المسألة الثانية: المسابقة في مباحات ليست في معنى ما ورد به النص:
اختلف أهل العلم في بذل العوض في هذا النوع من المسابقات على قولين:
القول الأول: لا يجوز بذل العوض في هذا النوع من المسابقات مُطلقًا. وهذا مذهب الحنفيةينظر: بدائع الصنائع (6/206)، البحر الرائق (8/544)، حاشية ابن عابدين (6/402 - 403). ، والمالكيةينظر: عقد الجواهر الثمينة (1/511 - 512)، الذخيرة للقرافي (3/466)، القوانين الفقهية ص (105). ، والشافعيةينظر: العزيز شرح الوجيز (12/147)، روضة الطالبين (10/351). ، والحنابلةينظر: المغني (13/407)، منتهى الإرادات (1/497). ، وابن حزم من الظاهريةينظر: المحلى (7/354). .
القول الثاني: يجوز بذل العوض في هذا النوع من المسابقات إذا كان العوض من أجنبي.
وحكي هذا قولًا عند المالكيةحكى هذا القول في مواهب الجليل (3/393)، وحاشية العدوي على مختصر خليل (3/156) نقلًا عن الزناتي، قال: "واختلف فيمن تطوع بإخراج شيء للمتصارعين والمتسابقين على أرجلهما أو على حماريهما أو على غير ذلك مما لم ترد به السنة بالجواز والكراهة". وقد نقل الدسوقي في حاشيته على الشرح الكبير (2/210)، والصاوي في بلغة السالك (1/787)، قول الزناتي هذا لكنه جعل القولين هما التحريم والكراهة. والذي يظهر أن نقل الدسوقي أقرب إلى الصواب؛ لموافقته المشهور من مذهب المالكية، قال في عقد الجواهر الثمينة (1/511-512) عند كلامه على رواية "لا سبَق إلا في خف أو حافر": "ولا يلحق بهما غيرهما بوجه، إلا أن يكون بغير عوض". .
أدلة القول الأول:
استدل القائلون بمنع بذل العوض في المسابقة فيما ليس في معنى ما ورد به النص بدليلين:
الأول: قول النبي- صلى الله عليه وسلم -: «لا سَبَقَ إِلَّا فِي خُفٍّ أَوْ نَصْلٍ أَوْ حَافِرٍ».
وجه الدلالة:
أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قصر جواز بذل العوض في المسابقات على الإبل والخيل والسهام، فدل ذلك على أنه لا يجوز العوض في غيرها من المسابقات؛ إذ لولا ذلك لما احتاج إلى استثناء هذه الثلاثة؛ لجواز الاستباق في جميع المباحات بغير عوضينظر: الحاوي الكبير (15/182).. وقد ذهب بعض أهل العلم إلى إلحاق بعض أنواع المسابقات التي هي في معنى ما ورد به النص بالمنصوص، فجوزوا بذل العوض فيها. أما ماعدا ذلك فإنه لا يجوز بذله فيها؛ لأنه مما لا يتناوله النص، ولا هو في معنى المنصوص عليهينظر: الفروسية لابن القيم ص (182)..
الثاني: أن إباحة بذل العوض في هذا النوع من المسابقات يؤدي إلى ((اشتغال النفوس به واتخاذه مكسبًا، لا سيما وهو من اللهو واللعب الخفيف على النفوس، فتشتد رغبتها فيه)) ينظر: الفروسية لابن القيم ص (175).، وتلتهي به عن كثير من مصالح دينها ودنياها.
أدلة القول الثاني:
استدل أصحاب هذا القول بأن الشارع منع بذل العوض في المسابقات إذا كان العوض من المتسابقين؛ لكونه في هذه الصورة من الميسر المحرم. فالمتسابقان كل واحد منهما إما أن يسلم وإما أن يغرم، فإذا بذل العوض أجنبي لم يكن من الميسر المحرمينظر: فتاوى إسلامية (4/433). ؛ لأن كل واحد منهما، إما أن يغنم، وإما أن يسلم.
