاوى هيئة الفتاوى والرقابة الشرعية لبنك دبي الإسلامي، فتوى رقم (102). بنك دبي الإسلامي: شركة مساهمة عربية محدودة، تباشر أعمالها على أساس طرح الربا المحرم من جميع معاملاتها، تأسس في عام 1395هـ، مركزه الرئيس مدينة دبي. [ينظر: البنوك الإسلامية بين النظرية والتطبيق ص (227) ]..
أدلة القول الأول:
الأول: أن هذا النوع من المسابقات الترغيبية قمار أو شبيه بالقمار، ووجه هذا أن المشتري يبذل مالًا للحصول على سلعة قد يحصّل معها جائزة، وقد لا يحصّل، فهو بين غنم بتحصيل الجائزة، وبين غرم بفواتها عليه.
المناقشة:
يناقش هذا بأن المشتري حاله دائرة بين الغنم بأخذ الجائزة مع السلعة، والسلامة بأخذ السلعة التي بذل لها ثمن المثل، فلا غرم هنا. وعليه فلا تكون هذه الصورة من الميسر.
الإجابة:
يجاب عن هذا بأن المشتري لا يخلو من إحدى ثلاث حالات:
الحال الأولى: أن يقصد بشرائه السلعة أو الخدمة فقط، فلا قمار في هذه الحال؛ إذ المشتري ليس بين غرم وغنم، فشراؤه صحيح، لكن الأحوط ألا يأخذ الجائزة فيما لو أصابته القرعة؛ ((لأن الشبهة ملحقة بالحقيقة في باب المحرمات احتياطًا)) بدائع الصنائع، (5/198).، ويدل لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ» رواه أحمد (1/200)، والنسائي في الأشربة - الحث على ترك الشبهات -، رقم (5710)، (8/327)، والترمذي في صفة القيامة - باب -، رقم (2518)، (4/668)، من حديث الحسن بن علي- رضي الله عنهما-. وقال عنه الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وقال الحاكم في مستدركه (2/13): "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في تلخيصه (2/13)، وقال عنه ابن الجوزي في العلل المتناهية (3/333): "لا بأس به"، ورمز له السيوطي بالصحة في الجامع الصغير كما في فيض القدير (3/529)، وقال عنه الزرقاني في مختصر المقاصد الحسنة رقم (460)، ص (107): "صحيح". وقد رواه أحمد من وجه آخر عن أنس (3/153)، قال عنه ابن رجب في جامع العلوم (2/279): "بإسناد فيه جهالة"، ورواه موقوفًا عليه (3/112) بإسناد أجود من المرفوع كما قال ابن رجب في جامع العلوم (2/279). وقد ذكره البخاري من قول أبي سنان في كتاب البيوع- باب تفسير الشبهات- (2/74)..
الحال الثانية: أن يقصد بشرائه دخول مسابقة السحب، فهذا قمار لا شك فيه.
الحال الثالثة: أن يقصد بشرائه الأمرين، فيكون المشتري قد بذل مالًا في شيء قد يحصله وهو الجائزة فيغنم، وقد لا يحصله فيغرم، وعليه فإن هذه الحال لا تسلم من القمار أو مشابهته، فحكمها حكم الحال الثانية من التحريم والمنع.
