المطلب الثاني: الظلم في المعاملات:
اتفقت الشرائع الإلهية على وجوب العدل في كل شيء وعلى كل أحد، وتحريم الظلم في كل شيء وعلى كل أحد، فأرسل الله- جلَّ وعلا- الرسل، وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط والعدل في حقوقه- جلَّ شأنه- وفي حقوق عبادهينظر: مجموع الفتاوى (29/263). ، كما قال تبارك وتعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ الحديد: 25. . وتأكيدًا لوجوب العدل، وتحريم الظلم، حرم الله الظلم على نفسه أولًا، ثم جعله بين الخلق محرمًا، فقال- تعالى- في الحديث الإلهي: «يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعْلَتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا» رواه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب- باب تحريم الظلم- رقم (2577)، (4/1994)، من حديث أبي ذر رضي الله عنه. ، فالظلم لا يباح شيء منه بحال، والعدل واجب في جميع الأحوالينظر: مجموع الفتاوى (30/237-240). ، فلا يحل لأحد أن يظلم غيره، سواء كان مسلمًا أو كافرًاينظر: مجموع الفتاوى (18/166)، جامع العلوم والحكم (2/36).، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ المائدة: 8.؛ وذلك أن الظلم أصل الفساد، والعدل أصل الفلاح، به تقوم مصالح العباد في المعاش والمعاد، فلا غنى بالناس عنه على كل حالينظر: الداء والدواء، ص (255)، الفوائد لابن القيم، ص (253)، المجموعة الكاملة لمؤلفات الشيخ السعدي (5/293). . فهو أوجب الواجبات، وأفرض الطاعاتينظر: بدائع التفسير الجامع لتفسير ابن القيم (4/391)، نقلًا عن الجواب الكافي، ص (190). . ولما كانت التجارات والمعاملات فيها بابًا عظيمًا من أبواب ظلم الناس، وأكل أموالهم بالباطلينظر: مجموع الفتاوى (29/469). ،كان منع الظلم وتحريمه من أهم مقاصد الشريعة في باب المعاملات والتجارات، فمنع الظلم ووجوب العدل من أكبر قواعد الشريعة في باب المعاملات وأهمهاينظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/97)، الموافقات للشاطبي (3/48)..
وقد جاءت نصوص الوحيين آمرة بالعدل، ناهية عن الظلم وأكل المال بالباطل، فمن ذلك قول الله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ البقرة: 188. .
وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ النساء: 29..
وقوله تعالى: ﴿وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ﴾ الأعراف: 85..
وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ص: 24..
والآيات في هذا المعنى كثيرة يصعب حصرها؛ إذ كل ما نهى الله عنه راجع إلى الظلمينظر: مجموع الفتاوى (18/157). .
وأما الأحاديث التي فيها منع الظلم، وتحريمه في المعاملات، والأموال، فكثيرة أيضًا؛ منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ، وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ؛ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا» رواه البخاري في كتاب العلم- باب قول النبي: "رب مبلغ أوعى من سامع"- رقم (67)، (1/41)، ومسلم في كتاب القسامة- باب تغليظ تحريم الدماء، والأعراض، والأموال- رقم (1679)، (3/1305)، من حديث أبي بكرة رضي الله عنه..
وقوله صلى الله عليه وسلم: «بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ» رواه مسلم في كتاب المساقاة- باب وضع الجوائح- رقم (1554)، (3/1190)، من حديث جابر رضي الله عنه .
وقوله صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ» رواه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب- باب تحريم ظلم المسلم، وخذله، واحتقاره..، رقم (2564)، (4/1986)، من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه. .
ومن الأدلة على وجوب منع الظلم، ووجوب إقامة العدل، إجماع أهل العلم على تحريم أخذ أموال الناس ظلمًا وعَدْوًاينظر: مراتب الإجماع ص (67). .
فتبين من هذا كله أن العدل، ومنع الظلم، أصل واجب في جميع المعاملات، من البياعات والإجارات، والمشاركات، والوكالات، والهبات، ونحو ذلك؛ لأنه لا تستقيم للناس معاملاتهم إلا بذلكينظر: مجموع الفتاوى (28/385). .
ويؤكد هذا المعنى أن جميع ما جاء النهي عنه من المعاملات في الكتاب والسنة، يعود في الحقيقة إلى إقامة العدل، ونفي الظلمينظر: بداية المجتهد (2/126 - 127، 165)، مجموع الفتاوى (29/283، 28/385، 18/157). . فالشارع الحكيم نهى عن الربا لما فيه من الظلم، ونهى عن الميسر؛ لما فيه من الظلم وأكل المال بالباطلينظر: إعلام الموقعين (1/387). ، ونهى عن أنواع كثيرة من البيوع؛ لما فيها من الظلم والبغي بغير الحقينظر: مجموع الفتاوى (29/283). ، وذلك كنهيه عن بيع المصراةالمصراة: هي الناقة، أو البقرة، أو الشاة يصرى اللبن في ضرعها، أي: يجمع ويحبس. [ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، مادة (ص ر ا)، (3/273)، المصباح المنير، مادة (ص ر ي)، ص (177) ]. ، والمعيب، ونهيه عن النجشالنجش: هو الزيادة في ثمن السلعة، من غير قصد الشراء، بل ليغري غيره، أو ليروِّجها. [ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، مادة (نجش)، (5/21)، المصباح المنير، مادة (ن ج ش)، ص (306)].، والبيع على بيع أخيه المسلم، وعن تلقي السلع، وعن الغبن، وعن الغش، وعن التدليس على الناس بتزيين السلع الرديئة، والبضائع المزجاة، وتوريطهم بشرائهاينظر: تفسير المنار (2/196). ، وغير ذلك كثير؛ فإن عامة ما نهي عنه من المعاملات يرجع المعنى فيها إلى منع الظلم.