الفرع الأول: أن يكون المشتري موعودًا بالهدية قبل الشراء:
الأمر الأول: واقع هذه الحال:
لهذه الحال صورتان:
الصورة الأولى: هدية لكل مشترٍ.
صورة ذلك أن يعلن صاحب السلعة أن كل من يشتري سلعة معينة، فله هدية مجانيّة، أو موصوفة وصفًا مميزًا.
الصورة الثانية: هدية يشترط لتحصيلها بلوغ حد معين من السلع، أو بلوغ ثمن معين.
صورة ذلك أن يقول التاجر: من اشترى عدد كذا من سلعة معينة فله هدية مجانًا، أو يقول: من جمع كذا قطعة من سلعة معينة فله هدية مجانًا. ومن ذلك قول بعض الباعة: من اشترى بمبلغ كذا فله هدية معينة مجانًا.
الأمر الثاني: تخريجها الفقهي وحكمها:
هذه الحال من الهدايا الترويجية تحتمل التخريجات التالية:
التخريج الأول: أن هذه الهدية الترويجية وعد بالهبة، فالثمن المبذول عوض عن السلعة دون الهدية. وذلك أن هذه الهدية لا أثر لها في الثمن مطلقًا، والمقصود منها التشجيع على الشراء.
قال ابن قُدامة : ((ولا يصح تعليق الهبة بشرط؛ لأنها تمليك لمعين في الحياة، فلم يجز تعليقها على شرط كالبيع، فإن علقها على شرط، كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنْ رَجَعَتْ هَدِيَّتُنَا إلى النَّجَاشِي فَهِي لكِ» رواه أحمد (6/404) بلفظ: "فإن ردت عليّ فهي لكِ"، أما اللفظ الذي ذكره المؤلف فلم أجده فيما اطلعت عليه من كتب السنة، والحديث من رواية أم كلثوم بنت أبي سلمة، وفيه وعد النبي- صلى الله عليه وسلم- أم سلمة- رضي الله عنها- بهذا الوعد. قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (5/222) بعد ذكر الحديث: "إسناده صحيح".، كان وعدًا)) المغني (8/250)..
ما يترتب على هذا التخريج:
أولًا: جواز هذا النوع من الحوافز الترغيبية؛ لأن الأصل في المعاملات الحلّ.
ثانيًا: استحباب قبول هذا النوع من الهدايا الترويجية؛ لعموم الأدلة الحاثّة على قبول الهدية.
ثالثًا: أنه ليس للواهب الرجوع في هبته بعد قبض المشتري، ولو انفسخ العقد؛ لعموم النهي عن الرجوع في الهبة.
رابعًا: يلزم البائع إعطاء المشتري الهدية الموعودة، بناء على القول بوجوب الوفاء بالوعدتنبيه: قد يتبادر إلى الذهن بناء القول في هذه المسألة على خلاف الفقهاء في لزوم الهبة، وهل القبض شرط في لزوم الهبة أو لا؟ إلا أن هذا غير صحيح، فإن اختلافهم في مسألة القبض إنما هو بعد الإيجاب والقبول، وهما غير موجودين في الهدية الترغيبية الموعودة؛ إذ الموجود هنا مجرد وعد بالهبة..
وقد اختلف العلماء- رحمهم الله- في حكم الوفاء بالوعد على ثلاثة أقوال:
القول الأول: يجب الوفاء بالوعد مطلقًا.
وهذا قول محمد بن الحسن من الحنفيةينظر: عمدة القاري (12/12).، وهو قول لبعض المالكيةينظر: البيان والتحصيل (8/18). كابن شبرمةينظر: المحلى (8/29).، وابن العربيينظر: أحكام القرآن لابن العربي (4/1800).، ووجه في مذهب أحمدينظر: الإنصاف (11/152).، اختاره شيخ الإسلام ابن تيميةينظر: الاختيارات الفقهية ص (331).. وحكاه ابن رجب عن بعض أهل الظاهرينظر: جامع العلوم والحكم (2/485-486)..
القول الثاني: لا يجب الوفاء بالوعد بل يستحب.
وهذا مذهب الحنفيةينظر: أحكام القرآن للجصاص (3/442)، عمدة القاري (12/121).، والشافعيةينظر: الأذكار النووية ص (454)، رحمة الأمة في اختلاف الأئمة ص (361).، والحنابلةينظر: المبدع (9/345)، منتهى الإرادات (2/596).، وابن حزم من الظاهريةينظر: المحلى (8/28)..
القول الثالث: يجب الوفاء بالوعد المعلَّق على شرط دون ما لم يعلق بشرط.
وهذا مذهب المالكيةينظر: البيان والتحصيل (8/18)، المنتقى للباجي (3/227)، الفروق للقرافي (20، 25). تنبيه: انقسم المالكية إلى فريقين في هذا القول. الأول: أن الوفاء بالوعد لا يجب إلا إذا كان الوعد قد أتم على سبب، ودخل الموعود له بسبب الوعد في شيء، وهذا هو المشهور عندهم. الثاني: أن الوعد يكون لازمًا، ولو لم يدخل الموعود له في شيء، بل يكفي كون الوعد على سبب..