الثاني: أن استعمال هذه المسابقات في الترغيب والترويج للسلع والخدمات فيه إضرار بالتجار الذين لم يستعملوها. ووجه ذلك أن المستهلكين سيتجهون إلى من يستعمل هذه الطريقة، ويدعون من لا يستعملها، وهذا فيه إضرار بهم، ومعلوم أن من قواعد الشرع المطهر نفي الضرر، فقد قال النبي- صلى الله عليه وسلم -: «لَا ضَرَرَ، وَلَا ضِرَارَ» رواه أحمد (5/313، 326-327)، وابن ماجه في كتاب الأحكام- باب من بنى في حقه ما يضرّ بجاره-، رقم (2340، 2341)، كلاهما عن عبادة بن الصامت، وابن عباس - رضي الله عنهم-. وكلا الطريقين لا يخلو من ضعف. فأما حديث عبادة ففيه انقطاع، كما قال الحافظ ابن حجر في الدراية (2/282)، والبوصيري في مصباح الزجاجة (2/221)، وأشار البوصيري إلى علة أخرى في هذا الإسناد (2/179)، وهي ضعف إسحاق بن يحيى بن الوليد الراوي عن عبادة، ونقل عن البخاري وابن حبان وابن عدي أنه لم يدرك عبادة. وأما حديث ابن عباس فقال عنه ابن عبد البر في التمهيد (20/175): "إن هذا الحديث لا يستند من وجه صحيح"، وقال عنه البوصيري في مصباح الزجاجة (2/222): "هذا إسناد فيه جابر وقد اتهم"، وقال ابن رجب بعد ذكر هذا الطريق في جامع العلوم (2/209): "وجابر الجُعْفي ضعَّفه الأكثرون". وعلى كل حال فللحديث طرق كثيرة قد استوعبها الزيلعي في نصب الراية (4/384 - 386)، والألباني في إرواء الغليل (3/408- 414). ومع تعدد هذه الطرق فقد قال عنه ابن حزم في المحلى (8/241): "هذا خبر لم يصح قط"، وقال عنه ابن عبد البر في التمهيد بعد كلامه على بعض طرقه: ((وأما معنى هذا الحديث فصحيح في الأصول))، وقد حسّنه النووي في الأربعين وابن رجب في شرحها (2/210)، ونقل عن أحمد وابن صلاح وأبي داود قبوله. وقال عنه المناوي في فيض القدير (6/432): ((وله طرق يقوي بعضها بعضًا، وقال العلائي: للحديث شواهد ينتهي مجموعها إلى درجة الصحة والحسن المحتج به))..
وقد تقدمت مناقشة هذا الوجه قريبًا فأغنى ذلك عن إعادته.
أدلة القول الثاني:
عمدة أصحاب هذا القول هو أن الأصل في المعاملات الحلُّ والإباحة ما لم يقم دليل التحريم والمنع، ولا دليل هنا يُعتمد عليه في منع هذا النوع من المسابقات الترغيبية، وما ذُكر من شروط للإباحة إنما هو احتراز من قيام أسباب التحريم من القمار وإضاعة المال.
المناقشة:
يناقش هذا بما يلي:
أولًا: أن أصل الإباحة الذي استدلوا به معارض بما ذُكر في أدلة المانعين من أسباب التحريم.
ثانيًا: أن الشروط التي ذكرها أصحاب هذا القول يصعب العلم بها والتحقق من قيامها، وبيان ذلك بما يلي:
1. أن الشرط الأول، وهو ألاّ يزيد في الأسعار من أجل الجائزة. مما يصعب ضبطه، إلا في السلع الاستهلاكية المشهورة؛ لأن سعرها معروف ثابت، أما ما عداها من السلع فالتحقق من عدم رفع الأسعار فيها صعب أو متعذر، لاسيما في السلع التي تستوردها جهة واحدة تتحكم في سعرها رفعًا وخفضًا، كأكثر أنواع السيارات والأجهزة الكهربائية، وبعض الألبسة؛ فإنه لا يمكن في هذه السلع معرفة هل هناك زيادة في السعر لأجل الجائزة أو لا ؟ ينظر: رسالة القمار وحكمه في الفقه الإسلامي ص (542)..
2. أن الشرط الثاني، وهو ألَّا تكون الجائزة هي المقصودة بالشراء، يصعب ضبطه أيضًا؛ لأن القصد هنا أمر خفي، فتعليق الحكم به تعليق بما يصعب أو يتعذر العلم بهينظر: إغاثة اللهفان (1/376)، الموافقات للشاطبي (2/361). .
الترجيح:
الذي يظهر أن الأقرب للصواب من هذين القولين هو القول الأول؛ لما في هذا النوع من المسابقات الترغيبية من الميسر المحرم أو شبهته، ولعدم انضباط الشروط التي عُلِّق عليها القول بالإباحة. والله- تعالى- أعلم.