المطلب الثاني: الربا في المعاملات:
تحريم الربا أصل من أصول الشريعة في باب المعاملات، وهو معلوم من الدين بالضرورةينظر: المقدمات والممهدات (2/8). ، فإن تحريمه ثابت بالكتاب، والسنة، والإجماع.
فمن أدلة الكتاب قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ آل عمران: 130. .
ومن أدلة السنة حديث جابر رضي الله عنه: «لعن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- آكِلَ الرِّبَا، ومُوكِلَه، وكاتِبَهُ، وشاهِدَيْهِ» رواه مسلم بهذا اللفظ في كتاب المساقاة- باب لعن آكل الربا وموكله - رقم (1598)، (3/1219)، ورواه أيضًا عن ابن مسعود رضي الله عنه، رقم (1597)، وليس فيه ذكر الكاتب والشاهدين، وبنحو هذا رواه البخاري في كتاب البيوع- باب موكل الربا- رقم (2086)، (2/84)، من حديث أبي جحيفة- رضي الله عنه-..
أما الإجماع؛ فقد أجمع أهل العلم على أصل تحريم الربا في المعاملات إجماعًا قطعيًّاوممن حكاه: ابن حزم في مراتب الإجماع ص (103)، وابن رشد في المقدمات والممهدات (2/8)، والماوردي في الحاوي الكبير (5/74)، والنووي في المجموع شرح المهذب (9/391)، وشيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (29/419).، بل قال بعض أهل العلم: إن تحريم الربا مما اتفقت عليه الشرائعينظر: المقدمات والممهدات (2/5)، الحاوي الكبير (5/74). . ومع ذلك فإن أهل العلم اختلفوا في تفاصيل مسائله وأحكامه وفي تعيين شرائطه.
وأول ما حرم الله- عز وجل- من الربا، ربا الجاهلية الذي قال فيه المشركون: ﴿إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا﴾ البقرة: 275. ، وهو الذي يقول فيه صاحبُ الدَّيْنِ للمدِين: إما أن تقضي وإما أن تربي. قال الله تعالى في تحريم هذا النوع: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ آل عمران: 130. .
وقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُهُ رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؛ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ» رواه مسلم في كتاب الحج- باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم- رقم (1218)، (2/889)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. ، فحرمه الله ورسوله، لما فيه من الظلم، وأكل المال بالباطل؛ فإن الزيادة التي يأخذها ربُّ الدَّيْنِ يأخذها على غير عوضينظر: مجموع الفتاوى (29/419)، (20/341، 350)، إعلام الموقعين (1/387)، الموافقات للشاطبي (4/40)..
ثم إن السنة النبوية ألحقت بربا الجاهلية كل ما فيه زيادة من غير عوض، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم -: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، سَوَاءٌ بِسِوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ». أخرجه مسلم: كتاب المساقاة، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدا، رقم (1588).
وألحقت به أيضًا بيع النَّساء، - أي: التأجيل والتأخير - إذا اختلفت الأصناف؛ لأن النساء في أحد العوضين الربويين المتفقين في علة الربا يقتضي الزيادة، ولذلك قال النبي- صلى الله عليه وسلم- بعد ذكر الأصناف الستة: «فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ، فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ، إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ» رواه مسلم في كتاب المساقاة- باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدًا-، رقم (1587)، (2/160)، من حديث عبادة بن الصامت- رضي الله عنه -. ، ويدخل في هذا المعنى القرض يجر نفعًاينظر: مجموع الفتاوى (19/283-284)، إعلام الموقعين (2/136-137)، الموافقات للشاطبي (4/41-42). فإن الإجماع منعقد على تحريم اشتراط الزيادة في القرضممن حكى هذا الإجماع: ابن المنذر، نقله عنه ابن قدامة في المغني (6/436)، وابن عبد البر في التمهيد (4/68)..
فنصوص تحريم الربا تتناول كل ما تقدم من الأقسام، وبهذا يتبين أن وجود الربا في المعاملات سبب لتحريمها، ومنعها شرعًاينظر: بداية المجتهد (2/125)، مجموع الفتاوى (29/419). (5) تفسير ابن كثير (1/327)، وينظر: الموافقات للشاطبي (4/42).، إلا أن الحكم في كثير من الأحيان، بأن هذه المعاملة ربوية أو لا، يحتاج إلى نظر عميق، وتأن رشيد، فليس الفقه بالتشديد، فإن ذلك يحسنه كل أحد، إنما الفقه الرخصة من الثقة. وقد نبه إلى ذلك ابن كثير- رحمه الله- فقال: ((باب الربا من أشكل الأبواب على كثير من أهل العلم)) تفسير ابن كثير (1/327)، وينظر: الموافقات للشاطبي (4/42).. فالواجب التحري والتأني في الحكم، حتى إذا لم يصب الباحث السداد، فلا أقل من المقاربة.