أدلة القول الأول:
استدلوا بأدلة من الكتاب ومن السنة.
أولًا: من الكتاب:
الأول: الآيات التي فيها الأمر بالوفاء بالوعد؛ كقوله- تعالى -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ سورة المائدة، جزء آية: (1). ، وقوله- تعالى-: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾ سورة الإسراء، جزء آية: (34). .
وجه الدلالة:
أن الله أمر بالوفاء بالعقود والعهود، وهما كل ما ألزم به المرء نفسه، والوعد من ذلك، فدلت الآيتان على وجوب الوفاء بالوعدينظر: الجامع لأحكام القرآن (6/33)، أحكام القرآن للجصاص (5/334). .
الثاني: قول الله- تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ﴾ سورة الصف، آيتا: (2-3). .
وجه الدلالة:
أن إخلاف الوعد قولٌ نَكَلَ الواعد عن فعله، فيكون قد قال ولم يفعل، وهذا هو الذي ذمته الآية، فهو دليل على تحريم إخلاف الوعد مطلقًاينظر: الجامع لأحكام القرآن (18/79)، الفروق للقرافي (4/2). .
المناقشة:
نوقش هذا بأن المراد بالآية الذين يقولون ما لا يفعلون في الأمور الواجبة، كالوعد بإنصاف من دين، أو أداء حق، ونحو ذلك من الواجباتينظر: أحكام القرآن للجصاص (5/334)، المحلى (8/30). .
الإجابة:
ويجاب عن هذا بأن ترك الواجب مذموم مطلقًا، سواء وعد به من وجب عليه أم لم يعد.
ثانيًا: من السنة:
الأول: الأحاديث التي فيها أن عدم الوفاء بالوعد من صفات المنافقين؛ كقول النبي- صلى الله عليه وسلم-: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ» رواه البخاري في كتاب الإيمان- باب علامة المنافق -، رقم (33)، (1/27)، ومسلم في كتاب الإيمان - باب بيان خصال المنافق -، رقم (59)، (1/78)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. .
وجه الدلالة:
أن إخلاف الوعد من خصال النفاق، وجميع خصال النفاق محرمة يجب اجتنابها، فدلّ ذلك على أن إخلاف الوعد محرم، وأن الوفاء به واجبينظر: الفروق للقرافي (4/20). .
المناقشة:
نوقش هذا من ثلاثة أوجه:
1- أن الحديث ورد في رجل منافق بعينه، وليس عامًّا في كل من اتصف بهذه الصفات أو بعضهاينظر: فتح الباري (1/90). .
2- أن الحديث ورد في المنافقين الذين كانوا على عهد النبي- صلى الله عليه وسلم - ينظر: مسلم بشرح النووي (2/74)، عمدة القاري (1/222)..
3- أن الحديث ليس على ظاهره؛ لأن من وعد بما لا يحل له، أو عاهد على معصية، فلا يحل له الوفاء بشيء من ذلك، فإذا كان الأمر كذلك فلا يكون فيه دليل على وجوب الوفاء بالوعد مطلقًاينظر: المحلى (8/29)..
الإجابة:
أجيب على هذه المناقشات بما يلي:
1. أما قولهم بأن المراد بالحديث شخص معين، فهذا مبني على أحاديث ضعيفة، كما قال الحافظ ابن حجرينظر: فتح الباري (1/91). ، ثم على القول بصحة ذلك، يقال : إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
2. أما قولهم بأن المراد بالحديث المنافقون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فلا دليل على هذا التخصيص. وعلى فرض صحته فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
3. أما قولهم: إن الحديث ليس على ظاهره، فهذا غير مُسَلَّم، وما ذكروه من أنه لا يحل الوفاء بما لا يحل، فليس ذلك بصارفٍ للحديث عن ظاهره؛ وذلك أن ما لا يحل لا يجوز فعله، سواء وعد به أم لم يعد. وينتقض قولهم هذا بالنذر، وهو نوع من الوعد، فقد أوجب النبي- صلى الله عليه وسلم- الوفاء بنذر الطاعة دون نذر المعصية، فقال- صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللهَ فَلَا يَعْصِهِ» رواه البخاري في كتاب الأيمان والنذور- باب النذر في الطاعة -، رقم (6696)، (4/228)، من حديث عائشة- رضي الله عنها -. ، فدلّ ذلك على أن الالتزام إذا كان يحتمل الالتزام بما لا يجوز من المحرمات، فإن ذلك لا يعني عدم لزوم الوفاء بما التزمه من الطاعة.
