المطلب الأول: حكمها:
الهدية من حيث الأصل مشروعة مندوب إليها، كما دلت على ذلك نصوص الكتاب، والسنة، وقد نقل غير واحد من أهل العلمحكاه: الماوردي في الحاوي الكبير (7/534)، وابن قدامة في المغني (8/240)، ونقله غيرهما. [ينظر: تبيين الحقائق (5/91)، الهداية للمرغيناني (2/247)، بلغة السالك (3/223)]. الإجماع على ذلك.
أولًا: من الكتاب:
الأول: قول الله- تعالى-: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ...﴾ سورة النحل، جزء آية: (90)..
وجه الدلالة:
أن في الآية الأمر بالإحسان، وهو الإنعام على الغيرينظر: مفردات ألفاظ القرآن، مادة (حسن)، ص (236). ، فدلت الآية على أن أصل كل إحسان الندبينظر: الذخيرة للقرافي (6/258). ، وبذل الهدية نوع من الإحسان داخل في عموم الآية.
الثاني: قول الله- تعالى-: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ....﴾ حكاه: الماوردي في الحاوي الكبير (7/534)، وابن قدامة في المغني (8/240)، ونقله غيرهما. [ينظر: تبيين الحقائق (5/91)، الهداية للمرغيناني (2/247)، بلغة السالك (3/223)]. .
وجه الدلالة:
أن الله- جلَّ وعلا- جعل إيتاء المال من خصال البر، وهذا الإيتاء الذي ذكره الله في هذه الآية شيء سوى الزكاةينظر: المحرر الوجيز لابن عطية (2/56). ، فيشمل الصدقة والهديةينظر: الحاوي الكبير (7/534)، مغني المحتاج (2/396). .
الثالث: قول الله- تعالى-: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾ سورة النساء، جزء آية: (86). .
وجه الدلالة:
أن بعض أهل العلم فسّر التحية في الآية بالهدية، وأنه إذا أهدي إلى المرء هدية، فإن المشروع في حقه أن يرد نظيرها أو أحسن منها، فدل ذلك على مشروعية الهدية والثواب عليهاينظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/465)، بدائع الصنائع (6/128)، مغني المحتاج (3/396)..
المناقشة:
نوقش هذا الاستدلال بأن المفسرين متفقون على أن المراد بالتحية في هذه الآية السلام، فتأويلها بالهدية نزع بما لا دليل عليه. فوجب حمل الآية على ظاهرهاينظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/466-467)..
الإجابة:
أجيب عن ذلك: بأن الآية تشمل الهبة والهدية؛ ((لأنها يتحيا بها، وورودها في السلام لا يمنع دلالتها)) ينظر: الذخيرة للقرافي (6/272). على مشروعية الهدية؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السببتنظر هذه القاعدة: في فواتح الرحموت (1/291)، الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (2/275)، شرح الكوكب المنير (3/177)، القواعد والفوائد الأصولية ص (240)، فتح الغفار لابن نجيم (2/59)..
الرابع: قول الله- تعالى-: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى....﴾ سورة المائدة، جزء آية: (2). .
وجه الدلالة:
أن الله- تعالى- أمر بالتعاون على البر والإحسان إلى الغير، والهدية من البر، فدلت الآية بعمومها على مشروعية الهديةينظر: الحاوي الكبير (7/534). .
الخامس: قول الله تعالى: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ سورة الحشر، جزء آية: (9). تنبيه: ذكر هذه الآية في أدلة مشروعية الهدية الزيلعي من الحنفية في تبيين الحقائق (5/91). .
وجه الدلالة:
أن الآية فيها الحث على ترك الشح، وأن تركه سبب للفلاح الذي هو حصول المطلوب والأمن من المرهوب، وبذل الهدية للغير لا يكون إلا بترك شح النفس، فدلت الآية بعمومها على مشروعية الهدية.
ثانيًا: من السنة:
الأول: قول النبي- صلى الله عليه وسلم-: «تَهَادَوْا تَحَابُّوا» رواه البخاري في الأدب المفرد- باب قبول الهدية-، رقم (594)، ص (208)، والدولابي في كتاب الكنى والأسماء (1/150)، وتمام في كتاب الفوائد، رقم (1577)، (2/220) ؛ كلهم من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه -..
وجه الدلالة:
أن النبي- صلى الله عليه وسلم- أمر بالهدية، وحثّ عليها، وبين الغاية منها، وهي حصول المحبة بين المتهادين.
الثاني: قول النبي- صلى الله عليه وسلم-: «يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ، لَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا، وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ»قوله: فِرْسِنَ شاةٍ: عظم قليل اللحم، وهو ظلف الشاة. [النهاية في غريب الحديث والأثر، مادة (فرسن)، (3/429)]. ))رواه البخاري في كتاب الهبة- باب الهبة وفضلها والتحريض عليها -، رقم (2566)، (2/227)، ومسلم في كتاب الزكاة- باب الحث على الصدقة ولو بالقليل-، رقم (130)، (2/714)؛ من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه -. .
وجه الدلالة:
أن النبي- صلى الله عليه وسلم- ندب المسلمات إلى أن تهدي المسلمة إلى جارتها، ولو أن تهدي لها الشيء اليسير، أو ما لا يُنتفع به في الغالبينظر: فتح الباري (5/198)، (10/445). ، كظلف الشاة القليل اللحم.
الثالث: قول النبي- صلى الله عليه وسلم-: «تَهَادَوْا؛ فَإِنَّ الْهَدِيَّةَ تُذْهِبُ وَحَرَ الصَّدْرِ» رواه أحمد (2/405)، والترمذي في كتاب الولاء والهبة- باب في حث النبي- صلى الله عليه وسلم- على التهادي -، رقم (2130)، (4/441)، من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه-. وفي سنديهما أبو معشر نَجيح مولى بني هاشم، قال الترمذي (4/441): "هذا حديث غريب من هذا الوجه جدًّا، وأبو معشر اسمه نجيح مولى بني هاشم، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قِبل حفظه". ورواه القضاعي في مسند الشهاب، رقم (660) بلفظ: "تهادوا فإن الهدية تذهب بالضغائن".
من حديث عائشة- رضي الله عنها-. وقال عنه- أي عن رواية عائشة- ابن الملقن في خلاصة البدر المنير (2/118): "قال ابن طاهر: لا أصل له، وقال ابن الجوزي: لا يصح، وروي من طرق أخرى كلها ضعيفة". .
وجه الدلالة:
أن النبي- صلى الله عليه وسلم- أمر بالهدية؛ لما فيها من إذهاب وَحَرَ الصدر- وهو الحقد والغيظوقيل: العداوة، وقيل: أشد الغضب [ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، مادة (وحر)، (5/160)]. - فدلّ ذلك على مشروعية الهدية.
فهذه الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع تدل على مشروعية الهدية واستحبابها، إلا أنه قد يعرض للهدية أسباب تخرجها عن ذلك إلى الكراهة أو التحريم، كالهدية لأرباب الولايات والعمال ممن لم تجر له عادة بمهاداتهم قبل ولايتهم وعملهم. وكالهدية لمن يستعين بها على معصية، ونحو ذلك من الأسباب.