المبحث الأول: الأصل في المعاملات:
اختلف أهل العلم- رحمهم الله- في الأصل في المعاملات هل هو الإباحة أو الحظر؟ على قولينتنبيه: وَهِمَ بعض من بحث هذه المسألة، فجعل فيها ثلاثة أقوال: قول بالإباحة، وقول بالحظر، وقول بالوقف، وفي هذا نظر، كما قال الزركشي في البحر المحيط في أصول الفقه (6/12): "لم يحكوا هنا -أي: في مسألة الأصل في الأشياء بعد ورود الشرع- قولًا ثالثًا بالوقف كما هناك -أي: في حكم الأشياء قبل ورود الشرع- لأن الشرع ناقل، وقد خلط بعضهم بين الصورتين، وأجرى الخلاف هنا أيضًا، أي: في مسألة حكم الأشياء بعد ورود الشرع". وممن وقع في هذا الذي أشار إليه الزركشي: الشوكاني في إرشاد الفحول ص (284)؛ حيث حكى في المسألة قولًا بالوقف، ونسبه إلى جماعة عُرف عنهم القول بالوقف في المسألة الأولى، وينظر في ذلك: شرح اللمع للشيرازي (2/977).، بناء على اختلاف قولهم في الأصل في الأشياءينظر: غياث الأمم في التياث الظلم، ص (497)، مجموع الفتاوى (29/150) بعد ورود الشرع، هل هو الإباحة أو الحظر؟
القول الأول: الأصل في المعاملات الإباحة:
وهو قول أكثر الحنفيةينظر: الفصول في الأصول للجصاص (3/252-254)، فواتح الرحموت (1/49)، غمز عيون البصائر (1/223)، الأشباه والنظائر لابن نجيم ص (66)، التقرير والتحبير (2/101)، شرح فتح القدير (7/3)، القواعد الفقهية للمفتي البركتي ص (57). تنبيه: نسب بعض أهل العلم من الشافعية القول بأن الأصل في الأشياء الحظر للحنفية؛ فقال السيوطي في الأشباه والنظائر ص (133): "وعند أبي حنيفة: الأصل فيها التحريم حتى يدل الدليل على الإباحة". وهذه النسبة مبنية فيما يبدو على النظر في فروع وردت عن أبي حنيفة- رحمه الله- وليست قولًا له، ولذلك كان الجويني أدق من السيوطي؛ حيث قال في غياث الأمم ص (492): "فالذي يقتضيه مذهب الإمام أبي حنيفة- رحمه الله- في تفصيل الأحكام إجراء الأعيان على الحظر إلا أن تقوم دلالة في الحل"، وكذا قال شيخ الإسلام في القواعد النورانية ص (206): "فهذا- أي القول بأن الأصل الحظر- قول أهل الظاهر، وكثير من أصول أبي حنيفة تبنى على هذا". لكن بالرجوع إلى كتب الحنفية يتبيّن أن في هذه النسبة نظرًا، حيث إنهم يذكرون أن الأصل في الأشياء الإباحة. قال في فواتح الرحموت (1/49): "أصل الأفعال الإباحة، كما هو مختار أكثر الحنفية والشافعية"، وقال في التقرير والتحبير (2/102): "والمختار أن الأصل الإباحة عند جمهور الحنفية والشافعية".، ومذهب المالكيةينظر: التلقين للقاضي عبد الوهاب (2/359)، الخرشي على مختصر خليل (5/149)، الذخيرة للقرافي (1/155)، نشر البنود شرح مراقي السعود ص (20- 21).، والشافعيةينظر: غياث الأمم في التياث الظلم ص (492)، المحصول في علم الأصول (6/97)، شرح المنهاج للبيضاوي (2/751)، سلاسل الذهب ص (423).، والحنابلةينظر: التمهيد في أصول الفقه (4/269-271)، شرح الكوكب المنير (1/325)، شرح مختصر الروضة (1/399)، القواعد النورانية لشيخ الإسلام ابن تيمية ص (210).، فهو قول الجمهورينظر: إعلام الموقعين (1/344).، بل قال ابن رجب : ((وقد حكى بعضهم الإجماع عليه)) جامع العلوم والحكم (2/166)..