الثاني: قول النبي- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تُمَارِ أَخَاكَ، وَلَا تُمَازِحْهُ، وَلَا تَعِدْهُ مَوْعِدًا فَتُخْلِفَهُ» رواه الترمذي في كتاب البر والصلة- باب ما جاء في المراء -، رقم (1995)، (4/295)، من حديث عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما-. وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه". وقال العراقي في تخريج أحاديث إحياء علوم الدين (3/1128): "رواه الترمذي، وقال: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، يعني: من حديث ليث بن أبي سليم، وقد ضعّفه الجمهور"، وقال الزبيدي في إتحاف السادة المتقين (7/107): "رواه هكذا في البر والصلة من طريق ليث بن أبي سليم، قال الذهبي: فيه ضعف من جهة حديثه"، وقال الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام رقم (1526)، ص (486): "أخرجه الترمذي بسند فيه ضعف"، وقال العجلوني في كشف الخفاء (2/483): "رواه الترمذي بسند ضعيف"..
وجه الدلالة:
أن النبي- صلى الله عليه وسلم- نهى المسلم عن أن يعد أخاه موعدًا ثم يخلفه، فدل ذلك على وجوب الوفاء بالوعدينظر: تحفة الأحوذي (6/131)..
الثالث: حديث عبد الله بن عامر- رضي الله عنه- قال: دعتني أمي يومًا، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- قاعد في بيتنا، فقالت: ها، تعال أعطِك، فقال لها رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: «ما أردتِ أَنْ تُعْطيه؟» قالت: أردت أن أعطيَه تمرًا، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أَمَا إِنَّكَ لَوْ لَمْ تُعْطِيهِ شَيْئًا كُتِبَتْ عَلَيكِ كَذْبَةً» رواه أحمد في المسند (3/447) بلفظ: "أما إنك لو لم تفعلي"، وأبو داود في كتاب الأدب- باب في التشديد في الكذب -، رقم (4991)، (5/265)، من حديث عبد الله بن عامر رضي الله عنه، واللفظ له..
وجه الدلالة:
أن النبي- صلى الله عليه وسلم- جعل إخلاف الوعد من الكذب، وقد جاء تحريم الكذب في الكتاب والسنة والإجماعحكى هذا الإجماع النووي في الأذكار النووية ص (538).، فدل ذلك على وجوب الوفاء بالوعد، وتحريم إخلافه.
الرابع: قول النبي- صلى الله عليه وسلم -: «وَأيُ الْمُؤْمِنِ وَاجِبٌ» رواه أبو داود في مراسيله رقم (523)، ص (352 - 353). عن زيد بن أسلم. وقد ضعّفه ابن حزم في المحلى (8/29) بهشام بن سعد، وضعّفه الألباني في ضعيف الجامع الصغير (6127)، (6/46)..
وجه الدلالة:
أن النبي- صلى الله عليه وسلم- أخبر بأن وَأيَ المؤمن - أي: وعدهينظر: المراسيل لأبي داود ص (353)، النهاية في غريب الحديث والأثر، مادة (وأي)، (3/300). - واجب، فدلّ ذلك على تحريم إخلافه.
المناقشة:
نوقش هذا بأن الحديث ضعيف، كما بيّنته عند تخريجه.
الخامس: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وَلَا تَعِدْ أَخَاكَ وَعْدًا فَتُخْلِفَهُ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يُورِثُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ الْعَدَاوَةَ» رواه ابن حزم في المحلى (8/29)، ولم أجده في غيره مما وقفت عليه من كتب السنة.
وقد ضعّفه ابن حزم لعلتين: الأولى: أنه مرسل. والثانية: أن في إسناده إسماعيل بن عياش، وهو ضعيف، قال عنه الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب، رقم (477)، ص (142): "صدوق في روايته عن أهل بلده مخلّط في غيرهم". .
وجه الدلالة:
أن النبي- صلى الله عليه وسلم- علل النهي عن إخلاف الوعد بأمر حرَّمه الشارع، وهو أن ذلك سبب العداوة، ومعلوم أن ما كان وسيلة للمحرم، فهو محرم، فدلّ ذلك على تحريم إخلاف الوعد، ووجوب الوفاء به.
المناقشة:
نوقش هذا بأن الحديث ضعيف كما بيّنته في تخريجه.
السادس: قول النبي- صلى الله عليه وسلم-: «الوَأيُ مِثْلُ الدَّيْنِ، أَوْ أَفْضَلُ» رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت وآداب اللسان- باب الوفاء بالوعد -، رقم (465)، ص (478)، مرسلًا عن ابن لهيعة.
قال الزبيدي في إتحاف السادة المتقين (9/237): "وقال العراقي: رواه ابن أبي الدنيا في الصمت من رواية ابن لهيعة مرسلًا، وقال: الوأي، يعني الوعد، ورواه الديلمي في مسند الفردوس من حديث علي بسند ضعيف"، وقال محقق كتاب الصمت لابن أبي الدنيا، ص (478): "حديث ضعيف". .
