الفرع الثاني: ألّا يكون المشتري موعودًا بالهدية قبل الشراء:
الأمر الأول: واقع هذه الحال:
صورة ذلك ما يقوم به كثير من التجار، وأصحاب السلع، من إعطاء المشترين سلعة زائدة على ما اشتروه بدون وعد سابق، أو إخبار متقدم على العقد، وذلك إكرامًا للمشترين، ومكافأة لهم على شرائهم، وترغيبًا في استمرار التعامل.
الأمر الثاني: تخريجها الفقهي وحكمها:
يمكن تخريج هذه الحال من الهدايا الترويجية فقهيًّا على أحد ثلاثة تخريجات:
التخريج الأول: أن هذه الهدية الترويجية هبة محضةينظر: إيثار الإنصاف في آثار الخلاف ص (302).؛ لتشجيع الناس على الشراء، ومكافأتهم عليه، أو على اختيارهم للمحل أو النوع وما أشبه ذلك.
ما يترتب على هذا التخريج:
أولًاً: جواز هذا النوع من الهدايا الترويجية؛ لأن الأصل في المعاملات الإباحة، ما لم يقم مانع شرعي.
ثانيًا: استحباب قبول هذا النوع من الهدايا الترويجية؛ لعموم الأدلة الحاثة على قبول الهدية.
ثالثًا: أنه لا يجوز للواهب الرجوع في هذه الهدية بعد قبض المشتري، ولو انفسخ العقدينظر: إيثار الإنصاف في آثار الخلاف ص (302). ؛ لما ورد من النهي عن الرجوع في الهبة.
رابعًا: يصح أن تكون هذه الهدية الترويجية مجهولة بناء على جواز الجهالة في عقود التبرعاتينظر: ص (36). .
التخريج الثاني: أن هذه الهدية الترويجية زيادة في المبيع فتلتحق بالعقد.
قال الزركشي من الشافعية: ((الهبة إذا وقعت ضمن معاوضة، لم تفتقر إلى القبض))، وقال في تعليل ذلك : ((لأنها في ضمن معاوضة)) خبايا الزوايا ص (319)، وينظر: روضة الطالبين (6/136 - 137)، قلائد الخرائد (1/320).، فهي بمثابة الزيادة في المبيع المعقود عليه.
وقال في تهذيب الفروق: ((الهبة المقارنة للبيع، إنما هي مجرد تسمية، فإذا قال شخص لآخر: أشتري منك دارك بمائة، على أن تهبني ثوبك، ففعل، فالدار والثوب مبيعان معًا بمائة، وإذا قال شخص لآخر: أبيعك داري بمائة، على أن تهبني ثوبك. فالدار مبيعة بالمائة والثوب، والتسمية لا أثر لها)) تهذيب الفروق (3/179)، وينظر: عقد الجواهر الثمينة (2/368). .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((الهدية إذا كانت بسبب ألحقت به)) مجموع الفتاوى (29/335). .
وقال ابن رجب في قواعده: ((تعتبر الأسباب في عقود التمليكات)) ص (321). ، والهبة من عقود التمليكات فيعتبر سببها وتلحق به.
ما يترتب على هذا التخريج:
أولًا: جواز هذا النوع من الهدايا بذلًا وقبولًا؛لأنها من البيع، وقد قال الله- تعالى-: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ﴾ سورة البقرة، جزء آية: (275). .
ثانيًا: أن هذه الهدية تلتحق بالعقد، فيجب فيها ما يجب للبيع من شروط، ويثبت لها ما يثبت للمبيع من أحكام، قال في الفتاوى الهندية: ((والزيادة في الثمن، والمثمن، جائزة حال قيامها، سواء كانت الزيادة من جنس الثمن أو غير جنسه، وتلتحق بأصل العقد)) (3/171)، وينظر: حاشية ابن عابدين (5/154)، طريقة الخلاف في الفقه للأسفندي ص (317). ، وقال في منتهى الإرادات: ((وما يُزاد في ثمن، أو مثمن، أو أجل، أو خيار، أو يُحَط زمن الخيارين يُلحَق به)) (1/368)، وينظر: مطالب أولي النهى (3/132). تنبيه: ظهر من النص المنقول عن الحنابلة، أنهم إنما يلحقون الزيادة بالعقد، إذا كانت في زمن الخيارين: خيار المجلس، وخيار الشرط، أما ما بعد ذلك، فإنها لا تلحق به، بل هي هدية محضة. وهذا خلاف الظاهر من النقل عن الحنفية، والشافعية. أما المالكية، فلهم في ذلك قولان أشار إليهما ابن شاس في عقد الجواهر الثمينة، حيث قال في الصرف الذي هو نوع من البيع (2/368): "لو قال له بعد الصرف: استرخصت فزدني فزاده، فهل تُعد الزيادة هبة محضة، أو تُعَدّ ملحقة بالأصل فيعتبر فيها ما يجوز في الصرف؟ قولان، وهما على ما تقدم من إلحاق ما بعد العقود بها أو قطعه عنها"..