المناقشة:
يُناقش هذا: بأن الشارع الحكيم منع بذل العوض في المسابقة في غير الثلاثة دون اعتبار جهة إخراج السبَق، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم -: «لا سَبَقَ إِلَّا فِي خُفٍّ أَوْ نَصْلٍ أَوْ حَافِرٍ»، وقوله في الحديث: «لا سَبَقَ» نكرة في سياق النفي، فتفيد عموم المنعينظر: تيسير التحرير (1/329)، المستصفى (2/90)، شرح الكوكب المنير (3/136). عن بذل السبَق من كل أحد في غير ما جاءت به السنة، سواء كان من المتسابقين أو من غيرهما. والشارع إنما أباح بذل العوض في المسابقة فيما ورد به النص؛ لأنها من الحق، ولما فيها من التحريض على تعلم الفروسية، وإعداد القوة للجهادينظر: الفروسية لابن القيم ص (31). ، فما لم يكن كذلك فإنه لا يجوز بذل العِوض فيه، سواء كان على صورة الميسر أو لا؛ لعموم الحديث.
وقد ذهب إلى ذلك فيما ظهر لي- والله أعلم- كل من وقفت على كلامه من أهل العلم على اختلاف مذاهبهم الفقهية.
فقال ابن عابدين: ((لا تجوز المسابقة بعوض إلا في هذه الأجناس الثلاثة)) حاشية ابن عابدين (6/402)، وينظر: بدائع الصنائع (6/206). .
وقال ابن شاس: ((كل ما ذكرنا من أحكام السباق، فهو بين الخيل والركاب أو بينهما، وهما المراد بقوله- صلى الله عليه وسلم -: «فِي خُفٍّ، أَوْ حَافِرٍ»، ولا يلحق بهما غيرهما بوجه، إلا أن يكون بغير عوض، فتجوز فيه المسابقة إذا كان مما ينتفع به في نكاية العدو، ونفع المسلمين)) عقد الجواهر الثمينة (1/511 - 512)، ينظر: الذخيرة للقرافي (3/466)، الشرح الصغير للدردير (1/785)، حاشية الدسوقي (2/210). . وقال الإمام الشافعي عند كلامه على المعاني المستفادة من حديث «لَا سَبَقَ إِلَّا...»: ((المعنى الثاني: أنه يحرم أن يكون السبَق إلا في هذا)) الأم للشافعي (4/230)، وينظر: العزيز شرح الوجيز (12/174)، حاشية الباجوري على ابن قاسم (2/306)، الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع (2/247). وقال ابن قدامة: ((ولا تجوز بجُعل إلا في الخيل، والإبل، والسهام)) عمدة الفقه لابن قدامة (263)، وينظر: المحرر في الفقه (1/358)، زاد المستقنع ص (70)، الممتع شرح المقنع (3/485- 486).. وقال صاحب غاية المنتهى: ((ولا تجوز مسابقة بعِوض مطلقًا إلا في خيل، وإبل، وسهام)) مطالب أولي النهى (3/703).. وقال ابن حزم: ((ولا يجوز إعطاء مال في سبْق غير هذا أصلًا، للخبروهو قوله- صلى الله عليه وسلم -: «لَا سَبَقَ إِلَّا فِي خُفٍّ أَوْ حَافِرٍ». الذي ذكرنا آنفًا)) المحلى (7/354). .
وقد صرّح بعموم الحديث كما لو كان العوض من أجنبي شيخ الإسلام ابن تيمية، فقال: ((ما يكون فيه منفعة بلا مضرة راجحة كالمسابقة، والمصارعة: جاز بلا جعل)) ينظر: مجموع الفتاوى (32/227).، وقال في كلام له على تحريم المسابقة في المحرمات كالنردالنرد: اسم أعجمي معرب، وهو شيء يلعب به ويقامر. [النهاية في غريب الحديث والأثر، مادة (نرد)، (5/39)، المخصص (4/13/19)، المعجم الوسيط، مادة (النرد)، ص (912)].، والشطرنجالشطرنج: اسم أعجمي معرب، وهو لعبة معروفة. [المخصص (4/13/19)، القاموس المحيط، مادة (الشطرنج)، ص (250)].، ولو كانت بغير عوض: ((النهي عن هذه الأمور ليس مختصًّا بصورة المقامرة فقط، فإنه لو بذل العوض أحد المتلاعبين، أو أجنبي، لكان من صور الجعالة، ومع هذا فقد نهي عن ذلك، إلا فيما ينفع: كالمسابقة، والمناضلة، كما في الحديث الأسبق: إلا في خف، أو حافر، أو نصل))ينظر: مجموع الفتاوى (32/223). .