السابع: قول النبي- صلى الله عليه وسلم-: «العِدَةُ دَيْنٌ» رواه الطبراني في المعجم الأوسط (1/149 - 150)، وأبو نعيم في تاريخ أصبهان (2/270)، والقضاعي في مسند الشهاب رقم (5)، ص (40)، والديلمي في مسند الفردوس، رقم (4082)، (3/111)، وزاد فيه: "ويل لِمَن وعد ثم أخلفَ" ثلاثًا، من حديث علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود - رضي الله عنهما -. وقد ذكره العجلوني في كشف الخفاء (2/73-74)، وقال العراقي في تخريج أحاديث إحياء علوم الدين (3/1162): أخرجه الطبراني في معجمه الأوسط والأصغر من حديث علي وابن مسعود بسند فيه جهالة"، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/1066): "وفيه حمزة بن داود، ضعفه الدارقطني"، وقال ابن رجب في جامع العلوم (2/483): "وفي إسناده جهالة"، وقد ضعّفه الألباني في ضعيف الجامع الصغير، رقم (3857)، (2/56)، وكذا الغماري في فتح الوهاب بتخريج أحاديث الشهاب، رقم (5)، (1/21)..
وجه الدلالة:
أن النبي- صلى الله عليه وسلم- شبّه الوعد بالدين من جهة اللزوم، فدلّ ذلك على وجوب الوفاء به، وعدم جواز إخلافه.
المناقشة:
نوقش هذا بأمرين:
1. أن ما في الحديثين ليس على ظاهره؛ فإن ابن عبد البر حكى الإجماع على أن من وعد رجلًا بمال أنه إذا أفلس الواعد، لم يضرب للموعود له مع الغرماءينظر: التمهيد لابن عبد البر (3/207). .
الإجابة:
يجاب عن هذا: بأن حكم النبي- صلى الله عليه وسلم- بأن العدة دية لا يلزم منه أن تكون العدة كالدين في جميع الأحكام، بل المراد- والله أعلم- أن الوعد في اللزوم ووجوب الوفاء كالدين، ثم إذا تعذر الوفاء فإنه يسقط عنه.
2. أن هذين الحديثين ضعيفان، كما هو مبين في تخريجهما.
الإجابة:
أجيب عن هذا بأن ضعف الحديثين من جهة السند لا يقدح في ثبوت ما دلا عليه إذا كان قد دلت عليه الأحاديث الأخرى، كما أنه لا مانع من الاستشهاد بالضعيف، وإن لم يكن عمدةينظر: إعلام الموقعين (1/348). .
أدلة القول الثاني:
استدل هؤلاء بالسنة والإجماع.
أولًا: من السنة:
الأول: قول النبي- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا وَعَدَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ، وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يَفِيَ فَلَمْ يَفِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ» رواه أبو داود في كتاب الأدب- باب في العدة - رقم (4995)، (5/268)، ورواه الترمذي بهذا اللفظ في كتاب الإيمان- باب علامة المنافق -، رقم (2633)، (5/20)، من حديث زيد بن أرقم - رضي الله عنه-. وقال عنه الترمذي: "هذا حديث غريب، وليس إسناده بالقوي، علي بن عبد الأعلى ثقة، ولا يعرف أبو النعمان، ولا أبو وقاص، وهما مجهولان", وقد حسّن الزبيدي الحديث في إتحاف السادة المتقين (9/244) بلفظ: "ليس الخلف أن يعد الرجل الرجل، ومن نيته أن يفي، ولكن الخلف أن يعد الرجل، ومن نيته أن لا يفي" ثم قال عن طريق أبي داود والترمذي: "قال الذهبي في المهذب: وفيه أبو النعمان، يُجهّل كشيخه أبي الوقاص، وقال الصدر المناوي في تخريج المصابيح: اشتمل على مجهولين"، وقد نقل ابن رجب في جامع العلوم (2/483) عن أبي حاتم الرازي أن الحديث مضطرب..
وجه الدلالة:
أن النبي- صلى الله عليه وسلم- لم يجعل الوفاء بالدين لازمًا، فرخّص في عدم الوفاء بشرط أن يكون الواعد ناويًا الوفاء حين الوعد، فدلّ ذلك على عدم وجوب الوفاء بالوعد.
المناقشة:
نوقش هذا بأنه محمول على ما لو لم يتمكن من الوفاء لعذر، جمعًا بينه وبين الأحاديث التي فيها النهي عن إخلاف الوعد. ويمكن أن يقال أيضًا: إن الحديث لم يتعرض لمن وعد ونيته أن يفي، ولم يفِ بغير عذر، فلا دليل فيه على أن الوفاء بالوعد ليس بواجبينظر: مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (8/615). .