القول الثاني: الأصل في المعاملات الحظر:
وهو قول الأبهري من المالكيةينظر: إحكام الفصول في أحكام الأصول للباجي (681)، نثر الورود شرح مراقي السعود (1/44).، وابن حزم من الظاهريةينظر: الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (5/15-16)..
ولقد استدل كل فريق بأدلة؛ من الكتاب، والسنة، والنظر. ولما كانت أدلتهم كثيرة متشعبة، اقتصرت على ما يتعلق منها بالمعاملات فقط.
أدلة القول الأول:
أولًا: من الكتاب:
الأول: الآيات التي فيها الأمر بالوفاء بالعقود والعهود؛ كقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ المائدة: 1. وقوله: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾ الإسراء: 34.، ونحو ذلك من الآيات.
وجه الدلالة:
أن الله- جلَّ وعلا- أمر بالوفاء بالعقود والعهود مطلقًا، وهذا يشمل كل تعاقد خلا من المخالفات الشرعيَّة؛ فدلّ ذلك على أن الأصل في المعاملات الإباحة، لا الحظرينظر: تفسير المنار (6/121). وهذا موجود أيضًا في القواعد النورانية..
المناقشة:
نوقش هذا الاستدلال بأن هذه الآيات ليست عامة، بل هي خاصة ببعض العقود والعهود التي دلَّ الدليل على إباحتها، فلا يدخل فيه ما لم يأتِ النص بإباحتهينظر: المحلى (8/414)..
الإجابة:
أجيب بأن تخصيص الآيات وقصرها عما دلت عليه من الإباحة لا وجه له؛ فإن ذلك يتضمن إبطال ما دلت عليه من العموم، وذلك غير جائز إلا ببرهان من الله ورسولهينظر: المحلى (8/414)..
الثاني: الآيات التي جاء فيها حصر المحرمات في أنواع، أو أوصاف؛ كقول الله تعالى: ﴿قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ﴾ الأنعام: 145. إعلام الموقعين (1/348).، وقوله: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون﴾ الأنعام: 151.، وقوله: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ سورة الأعراف: 33..
وجه الدلالة:
أن الله- عزَّ وجلَّ- حصر في هذه الآيات المحرمات بأنواع وأوصاف، ((فمالم يعلم فيه تحريم يجري عليه حكم الحل، والسبب فيه أنه لا يثبت حكم على المكلفين غير مستند إلى دليل)) غياث الأمم في التياث الظلم، ص (490)..
الثالث: قول الله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ النساء: 29..
وجه الدلالة:
أن الله- تعالى- لم يشترط في التجارة إلا التراضي، وذلك يقتضي أن التراضي هو المبيح للتجارة، وإذا كان كذلك، فإذا تراضَى المتعاقدان بتجارة، أو طابت نفس المتبرع بتبرع ثبت حِلُّه بدلالة القرآن، إلا أن يتضمن ما حرَّمه الله ورسوله كالتجارة في الخمر ونحو ذلكينظر: مجموع الفتاوى (29/155)، وينظر: غياث الأمم في التياث الظلم ص (494- 495).، فالآية أصل في إباحة جميع المعاملات، والبياعات، وأنواع التجارات متى توفر في هذه التجارة أو المعاملة الرضا المعتبر، والصدق، والعدلينظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/241)، الإرشاد إلى معرفة الأحكام، ص (102)..
الرابع: قول الله تعالى: ﴿وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ﴾ سورة الأنعام: 119.. وجه الدلالة:
أن كل ((ما لم يبين الله، ولا رسوله- صلى الله عليه وسلم- تحريمه من المطاعم، والمشارب، والملابس، والعقود، والشروط فلا يجوز تحريمها؛ فإن الله- سبحانه- قد فصّل لنا ما حرم علينا، فما كان من هذه الأشياء حرامًا فلا بد أن يكون تحريمه مفصَّلًا، وكما أنه لا يجوز إباحة ما حرَّمه الله، فكذلك لا يجوز تحريم ما عفا الله عنه، ولم يحرمه)) إعلام الموقعين (1/383)..
الخامس: قول الله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ سورة البقرة: 275..
وجه الدلالة:
أن الله- سبحانه- أباح البيع والتجارات بأنواعها؛ لما في ذلك من إقامة مصالح الناس ومعاشهم، وحرَّم الربا؛ لما فيه من الظلم، وأكل المال بالباطل، فدلَّ ذلك على أن الأصل في المعاملات الحل ما لم تشتمل على ظلم، أو أكل للمال بالباطلينظر: مجموع الفتاوى (20/349)، الإرشاد إلى معرفة الأحكام ص (101)، الفتاوى السعدية ص (316- 317)..