وقال ابن القيم عند تحريره لمذاهب العلماء فيما يجوز بذل العوض فيه من المسابقات وما لا يجوز، وعلى أي وجه يجوز بذل السبَق؟ : ((تقدم أن المغالبات ثلاثة أقسام: قسم محبوب مرضي لله ورسوله معين على تحصيل محابه.. وقسم: مبغوض مسخوط لله ورسوله موصل إلى ما يكره الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم... وقسم: ليس بمحبوب ولا مسخوط له، بل هو مباح؛ لعدم المضرة الراجحة...)) ينظر: الفروسية لابن القيم ص (171)، ثم قال: ((فالنوع الأول: يشرع مفردًا عن الرهن، ومع الرهن، ويشرع فيه كل ما كان أدعى إلى تحصيله. فيشرع فيه بذل الرهن من هذا وحده، ومن الآخر وحده، ومنهما معًا، ومن الأجنبي، وأكل المال به أكل بحق، ليس أكلًا بباطل، وليس من القمار والميسر في شيء، والنوع الثاني: محرم وحده، ومع الرهن، وأكل المال به ميسر وقمار كيف كان، سواء كان من أحدهما، أو من كليهما، أو من ثالث...)) الفروسية لابن القيم ص (171- 172). ، ثم قال: ((وأما النوع الثالث، وهو المباح، فإنه وإن حرم أكل المال به، فليس لأن في العمل مفسدة في نفسه وهو حرام، بل لأن تجويز أكل المال به ذريعة إلى اشتغال النفوس به، واتخاذه مكسبًا...)) الفروسية لابن القيم ص (175). ، فكلامه يشمل ما إذا كان بذل السبَق من أحدهما أو كليهما أو أجنبي.
وقال عن هذا القسم الأخير في موضع آخر: ((فهذا القسم رخّص فيه الشارع بلا عوض؛ إذ ليس فيه مفسدة راجحة)) الفروسية لابن القيم ص (85). ، وقال أيضًا: ((النبي- صلى الله عليه وسلم- أطلق جواز السبَق في هذه الأشياء الثلاثة، ولم يخصه بباذل خارج عنهما، فهو يتناول حلّ السبَق من كل باذلٍ)) الفروسية لابن القيم ص (188). ، فكذا منعه في غير هذه الأشياء الثلاثة من كل باذل أيضًا.
الترجيح:
بعد هذا العرض لأقوال أهل العلم، وأدلتهم فالذي يظهر لي أن القول الأول أقرب إلى الصواب؛ لقوة أدلته، وسلامتها من المناقشات، وضعف ما استدل به أصحاب القول الثاني، وعدم انفكاكها من المناقشات، والله أعلمهذا ما توصلت إليه في هذه المسألة. وقد راجعني في هذه النتيجة جمع من الأفاضل، وذلك لأمرين: الأول: أن هذا القول خلاف ما هو مشهور عند كثير من أهل العلم المعاصرين. الثاني: أن هذه النتيجة فيها نوع شدة وضيق، لاسيما في هذا الوقت الذي راجت فيه سوق المسابقات على اختلاف أنواعها وغاياتها، فلم أجد بُدًّا أمام تلك المراجعات من إعادة النظر في هذه المسألة مرة تلو مرة بحثًا ومناقشة، وفي كل مرة أجدني منساقًا إلى هذه النتيجة، فأعوذ بالله أن أضل أو أُضل، فمن كان عنده فضل علم فليرشدني إليه. والله الهادي إلى سواء السبيل. .