الثاني: حديث الرجل- الذي قال لرسول الله- صلى الله عليه وسلم-: أَكْذِبُ امْرَأَتي ؟ فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «لا خيرَ في الكَذِبِ» فقال: يا رسول الله: أفأعدها، وأقول لها؟ فقال- صلى الله عليه وسلم-: «لا جُنَاحَ عَلَيْكَ» رواه مالك في كتاب الكلام - باب ما جاء في الصدق والكذب -، رقم (15)، (2/989)، عن صفوان بن سليم. قال ابن عبد البر في التمهيد (16/247): قال العراقي: "لا أحفظه بهذا اللفظ عن النبي- صلى الله عليه وسلم - مسندًا"، وقال الزبيدي في إتحاف السادة المتقين (9/269): "رواه ابن عبد البر في التمهيد من رواية صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار مرسلًا، وهو في الموطأ عن صفوان بن سليم معضلًا من غير ذكر عطاء بن يسار.
وجه الدلالة:
أن النبي- صلى الله عليه وسلم- لم يجعل إخلاف الوعد من الكذب، فمنع السائل من الكذب وأباح له الوعد الذي لم يعزم على الوفاء بهينظر: التمهيد لابن عبد البر (16/247). .
المناقشة:
نوقش هذا من ثلاثة أوجه:
1- أن الحديث لم يثبت مرفوعًا عن النبي- صلى الله عليه وسلم-، وقد بينته في تخريجهينظر: شرح الزرقاني على الموطأ (4/408). .
2- أنه لا دلالة فيه على عدم وجوب الوفاء بالوعد، بل فيه النهي عن الكذب، والإذن بالوعد، ومعلوم أن الوعد أمر مستقبلي قد يتيسر، وقد لا يتيسرينظر: المنتقى للباجي (7/313). .
3- أنه على التسليم بدلالته على إباحة إخلاف الوعد، فإنه مندرج تحت إباحة الكذب فيما يصلح به المرء بينه وبين أهله، وإنما نهاه النبي- صلى الله عليه وسلم- عن الكذب الصريح، ورخص له في الوعد؛ لأن الوعد أمر مستقبلي يمكن وقوعه بخلاف الكذب الصريحينظر: التمهيد لابن عبد البر (6/248). .
ثانيًا: من الإجماع:
استدل القائلون باستحباب الوفاء بالوعد، بأن أهل العلم أجمعوا على أن إنجاز الوعد مندوب إليه، وليس بفرضينظر: فتح الباري (5/290)، عمدة القاري (13/257). .
المناقشة:
نوقش استدلالهم بأن الخلاف في المسألة مشهور، فلا وجه للاحتجاج بالإجماع مع قيام الخلافينظر: فتح الباري (5/290). .
أدلة القول الثالث:
استدل هؤلاء بأنه لما تعارضت النصوص الواردة في الوعد؛ فمنها ما أوجب الوفاء بالوعد مطلقًا، ومنها ما دلّ على عدم لزوم الوفاء بالوعد؛ فإن الواجب الجمع بين الأدلة، ولا يمكن الجمع بينها إلا بأن تحمل النصوص التي فيها إيجاب الوفاء بالوعد، وتحريم إخلاف الوعد على ما إذا كان الوعد على سبب. وأما النصوص التي فيها عدم لزوم الوفاء بالوعد فتحمل على الوعد المجرد عن سببينظر: الفروق للقرافي (4/25).؛ لأن إخلاف الوعد على ما إذا كان الوعد على سبب يلحق الموعودَ ضررٌ بإخلافه، وقد جاءت الشريعة بنفي الضررينظر: المحصول في علم الأصول (6/105)، شرح المنهاج للبيضاوي (2/751). .
المناقشة:
نوقش هذا الجمع بأنه ((لا وجه له، ولا برهان يعضده لا من قرآن، ولا سنة، ولا قول صحابي، ولا قياس، فإن قيل: قد أضر الواعد بالموعود إذ كلفه من أجل وعده عملًا ونفقةً قلنا: فهب أنه كما تقولون، فمن أين وجب على من ضر بآخر وظلمه وغره أن يغرم له مالًا ؟)) المحلى (8/48). .
الإجابة:
يجاب عن هذا بعدم التسليم؛ فإن الأدلة الشرعية قد دلت على نفي الضرر، فإذا ترتب على إخلاف الوعد ضرر فإن الضرر يُزال بإيجاب الوفاء بالوعد.
الترجيح:
الذي يظهر رجحانه من هذه الأقوال هو القول بوجوب الوفاء بالوعد؛ لقوة أدلته، وسلامتها من المناقشات، وضعف أدلة القائلين بالاستحباب، وعدم انفكاكها عن المناقشات، ويتأكد الوفاء بالوعد إذا كان معلقًا على شرط أو سبب، والله أعلم بالصواب.
وبناءً على هذا الترجيح فإن الواجب على البائع الذي وعد المشتري بالهدية أن يفي بما وعد.
