المسألة الأولى: حكمها:
هذا النوع من الهدايا محرَّم بَذلًا وقبولًا؛ لأنها داخلة في هدايا العمالالعمّال: جمع عامل، وهو الذي يتولى أمور الرجل في ماله، وملكه، وعمله، التي جاءت الأدلة بتحريمها. ومن تلك الأدلة.
الأول: قول الله- تعالى-: ﴿وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ سورة آل عمران، جزء آية: (161). .
وجه الدلالة:
أن الله تعالى توعّد من غلّ- أي: خان بأخذ شيء من غير حق- بأن يأتي به يوم القيامة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «واللهِ لا يَأْخُذُ أحَدٌ مِنكمْ مِنها- أي الغنيمة - شيئًا بغيرِ حَقٍّ، إلَّا لَقِيَ اللهَ - تعالى - يَحْمِلُهُ يومَ الْقِيَامَةِ» رواه البخاري في كتاب الهبة- باب من لم يقبل الهدية لعلةٍ -، رقم (2597)، (2/235)، ومسلم بهذا اللفظ في كتاب الإمارة- باب تحريم هدايا العمال -، رقم (1832)، (3/1464) ؛ كلاهما من حديث أبي حميد الساعدي- رضي الله عنه -. ، فدلّ ذلك على النهي عن الخيانة بأخذ هذه الهدايا، وأنها من الغلول الذي يأتي به صاحبه يحمله يوم القيامة؛ إذ الغلول: هو كل خيانة فيما يولاه الإنسان من الأموال أو الأعمالينظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/299-300)، عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ (3/205)، تيسير الكريم الرحمن (1/287). .
الثاني: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «هَدَايَا العُمَّالِ غُلُولٌ» رواه أحمد (5/425). من حديث أبي حميد الساعدي- رضي الله عنه -. قال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير (4/189): "إسناده ضعيف"، وقال في فتح الباري (13/164): "وهو من رواية إسماعيل بن عياش عن يحيى، وهو من رواية إسماعيل عن الحجازيين، وهي ضعيفة"، وقال ابن الملقن في خلاصة البدر المنير (2/430)، (2863): "إسناده حسن". وقد ذكر الألباني في إرواء الغليل (8/246-250) شواهد للحديث تقويه. وقد ذكر الحافظ ابن حجر هذه الشواهد جميعًا، فقال في فتح الباري (5/221): "وفي الباب حديث أبي هريرة وابن عباس وجابر ثلاثتها في الطبراني الأوسط بأسانيد ضعيفة". .
وجه الدلالة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى العمال عن أخذ الهدايا، وجعلها من الغلول والخيانة، وفي هذا إبطال كل طريق يوصل إلى تضييع الأمانة بمحاباة المهدي، لأجل هديتهينظر: الذخيرة للقرافي (10/80)، فتح الباري (63/167)..
الثالث: ما روى أبو حميد الساعدي- رضي الله عنه- قال: استعمل النبي- صلى الله عليه وسلم- رجلًا من الأزْد يقال له: ابن اللُّتْبِيَّةِ على الصدقة، فلما قدم قال: هذا لكم، وهذا أُهْدِيَ لي، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم -: «فَهَلَّا جَلَسَ في بيتِ أَبيهِ- أو بيتِ أُمِّهِ- فيَنْظُر أَيُهدَى له أو لا؟ والذي نَفْسِي بيدِهِ لا يأخُذُ أحدٌ مِنكم شَيئًا إلَّا جاءَ به يومَ القِيامَةِ يَحمِلُهُ على رَقَبَتِهِ» أخرجه البخاري (1500)، ومسلم (1832). .
وجه الدلالة:
أن النبي- صلى الله عليه وسلم- عاب على ابن اللُّتْبِيَّة قبوله الهدية التي أهديت إليه، لكونه كان عاملًاينظر: فتح الباري (5/231)، أدب القاضي (2/110-111)، المعتصر من المختصر (1/352).، وهذا يدل على عدم جواز قبول موظفي الجهات الاعتبارية كموظفي الدولة، أو الشركات أو المؤسسات لهذه الهدايا الترغيبية التي قدمت لهم بسبب كونهم من منسوبي هذه الجهات، وهذا الحكم يعم كل هدية يكون سببها ولاية المهدى إليهينظر: شرح فتح القدير (7/272)، الذخيرة للقرافي (10/83)، حاشية البجيرمي على الخطيب (4/330)، مجموع الفتاوى (31/286)..
الرابع: ما روى عبد الله بن عمرو- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لعن الراشي والمرتشيَ رواه أحمد (2/190)، وأبو داود في كتاب الأقضية- باب في كراهية الرشوة-، رقم (3580)، (4/9)، والترمذي في كتاب الأحكام- باب ما جاء في الرَّاشي والمرتشي في الحكم -، رقم (1337)، (3/614)، وابن ماجه في كتاب الأحكام - باب التغليظ في الحيف والرشوة -، رقم (2313)، (2/174) بلفظ: "لعنة الله على....". وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وقال الحاكم في مستدركه (4/103): "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في تلخيصه (4/103)، وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (5/221): "وقد ثبت حديث عبد الله بن عمرو في لعن الراشي والمرتشي"، وقال ابن الملقن في خلاصة البدر المنير (2/430)، (2862): "صححه الأئمة". .
وجه الدلالة:
أن الهدية إذا كان سببها العمل فهي داخلة في معنى الرشوةالرشوة: هي ما يبذل من المال لإبطال حق أو إحقاق باطل. والرشوة تفارق الهدية في أمرين: الأول: القصد، فمقصود الرشوة التوصل إلى إبطال الحق وإحقاق الباطل، أما الهدية فمقصودها المودة أو الإحسان أو المكافأة. الثاني: الشرط، الرشوة لا تكون إلا بشرط من الآخذ، أما الهدية فلا شرط معها. [ينظر: شرح فتح القدير (7/272)، الذخيرة للقرافي (10/83)، مغني المحتاج (4/392)، إحياء علوم الدين (2/154-156)، كشاف القناع (2/272)، الروح لابن القيم (2/715). التي لعن النبي- صلى الله عليه وسلم- آخذها وباذلها، ويشهد لهذا أن عمر بن عبد العزيز أُهديت إليه هدية فردها، فقيل له: إن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان يقبل الهدية، فقال عمر: «كانت الهدية في زمن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- هدية، واليوم رشوة» رواه البخاري معلقًا مجزومًا به في كتاب الهبة-باب من لم يقبل الهدية لعلة- (2/235)، وذكر القصة بتمامها ابن سعد في الطبقات الكبرى (5/377)..
فهذه النصوص تدل على تحريم قبول موظفي الجهات الاعتبارية الهدايا التي تُمنح لهم بسبب كونهم يعملون في هذه الجهات؛ لأن إباحة ذلك حقيقته فتح باب الاتجار بمصالح الناس، والإخلال بالواجبات رجاء تحصيل الهدايا والفوائد، ولذلك كان الحكم في هذه المسألة واضحًا تواردت الأدلة عليه.