ثانيًا: من السنة:
الأول: الأحاديث التي فيها أن ما سكت الشارع عنه من الأعيان، أو المعاملات، فهو عفو، لا يجوز الحكم بتحريمه.
ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائِضَ، فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَنَهى عَنْ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا» رواه الدارقطني بهذا اللفظ في كتاب الرضاع، رقم (42)، (4/183-184)، والطبراني في الكبير، رقم (859)، (22/221)، والبيهقي في كتاب الضحايا- باب مالم يذكر تحريمه، ولا كان في معنى ما ذكر تحريمه مما يؤكل أو يشرب- (10/12-13)، كلهم من حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه. وقد حسّنه النووي في الأربعين رقم (30) ص (84)، وقال عنه الهيثمي في مجمع الزوائد (1/171): "رجاله رجال الصحيح". أما ابن رجب فقد ذكر للحديث علتين في شرحه على الأربعين (2/150). وقال الحافظ ابن حجر في المطالب العالية (3/72): "رجاله ثقات، إلا أنه منقطع"..
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الْحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللهُ فِي كِتَابِهِ، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللهُ فِي كِتَابِهِ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ، فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْكُمْ» رواه الترمذي بهذا اللفظ في كتاب اللباس- باب ما جاء في لبس الفراء- رقم (1726)، (4/220)، وابن ماجه في كتاب الأطعمة- باب أكل الجبن والسمن- رقم (3367)، (2/1117) ؛ كلاهما من طريق سيف بن هارون البرجمي عن سليمان التيمي عن أبي عثمان عن سلمان الفارسي رضي الله عنه. وقال الترمذي: "هذا حديث غريب، لا نعرفه مرفوعًا إلا من هذا الوجه، وروى سفيان وغيره عن سليمان التيمي عن أبي عثمان عن سلمان من قوله، وكأن الحديث الموقوف أصح، وسألت البخاري عن هذا الحديث، فقال: ما أراه محفوظًا، روى سفيان عن سليمان التيمي عن سلمان موقوفًا، قال البخاري: وسيف بن هارون مقارب الحديث"، وقال الذهبي في التلخيص (4/11): "ضعّفه جماعة". وقد روى الحاكم شاهدًا لهذا الحديث في كتاب التفسير (2/275) ؛ من طريق أبي الدرداء رضي الله عنه، وفي آخره: "وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته؛ فإن الله لم يكن لينسى شيئًا"، وتلا قول الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾ [سورة مريم: 64]، وقال عنه: "حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي، وقال عنه صاحب مجمع الزوائد (1/171): "إسناده حسن، ورجاله ثقات"، وقد نقل الحافظ ابن حجر في فتح الباري (13/266) عن البزار أنه قال في الحديث: "سنده صالح".، وغير ذلك مما هو في هذا المعنى.
وجه الدلالة:
أفادت هذه الأحاديث أن الأشياء في حكم الشرع على ثلاثة أقسام:
الأول: ما أحلَّه الله فهو حلال.
الثاني: ما حرَّمه الله فهو حرام.
الثالث: ما سكت عنه فلم يذكره بتحليل ولا تحريم فهو معفو عنه، لا حرج على فاعلهينظر: الاستقامة لابن تيمية (1/435)، الموافقات للشاطبي (1/162)، جامع العلوم والحكم (2/170).، قال ابن القيم- رحمه الله- في بيان حكم هذا القسم الثالث: ((فكل شرط، وعقد، ومعاملة سكت عنها، فإنه لا يجوز القول بتحريمها)) إعلام الموقعين (1/344- 345)، وينظر: (1/383).، ولما ذكر المجد ابن تيمية هذه الأحاديث في منتقى الأخبار(2/816).، ترجم لها، فقال: ((باب في أن الأصل في الأعيان والأشياء الإباحة إلى أن يرد منع، أو إلزام))، وكذا صنع ابن حجر أيضًا، لما ذكر حديث «إنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائِضَ...» في كتاب المطالب العالية(3/72). فقال: ((باب البيان بأن أصل الأشياء الإباحة)).