خامسًا: جواز كون هذه الهدية الترويجية مجهولة، كأن يقول البائع: من اشترى كذا فله هدية، أو يجد هدية داخل السلعة المبيعة، ولا يبين ما هي. وهذا مبني على أن الجهالة لا تؤثر في عقود التبرعات كما هو مذهب المالكية، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيمينظر: ص (36) من هذا الكتاب. ، والهبة من عقود التبرعات فلا تؤثر الجهالة فيها.
التخريج الثاني: أن هذه الهدية الترويجية جزء من المبيع، فالثمن المبذول عوض عن السلعة والهدية جميعًا، فالمشتري بذل الثمن ليحصل السلعة والهدية، فالعقد وقع عليهما بثمن واحد.
قال في تهذيب الفروق: ((الهبة المقارنة للبيع إنما هي مجرد تسمية، فإذا قال شخص لآخر: أشتري منك دارك بمائة على أن تهبني ثوبك. ففعل، فالدار والثوب مبيعان معًا بمائة)) (3/179). .
ما يترتب على هذا التخريج:
أولًا: جواز هذا النوع من الهدايا الترويجية بذلًا وقبولًا؛ لأنها بيع، وقد قال الله- تعالى-: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ﴾ سورة البقرة، جزء آية: (275).
ثانيًا: يُشترط في هذه الهدية جميع شروط البيع، ومن ذلك أنه لا يجوز أن تكون مجهولة، بل لابد من أن تكون معلومة إما برؤية، أو بصفة.
ثالثًا: يثبت في هذه الهدية جميع أنواع الخيار التي تثبت في عقد البيع.
رابعًا: يجب على البائع تسليم الهدية الموعودة للمشتري؛ لأنها جزء من المبيع المعقود عليه.
خامسًا: للبائع الرجوع بالهدية الترويجية مع السلعة، إذا انفسخ العقد؛ لأنها من المبيع المعقود عليه.
المناقشة لهذا التخريج:
نوقش هذا التخريج بأمرين:
1. أن الهدية الترويجية غير مقصودة بالعقد، بل هي تابعة، ولذلك فإن كلًّا من البائع والمشتري يقصد بهذا العقد السلعة، لا الهدية، وإنما جاءت الهدية لأجل الترغيب في الشراء والتشجيع عليه أو المكافأة بها، فليست الهدية جزءًا من المبيع في حقيقة الأمر.
2. أن الهدية الترويجية ليس لها أثر في الثمن بالكلية، فثمن السلعة ثابت لم يتغير بوجود الهدية، فدل ذلك على أنها ليست جزءًا من المبيع، وإلا لكان لها أثر في الثمن.
التخريج الثالث: أن هذه الهدية الترويجية ما هي إلا هبة بشرط الثواب؛ وذلك لأن قصد البائع من هذه الهدية تكثير مبيعاته وزيادتها.
ما يترتب على هذا التخريج:
أولًا: جواز هذا النوع من الهدايا إذا كان العوض المشروط معلومًا؛ لأن علم العوض في هبة الثواب واجب عند الحنفيةينظر: حاشية ابن عابدين (5/701)، ملتقى الأبحر (2/154). ، والمالكيةينظر: بلغة السالك (3/237)، منح الجليل (8/214). ، والشافعيةينظر: مغني المحتاج (2/404-405)، روضة الطالبين (5/386، والحنابلةينظر: الشرح الكبير لابن قدامة (17/8)، منتهى الإرادات (2/22). ، وابن حزم من الظاهريةينظر: المحلى (9/118)..
ثانيًا: للبائع الرجوع في هذا النوع من الهدايا الترويجية إذا لم يحصل له العوضينظر: تبيين الحقائق (5/102)، الذخيرة للقرافي (6/273)، روضة الطالبين (5/386)، كشاف القناع (4/300). ؛ وذلك لقول النبي- صلى الله عليه وسلم-: «الْوَاهِبُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا» رواه ابن ماجه في كتاب الهبات- باب من وهب هبة رجاء ثوابها -، رقم (2387)، (2/798)، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. قال البيهقي معلقًا على هذا الحديث في السنن الكبرى (6/181): "إبراهيم بن إسماعيل ضعيف عند أهل العلم بالحديث، وعمرو بن دينار عن أبي هريرة منقطع"، وقال في مصباح الزجاجة (2/236)، رقم (736): "إسناده ضعيف؛ لضعف إسماعيل بن إبراهيم بن مجمع". وقال البيهقي: "والمحفوظ عن عمرو بن دينار عن سالم عن أبيه عن عمر قال: من وهب هبة فلم يثب فهو أحق بهبته، إلا لذي رحم"، ثم ذكر طريقًا أخرى عن عمر- رضي الله عنه- موقوفًا، ثم قال: "قال البخاري: هذا أصح" أي: الموقوف على عمر- رضي الله عنه- وذكر هذا أيضًا الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير (3/73). .
المناقشة لهذا التخريج:
نوقش هذا التخريج بأن هبة الثواب عند الفقهاء: ((عطيةٌ قصد بها عوض مالي)) شرح حدود ابن عرفة (2/559). ، ولذلك اختلفوا في تكييفها ابتداءً وانتهاءً.
