المطلب الثالث: الميسر في المعاملات:
تحريم الميسر أصل من أصول الشريعة في باب المعاملات، أجمع عليه أهل العلم إجماعًا قطعيًّاحكى هذا الإجماع: القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (6/94)، وشيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (32/220)، وابن حجر في فتح الباري (8/497). .
وقد دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة، فمن الكتاب قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ والْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ سورة المائدة، الآيتان: (90، 91)..
وجه الدلالة:
دلت هاتان الآيتان على تحريم الميسر، دلالة واضحة؛ حيث وصفه الله- سبحانه- بأنه رجس، وأنه من عمل الشيطان، وأمر باجتنابه. ثم إنه بيّن كونه سببًا لوقوع العداوة، والبغضاء، والصد عن ذكر الله، وعن الصلاة؛ ثم أكد النهي السابق، فقال- جلَّ وعلا -: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾، فدلت الآيتان على تحريم الميسر دلالة لا إشكال فيها ولا نزاع، فكل معاملة توقع العداوة والبغضاء بين الناس فإنها داخلة في الميسر المحرم.
ومن السنة: قول النبي- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ: تَعَالَ أُقَامِرْكَ، فَلْيَتَصَدَّقْ» رواه البخاري في كتاب التفسير- باب (أفرأيتم اللات والعزى) -، رقم (4860)، (3/299)، ومسلم في كتاب الإيمان- باب من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله-، رقم (1647)، (3/1267).من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه -. .
وجه الدلالة:
أن النبي- صلى الله عليه وسلم- جعل الدعوة إلى القمار، سواء في المغالبات، أو المعاملات سببًا يوجب التكفير بالصدقة، فدل ذلك على أنه محرمصحيح مسلم بشرح النووي (11/107). .
ومما يدل على تحريمه أيضًا نهي النبي- صلى الله عليه وسلم- عن بيع الحصاةبيع الحصاة: هو أن يقول البائع أو المشتري: إذا نبذت إليك الحصاة فقد وجب البيع، أو بعتك ما تقع عليه حصاتك من السلع إذا رميت، ونحو ذلك. ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، مادة (حصا)، (1/398)] .، وبيع الغرر رواه مسلم في كتاب البيوع- باب بطلان بيع الحصاة، والبيع الذي فيه غرر-، رقم (1513)، (3/1153). ، وعن بيع حبل الحبلةرواه البخاري في كتاب البيوع- باب بيع الغرر وحبل الحبلة -، رقم (2143)، (2/100). ومسلم في كتاب البيوع، باب تحريم بيع حبل الحبلة، رقم (1514)، (3/1153) من حديث عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما-. ، وعن بيع عَسْب الفحلرواه البخاري في كتاب البيوع- باب عَسْب الفحل -، رقم (2284)، (2/138). من حديث عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما -.، ونحو ذلك من المعاملات التي هي من جنس الميسرينظر: مجموع الفتاوى (14/471)، زاد المعاد (5/824). .
هذا بعض ما استدل به أهل العلم على تحريم الميسر، ومن نظر إلى قواعد الشريعة علم علمًا جازمًا بأنها لا تبيح الميسر على كل حال، سواء في المعاملات، أو المغالبات؛ قال ابن القيم- رحمه الله-: ((وإذا تأملت أحوال هذه المغالبات رأيتها في ذلك كالخمر، قليلها يدعو إلى كثيرها، وكثيرها يصد عما يحبه الله ورسوله، ويوقع فيما يبغضه الله ورسوله، فلو لم يكن في تحريمها نص لكانت أصول الشريعة، وقواعدها، وما اشتملت عليه من الحكم والمصالح، وعدم الفرق بين المتماثلين، توجب تحريم ذلك، والنهي عنه)) الفروسية لابن القيم ص (175-176). .
ولما كانت شريعة الإسلام قائمة بالعدل والقسط في جميع أحكامها، وما جاءت به؛ فإنها منعت كل المعاملات التي يدخلها الميسر؛ وضابط ذلك هو كل المعاملات التي يكون الداخل فيها مترددًا بين الغنم أو الغرم، الناشئين عن غرر محض ومخاطرة، ويكون ذلك سببًا لوقوع العداوة والبغضاء بين الناسينظر: شرح السنة للبغوي (6/279)، نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (3/243)، القواعد النورانية ص (158، 159)، حجة الله البالغة (2/108). ؛ قال ابن القيم: ((وما نهى عنه النبي- صلى الله عليه وسلم- من المعاملات... هي داخلة، إما في الربا، وإما في الميسر، فالإجارة بالأجرة المجهولة مثل أن يكريه الدار بما يكسبه المكتري في حانوته من المال، هو من الميسر)) إعلام الموقعين (1/387).، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((فإن عامة ما نهى عنه الكتاب والسنة من المعاملات يعود إلى تحقيق العدل، والنهي عن الظلم؛ دقه وجله، مثل أكل المال بالباطل، وجنسه من الربا والميسر)) مجموع الفتاوى (28/385).. ولذلك نهى الشارع عن بيع الغرر والخطر؛ لما فيه من أكل المال بالباطل ولكونه مطية العداوة والبغضاء بين الناسينظر: الفتاوى الكبرى (3/428)، الإرشاد إلى معرفة الأحكام ص (110). .