المناقشة:
نوقش هذا بأن المسكوت عنه لا يُوصف بالإباحة، ولا بالتحريم، ولا يقال: إن الشرع أذن في هذا النوعينظر: البحر المحيط في أصول الفقه (6/14). وغاية ما يفيده أنه مسكوت عنه، فلا يوصف بإباحة ولا حظر. وقد اختلف في المسكوت عنه على أقوال، أصولها قولان:
أحدهما: أنه مباح؛ والثاني: أنه محمول بالشبه والتعليل على قسم المباح، أو المحظورينظر: عارضة الأحوذي لابن العربي (7/229).. وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن العفو لا يدخل في الأحكام الخمسة، بل هو مرتبة مستقلةينظر: الموافقات للشاطبي (1/164)..
الإجابة:
يُجاب على هذا بأن القائلين بالإباحة مرادهم بأن حكم المعفو أو المسكوت عنه، هو عدم المنع، وأنه لا مؤاخذة على من فعله ولا حرج، فوصفهم له بالإباحة ليخرجوه من الحظر والتحريم.
أما قول من قال بأن المسكوت عنه محمول بالشبه والتعليل على قسم المباح أو المحظور، فليس بصواب؛ لأن العفو في اللغة: ترك الشيءينظر: معجم المقاييس في اللغة، مادة (عفو)، ص (667).، فحمله على الحظر مخالف لذلك.
وأما قول من جعله مرتبة مستقلة عن الأحكام الخمسة فلا معارضة فيه؛ إذ كونه خارجًا عن الأحكام الخمسة لا يمنع من أن يتفق مع أثر أحدها، فالشاطبي مع أنه اختار هذا الرأي، إلا أنه عرّف المسكوت عنه، أو العفو: بأنه ما "لا مؤاخذة به" الموافقات للشاطبي (1/162)..
الثاني: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ، فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ» رواه البخاري بهذا اللفظ في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة- باب ما يكره من كثرة السؤال، رقم (7289)، (4/361)، ومسلم في كتاب الفضائل- باب توقيره صلى الله عليه وسلم، وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه أو لا يتعلق به تكليف، وما لا يقع نحو ذلك- رقم (2358)، (4/1831)؛ من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه..
وجه الدلالة:
أن النبي- صلى الله عليه وسلم- حذّر من المسائل خشية أن ينزل تشديد بسبب السؤال، فدل ذلك على أن الأصل في الأشياء الإباحة، ما لم يرد ما يدل على التحريم، قال الحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث: ((وفي الحديث أن الأصل في الأشياء الإباحة حتى يرد الشرع بخلاف ذلك)) فتح الباري (13/269)، وينظر: الموافقات للشاطبي (1/174)..
ثالثًا: من النظر:
الأول: أن العقود من باب الأفعال والتصرفات العادية، وهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه؛ والأصل فيها العفو، وعدم الحظر، فيستصحب ذلك حتى يقوم الدليل على التحريمينظر: مجموع الفتاوى (29/150)، القواعد النورانية لشيخ الإسلام ابن تيمية ص (134). ؛ فإن المعتبر في هذا الباب مصالح العباد، والإذن دائر معها حيث دارتينظر: الموافقات للشاطبي (2/305-306)..
الثاني: ليس في الشرع ما يدل على تحريم جنس العقود، إلا عقودًا معينة، فانتفاء دليل التحريم دليل على عدمه ((فثبت بالاستصحاب العقلي، وانتفاء الدليل الشرعي، عدم التحريم، فيكون فعلها إما حلالًا، وإما عفوًا؛ كالأعيان التي لم تحرم)) مجموع الفتاوى (29/150)..
الثالث: أنه لا يُشترط في صحة العقود إذن خاص من الشارع، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((فإن المسلمين إذا تعاقدوا بينهم عقودًا، ولم يكونوا يعلمون لا تحريمها، ولا تحليلها، فإن الفقهاء جميعهم فيما أعلمه يصححونها، إذا لم يعتقدوا تحريمها. وإن كان العاقد لم يكن حينئذ يعلم تحليلها لا باجتهاد ولا بتقليد، ولا يقول أحد: لا يصح العقد إلا الذي يعتقد أن الشارع أحله، فلو كان إذن الشارع الخاص شرطًا في صحة العقود، لم يصح عقد إلا بعد ثبوت إذنه)) مجموع الفتاوى (29/159)، وينظر: غياث الأمم في التياث الظلم ص (495)، الموافقات للشاطبي (1/39-40)..