فذهب الحنفية إلى أنها هبة ابتداءً، بيع انتهاءينظر: ملتقى الأبحر (2/154)، البناية في شرح الهداية (9/249). .
وذهب المالكيةينظر: مواهب الجليل (6/66). ، والشافعيةينظر: شرح المحلي على منهاج الطالبين (3/114). ، والحنابلةينظر: الإنصاف (7/116)، منتهى الإرادات (2/22). إلى أنها بيعٌ ابتداء وانتهاء.
فتخريج هذا النوع من الهدايا الترويجية على هبة الثواب فيه بعدٌ؛ لأن الواهب لا يرجو عوضًا ماليًّا عن هذه الهبة، بل مقصوده تشجيع المشتري، وحفزه على الشراء، كما أن الموهوب له إذا أقدم على الشراء وبذل المال، فإنه لا يريد بذلك مكافأة البائع على هبته الترويجية، بل يريد بذلك السلعة أو الخدمة.
ثم إن هناك فرقًا جوهريًّا بين هبة الثواب والهدية الترويجية، وهو أن هبة الثواب تُبذل ثم يطلب عوضها، أما الهدية الترويجية فإنها لا تكون إلا بعد حصول الشرط الذي عُلِّقت عليه، وهو الشراء، فهذا كله يوضح أن تخريج هذا النوع من الهدايا الترغيبية على هبة الثواب ضعيف جدًّا.
التخريج الرابع: أن هذه الهدية الترويجية من الهدايا المحرمة التي يُتذرع بها إلى أكل أموال الناس بالباطل، والإضرار بالتجار الآخرينينظر: فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم رقم (1580)، (7/77)، فتاوى البيوع والمعاملات ص (287)، 99 سؤالًا وجوابًا ص (82، 83، 90)، فتاوى للشيخ عبد الله الجبرين. .
ما يترتب على هذا التخريج:
أولًا: تحريم هذه الهدايا الترويجية بذلًا، وقبولًا؛ وذلك لأمور:
1- أن فيها احتيالًا وتمويهًا وتغريرًا بالناس لأكل أموالهم بشتى الحيلينظر: فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم، رقم (1580)، (7/77). .
2- أن هذه الهدايا لا مقابل لها، وهي لم تُبذل تبرعًا، بل بُذلت على سبيل المعاوضة، فأين عوضهاينظر: المنتقى من فتاوى الشيح صالح الفوزان (3/221 - 222). ؟
3- أن في هذه الهدايا إضرارًا بالتجار الذين لم يستعملوهاينظر: المنتقى من فتاوى الشيح صالح الفوزان (3/221 - 222). ، وقد قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: «لَا ضَرَرَ، وَلَا ضِرَارَ» رواه أحمد (5/313، 326-327)، وابن ماجه في كتاب الأحكام - باب من بنى في حقه ما يضرّ بجاره -، رقم (2340، 2341)، كلاهما عن عبادة بن الصامت، وابن عباس- رضي الله عنهم-. وكلا الطريقين لا يخلو من ضعف. فأما حديث عبادة ففيه انقطاع، كما قال الحافظ ابن حجر في الدراية (2/282)، والبوصيري في مصباح الزجاجة (2/221)، وأشار البوصيري إلى علة أخرى في هذا الإسناد (2/179)، وهي ضعف إسحاق بن يحيى بن الوليد الراوي عن عبادة، ونقل عن البخاري وابن حبان وابن عدي أنه لم يدرك عبادة. وأما حديث ابن عباس فقال عنه ابن عبد البر في التمهيد (20/175): "إن هذا الحديث لا يستند من وجه صحيح"، وقال عنه البوصيري في مصباح الزجاجة (2/222): "هذا إسناد فيه جابر وقد اتهم"، وقال ابن رجب بعد ذكر هذا الطريق في جامع العلوم (2/209): "وجابر الجُعْفي ضعَّفه الأكثرون". وعلى كل حال فللحديث طرق كثيرة قد استوعبها الزيلعي في نصب الراية (4/384 - 386)، والألباني في إرواء الغليل (3/408- 414). ومع تعدد هذه الطرق فقد قال عنه ابن حزم في المحلى (8/241): "هذا خبر لم يصح قط". وقال عنه ابن عبد البر في التمهيد بعد كلامه على بعض طرقه: ((وأما معنى هذا الحديث فصحيح في الأصول))، وقد حسّنه النووي في الأربعين وابن رجب في شرحها (2/210)، ونقل عن أحمد وابن صلاح وأبي داود قبوله. وقال عنه المناوي في فيض القدير (6/432): ( (وله طرق يقوي بعضها بعضًا، وقال العلائي: للحديث شواهد ينتهي مجموعها إلى درجة الصحة والحسن المحتج به)).