ثالثًا: أنه في حال انفساخ العقد يرجع البائع بالسلعة والهدية؛ لأنها من المبيع، قال ابن رجب في قاعدة اعتبار الأسباب في عقود التمليكات: نص الإمام أحمد: ((فيمن اشترى لحمًا ثم استزاد البائع، فزاده ثم رد اللحم بعيب، فالزيادة لصاحب اللحم؛ لأنها أخذت بسبب اللحم فجعلها تابعة للعقد في الرد؛ لأنها مأخوذة بسببه)) قواعد ابن رجب ص (322). وينظر: إيثار الإنصاف في آثار الخلاف ص (303)..
التخريج الثالث: أن هذه الهدية الترويجية ما هي إلا حط من الثمن، فهي تخفيض أو حسم، فالمشتري حصّل السلعة والهدية دون زيادة في الثمن، فعُدّ ذلك تخفيضًا ونقصًا من الثمن، قال في مطالب أولي النهى: ((وهبة بائع لوكيلٍ اشترى منه كنقص من الثمن، فتلتحق بالعقد؛ لأنها لموكله، وهو المشتري، ويخبر بها)) (3/123). .
ما يترتب على هذا التخريج:
الذي يترتب على هذا التخريج هو نفس ما يترتب على تخريج الهدية الترويجية على أنها زيادة في المبيع، غير أنه في هذا التخريج لا يرجع المشتري في حال انفساخ العقد إلا بالثمن بعد التخفيض. وأما البائع فإنه يرجع بالسلعة فقط؛ لأن الهدية حط من الثمن قبضه المشتري، فيلتحق بالعقد.
المناقشة لهذا التخريج:
يناقش هذا التخريج بأن البائع لم يخفّض الثمن في الحقيقة، فثمن السلعة لم يطرأ عليه تغيير، بل هو ثابت على كل حال بالهدية وبدونها. ولذلك يفرّق أصحاب السلع بين التخفيض، وبين هذه الهدايا، كما أن المشترين لا يأخذون هذه الهدايا على أنها تنزيل من الثمن، ولذلك تجد أن الثمن الذي يسجله الباعة في الفواتيرفواتير: جمع فاتورة؛ وهي عند التجار لائحة ترسل مع البضاعة، تدرج فيها أصناف البضاعة، مع بيان كميتها وثمنها وأجرة نقلها. [ينظر: معجم الأغلاط اللغوية المعاصرة ص (497) ]. ، والذي يتكلم به المشترون هو الثمن الذي بذله المشتري دون اعتبار للهدية، ولذلك فإن التسويقيين يذكرون هذه الوسيلة لمن يريد الترويج لسلعة دون التأثير في الأسعارينظر: إدارة التسويق للدكتور بازرعة (2/169). .
الترجيح بين هذه التخريجات:
بالنظر إلى هذه التخريجات الفقهية يظهر- والعلم عند الله- أن أقربها إلى الصواب تخريج هذا النوع من الهدايا الترويجية على أنها هبة محضة؛ لأن هذا هو أقرب التوصيفات الفقهية لمقصود البائع والمشتري، ومعلوم أن البائع يبذل هذه الهدايا ليرغب في الشراء ويشجع عليه، وأن المشتري يقبلها على أنها كذلك، لا على أنها جزء من المبيع، أو أن لها أثرًا في الثمن، ولذلك تجد المشتري لا يحتاط فيها كما يفعل في السلعة المقصودة بالعقد؛ إذ إن هذه الهدية أمر تابع زائد.
أما تخريجها على أنها زيادة في المبيع تلتحق بالعقد، فهذا تخريج قوي جيد، لاسيما إذا كانت الهدية الترويجية من جنس المبيع، كأن يكون المبيع كتابًا، والهدية نسخة أخرى من نفس الكتاب، أو زيادة في كمية وقدر البيع. أما إن كانت الهدية الترويجية من غير جنس المبيع، كأن يكون المبيع كتابًا، والهدية قلمًا، فإنها تخرّج على أنها هبة محضة.
أما تخريج الهدية الترويجية على أنها تخفيض، فضعيف؛ لما ورد عليه من مناقشة.