أدلة القول الثاني:
أولًا: من الكتاب:
الأول: قول الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ البقرة: 229..
وجه الدلالة:
أن الله- عز وجلَّ- حرم تعدي حدوده، وحكم على من تعداها بأنه ظالم، فمن قال بأن الأصل في المعاملات الإباحة فقد تعدى حدود الله- تعالى- بإباحة ما منع.
المناقشة:
نوقش هذا بأن ((تعدي حدود الله هو تحريم ما أحلَّه الله، أو إباحة ما حرَّمه الله، أو إسقاط ما أوجبه؛ لا إباحة ما سكت عنه وعفا عنه، بل تحريمه هو نفس تعدي حدوده)) إعلام الموقعين (1/348)..
الثاني: قول الله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ المائدة: 3..
وجه الدلالة:
إخبار الله- تعالى- الأمة بإكمال الدين، فمن أباح العقود التي لم تجئ في الشرع، فقد زاد في الدين ما ليس منهينظر: القواعد النورانية ص (210)..
المناقشة:
نوقش هذا بأن من كمال الشريعة، وبديع نظامها؛ أنها دلت على إباحة المعاملات التي يحتاجها الناس في دنياهم، فالشريعة قد جاءت في باب المعاملات
بالآداب الحسنة، فحرمت منها ما فيه فساد، وأوجبت ما لا بد منه، وكرهت ما لا ينبغي، وندبت إلى ما فيه مصلحة راجحة، وما لم يرد في الشريعة تحريمه أو إباحته فهو مسكوت عنهينظر: غياث الأمم في التياث الظلم ص (495)، الموافقات للشاطبي (2/225-226)، إعلام الموقعين (1/350)..
الثالث: قول الله تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ سورة النحل: 116. .
وجه الدلالة:
أن الله- تعالى- أنكر على الذين يحللون ويحرمون من غير برهان، وجعله افتراء عليه؛ إذ إن التحريم ليس إلينا، بل هو من حقوق الرب جلَّ شأنه.
المناقشة:
نوقش هذا بأن الله أنكر على من أحل وحرم من غير دليل، أما من قال: هذا حلال، وهذا حرام؛ مستندًا إلى النصوص عمومها أو خصوصها، فإنه غير داخل في هذه الآيةينظر: إرشاد الفحول ص (285).، والقائلون بأن الأصل في المعاملات الإباحة استندوا في قولهم إلى أدلة من الكتاب، والسنة، والنظر، فليس هذا من افتراء الكذب على الله.
ثانيًا: من السنة:
الأول: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللهِ، مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، قَضَاءُ اللهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللهِ أَوْثَقُ» رواه البخاري بهذا اللفظ في كتاب البيوع- باب إذا اشترط شروطًا في البيع لا تحل- رقم (2168)، (2/106)، ومسلم في كتاب العتق- باب إنما الولاء لمن أعتق- رقم (1504)، (2/1141-1143)، من حديث عائشة رضي الله عنها..
وجه الدلالة:
أن كل عقد أو شرط ليس في كتاب الله إباحته فهو باطلينظر: المحلى (8/375)، مجموع الفتاوى (29/161)، إعلام الموقعين (1/347). .
المناقشة:
نوقش هذا من وجهين:
الوجه الأول: أن المراد بقول النبي- صلى الله عليه وسلم-: «لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ»، أن يكون الشرط أو العقد مخالفًا لحكم الله، وليس المراد أن لا يذكر في كتابه- سبحانه- أو في سنة رسوله- صلى الله عليه وسلم-، ودليل هذا أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال في الحديث: «قَضَاءُ اللهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللهِ أَوْثَقُ»، وإنما يكون هذا فيما إذا خالف الشرط أو العقد قضاء الله، أو شرطه، بأن كان ذلك الشرط أو العقد مما حرمه الله تعالى، فمضمون الحديث أن العقد، أو الشرط إذا لم يكونا من الأفعال المباحة، فإنه يكون محرمًا باطلًاينظر: مجموع الفتاوى (29/160-161)، إعلام الموقعين (1/348). ، فليس في الحديث دليل على منع العقود أو الشروط التي لم تذكر في كتاب الله أو سنة رسوله- صلى الله عليه وسلم-، فلا يتم الاستدلال به على أن الأصل في الأشياء الحظر.