المناقشة لهذا التخريج:
يناقش هذا التخريج بأمرين:
الأول: أن الأصل في المعاملات الحل، ولم يقم ما يوجب تحريم هذه الهدايا الترويجية.
الثاني: أن ما ذكر من تعليلات للقول بالتحريم، يناقش بما يلي:
1- أن هذه الهدايا الترويجية وسيلة لترغيب الناس في الشراء، وتشجيعهم على التعامل مع من يستعملها، فهي ليست لأخذ أموالهم بغير حق، ولا لتوريطهم في شراء ما لا يحتاجون، ولا لستر عيوبٍ فيما يبيعون، فلا تحيّل فيها ولا تمويه ولا تغرير، فلا تكون من أكل أموال الناس بالباطل.
2- أن هذه الهدايا ليست معاوضة، فيُطلب فيها العوض، ولا تبرعًا محضًا، بل هي مكافأة وتشجيع من البائع للمشتري على اختياره والتعامل معه، فهي نوع تبرع وإحسان.
3- أن دعوى الإضرار بالتجار الآخرين تناقش بما يلي:
أ- أن دواعي الإقبال على بائع دون آخر كثيرة متنوعة مختلفة، وليست الهدايا الترويجية هي العامل المؤثر في ذلك ليعلق عليه الحكم.
ب- أن أهل التجارات يسلكون طرقًا متعددة في جذب الناس إلى سلعهم أو خدماتهم، فينبغي ألا يحجر على أحدهم في استعمال ما أحلّه الله وأباحه من وسائل الترغيب والجذب، لكون غيره لم يستعملها، فإن ذلك نظير ما لو أن تاجرًا رغّب عملاءه، بإعطائهم خيار الشرط فيما يشترونه منه، وتميّز به دون سائرهم، فهل من الإنصاف والعدل أن يمنع ذلك؛ لكون غيره لم يستعمله؟
ت- أن الضرر الذي نهى عنه النبي- صلى الله عليه وسلم- مبناه على القصد والإرادة، أو على فعل ضرر لا يحتاج إليه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية فيما نقله عنه صاحب الفروع: ((فمتى قصد الإضرار، ولو بالمباح، أو فعل الإضرار من غير استحقاق فهو مضار، وأما إذا فعل الضرر المستحق؛ للحاجة إليه والانتفاع به لا لقصد الإضرار، فليس بمضار)) (3/286). ، وغالب من يتخذ هذه الوسائل يفعل ذلك لا لمضارة غيره، بل لحاجته إلى ترويج سلعه وخدماته.
الترجيح بين التخريجات:
تبين من خلال العرض السابق للتخريجات، وما ورد عليها من مناقشات، أن أقربها إلى الصواب تخريج الهدية الترويجية على الهبة المطلقة، على أنه لا فرق بين هذه التخريجات من حيث حكم هذه الهدايا وأنها جائزة؛ لأن الأصل في المعاملات الحل، عدا التخريج الرابع، وقد تقدمت مناقشته، وبيان ضعفه.
وقد أفتى بجواز هذه الهدايا الترويجية اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاءاللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: هي لجنة دائمة متفرعة عن هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية، يُختار أعضاؤها من بين أعضاء الهيئة، مهمتها إعداد البحوث وتهيئتها للمناقشة من قبل الهيئة، وإصدار الفتاوى في الشئون الفردية. [ينظر: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، جمع: عبد الرزاق الدويش، (1/2) ]. في المملكة العربية السعودية، وذلك في جوابها عن السؤال التالي: ((رأت شركة بترومين لزيوت التشحيم (بترولوب) مؤخرًا، وبإيعاز وتوصية من إدارة التسويق، وتنفيذ من إدارة الإنتاج، بالتنسيق مع إدارة العقود؛ عمل (كوبونات) تلصق بالكراتين عن طريق عمال الإنتاج، وتكون موجودة أصلًا في الكرتون، حتى إذا ما أتم العميل جمع عدد معين من هذه (الكوبونات) حصل على جائزة معينة بحسب عدد (الكوبونات) التي جمعها؛ والسؤال هنا: ما حكم هذا العمل؟ وهل هو من القمار والميسر؟)).
فقالت اللجنة: ((بعد دراسة اللجنة للاستفتاء أجابت بأن الأصل في المعاملات الجواز، ولم يظهر لنا ما يوجب منع هذه المعاملة المسئول عنها)).
وممن قال بجواز هذا النوع من الهدايا الترغيبية شيخنا العلامة محمد الصالح العثيمين، ففي جواب له عن حكم هذا النوع من الهدايا قال- رحمه الله-: ((إذا كانت السلع التي يبيعها هذا التاجر الذي جعل الجائزة لمن تجاوزت قيمة مشترياته كذا وكذا؛ إذا كانت السلع تباع بقيمة المثل في الأسواق فإن هذا لا بأس به)) فتاوى التجار ورجال الأعمال ص (38)، فتوى لشيخنا محمد العثيمين. .