الوجه الثاني: ثم إنه إذا سُلِّم أن مراد النبي- صلى الله عليه وسلم- منع كل عقد أو شرط لم يذكر في كتاب الله أو سنة رسوله- صلى الله عليه وسلم- فيمكن القول بأن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ» إنما يراد به ما ليس فيه؛ لا بعمومه ولا بخصوصه، أمَّا ما كان فيه بعمومه فإنه لا يقال فيه: إنه ليس في كتاب الله. وقد ذكر أصحاب القول الأول من الأدلة ما يدل على وجوب الوفاء بالعقود والعهود، وهذا يقتضي إباحتها، فالقول بأن الأصل في العقود الإباحة لا يمكّن من القول بأنه ليس في كتاب الله، فإن ما دل كتاب الله بعمومه على إباحته، فإنه من كتاب اللهينظر: مجموع الفتاوى (29/163). ، فلا يدخل ذلك في قول النبي- صلى الله عليه وسلم-: «مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ» رواه البخاري بهذا اللفظ في كتاب البيوع- باب إذا اشترط شروطًا في البيع لا تحل- رقم (2168)، (2/106)، ومسلم في كتاب العتق- باب إنما الولاء لمن أعتق- رقم (1504)، (2/1141- 1143) من حديث عائشة رضي الله عنها. .
الثاني: قول النبي- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» رواه البخاري بهذا اللفظ معلقًا في كتاب البيوع- باب النجش- (2/100)، وموصولًا بلفظ: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" في كتاب الصلح- باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود- رقم (2697)، (2/267)، ورواه مسلم بهذا اللفظ في كتاب الأقضية- باب نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور- رقم (1718)، (3/1344)؛ من حديث عائشة رضي الله عنها. .
وجه الدلالة:
أن كل عقد لم يرد في الشرع إباحته فهو مردود ممنوع، فصح بهذا الحديث بطلان كل عقد، إلا عقدًا جاء النص، أو الإجماع بإباحتهينظر: الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (5/42). .
المناقشة:
نوقش هذا بعدم التسليم؛ فإن الحديث ليس فيه ما يدل على أن الأصل في المعاملات الحظر؛ وذلك أن النبي- صلى الله عليه وسلم- أخبر بأن من عمل عملًا عقدًا، أو شرطًا، أو غير ذلك يخالف ما عليه أمره- صلى الله عليه وسلم- فهو مردود باطل، وهذا لا إشكال فيه، فهو محل اتفاق؛ وإنما الكلام فيما لم يرد فيه عن النبي- صلى الله عليه وسلم- شيء، فلا يمكن أن يقال في مثل هذا: إنه ليس على أمر النبي- صلى الله عليه وسلم-، فلا يتم الاستدلال به على أن الأصل في المعاملات الحظر.
الترجيح:
بعد عرض قولي العلماء في هذه المسألة، وأدلتهم، ومناقشات الأدلة، تبين أن القول الأول، وهو أن الأصل في المعاملات الإباحة، أرجح من القول بالحظر؛ لقوة أدلته، وسلامتها من المناقشة، وضعف أدلة القائلين بأن الأصل الحظر، وعدم انفكاكها عن المناقشات، ولما في هذا القول من المشقة والحرج الذي لا تأتي به شريعة أرحم الراحمين؛ فليس للناس بدٌّ من المعاملات والعقود، فتكليفهم طلب الدليل لكل ما يتعاملون به مما لا دليل على منعه يتضمن تعطيل مصالح الناس وإلحاق المشقة والعنت بهم، قال الجويني: ((ووضوح الحاجة إليها - أي إلى إباحة العقود التي لم يأتِ في الشرع تحريمها- يغني عن تكلُّف بسطٍ فيها، فليصدروا العقود عن التراضي، فهو الأصل الذي لا يغمض ما بقي من الشرع أصل، وليجروا العقود على حكم الصحة)) غياث الأمم في التياث الظلم ص (495).، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((والأصل في هذا أنه لا يحرم على الناس من المعاملات التي يحتاجون إليها إلا ما دل الكتاب والسنة على تحريمه)) مجموع الفتاوى (28/386). .