المقدم: مرحبًا بكم مستمعينا الكرام في هذه الحلقة المباشرة من برنامجكم الدين الحياة، وحديثنا في هذه الحلقة عن:
"عبادة السراء والضراء"
في ضوء حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ»[صحيح مسلم:ح2999/64] إلى آخر هذا الحديث، فإن الله -سبحانه وتعالى- كما يبتلي بالسراء ليميز الشاكر من الكافر، فإنه -سبحانه وتعالى- أيضًا يبتلي عباده كذلك بالضراء ليميز الجازع من الصابر؛ لهذا يقول -سبحانه وتعالى-: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ البقرة:155.
في البداية حديثنا - شيخ خالد، يعني - عندما نتحدث أن عبادة السراء والضراء، لعل البعض يتساءل، ما المقصود بعبادة السراء والضراء؟
الشيخ: اللهم صلِّ وسلم على نبينا وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، مرحبًا بك أخي عبد الله، ومرحبًا بالإخوة والأخوات المستمعين والمستمعات.
فيما يتعلق بـ"عبادة السراء والضراء" فَهْمُ هذا ينبثق من فهم أن الإنسان خلق في هذه الحياة الدنيا للاختبار، والاختبار لا يتخذ صورةً واحدة، ولا نمطًا محددًا، بل هو اختبارٌ متنوع ومتلوِّن، ومختلف، يختلف على الإنسان نفسه في أطواره وأطباقه، فيُبتَلى بالصحة والمرض، يُبتلى بالغنى والفقر، يُبتلى بالهزيمة والنصر، يُبتلى بما يسره، ويُبتلى بما يكرهه في نفسه، واختلافه أيضًا بالنظر إلى الناس أيضًا هو مختلف اختلافًا بيِّنًا، فالناس في ذلك ليسوا على درجةٍ واحدة، فثمةَ من يبتليه الله تعالى بالغنى، ويبتليه الله بالفقر، وبأن يبتليه الله بالصحة، وأن يبتليه الله بالمرض، وأن يبتليه الله بالجاه، وأن يبتليه الله بعدم المنزلة والمكانة، وهذا كله مندرج في قول الله تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ الملك:1-2.
فهي اختبار وامتحان لسائر البشر في كل أحوالهم ومختلف أطوارهم، وتنوع ما تكون عليه شؤونهم؛ ولهذا لا يخلو إنسانٌ من بلاء، لا يخلو إنسان من اختبار، وهذا وإن تنوعت صوره إلا أنه يتفق في كونه ابتلاء ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾ الأنبياء:35، هكذا يقول الله -جل وعلا- في توضيح أن الجميع من الذكور والإناث من بني آدم من الإنس والجن في اختبارٍ وابتلاء يختبرهم الله -عز وجل- ويمتحنهم؛ ليرى ما يكون من أحوالهم المَرْضِيَّة فيفوزون بالعطاء، وما يكون من إخفاقاتهم كان لهم ما يستحقونه من العقوبة.
ولهذا ينبغي أن ينطلق الإنسان في فهمه لهذه الحياة الدنيا وما يصيبه منها على اختلاف حاله أنه اختبار ربنا، فإذا كان الإنسان في سراء فهو مبتلى، وإذا كان في ضراء فهو مبتلى؛ لأن لكل حالٍ من هذه الأحوال عبادة، ولكل حالٍ من هذه الأحوال وظيفة، يُنظر هل يأتي بها العبد على الوجه الذي يرضى الله تعالى به عنه فيكون مرضيًّا عند الله -عز وجل-؟ أم يكون على حالٍ أخرى من الإخفاق فيكون مبغوضًا عند الله -عز وجل- فلذلك يستحضر المؤمن أنه في ابتلاءٍ واختبار.
وقد ذُكِر في الآية الكريمة ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ البقرة:155، نمط من البلاء، وهو البلاء بما يكرهه الإنسان من العطاء، وما يكون من المكروهات في نقص النفس والمال والولد والأهل، لكن البلاء لا يقتصر على هذا، فالبلاء يكون بهذا، ويكون بغيره، فقد ابتلى الله تعالى أعيان خلقه بألوانٍ من البلاء، تفاوت فيها أحوالهم بالنظر إلى نوع البلاء الذي أصابهم، لكنهم في كل أحوالهم كانوا على تحقيق العبودية لله، وطاعته ما أوجب أن كانوا على حالٍ من رضى الله -عز وجل- بلغوا به المنزلة العالية.
وأضرب لذلك مثلين بنبيين كريمين في كتاب الله -عز وجل-، كلاهما أنزل الله عليه البلاء مختلفًا عن الآخر، فسليمان -عليه السلام- هو من أعظم الخلق مُلكًا؛ فقد آتاه الله ملكًا لم يؤتَه أحدٌ من بعده، وقد قال في دعائه ربَّه: ﴿وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي﴾ ص:35، الله -عز وجل- ذكر ما منَّ به عليه من ألوان النعم، لكنه ذكر أن ذلك ابتلاء ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ﴾ ص:34، وقبل ذلك قال: ﴿وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ﴾ ص:30-33، ثم ذكر فتنة أخرى، فكان على ما هو عليه من الملك وسعة التمكين إلا أنه مبتلى، بماذا وصفه الله لما نجح في الابتلاء الذي ابتلاه؟ قال: ﴿نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ ص:30 كان أوَّابًا مع ما أعطاه الله تعالى من المُكْنة والقدرة، ما مع ما أعطاه الله -عز وجل- من التمكين والتسخير للخلق الذين وصل بما سخره الله تعالى له منهم؛ أن كان في ملكٍ لم يُؤْتِه أحدًا من بعده، هذا نموذج.
وإليك نموذجًا آخر؛ وهو ما جاء وأخبر الله تعالى به من حال أيوب؛ فأيوب الله يقول الله تعالى في شأنه: ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾ ص:41، ثم بَيَّن له كيف يُشفى من هذا الذي أصابه من المرض الذي طال، وامتد وآذاه أذًى بالغًا قال: ﴿ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ﴾ ص:42، ثم لما كان ما كان من صَبْرِه على بلاء الله -عز وجل-، واحتسابه فيما أصابه من مرض قال: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ * وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ﴾، انتبه قال: ﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ ص:43-44.
نعم هذا قد ابتلاه الله تعالى بالعطاء والهبات فنجح، فوصفه الله تعالى:﴿نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾،وهذا ابتلاه الله من المكروهات من المرض الذي نزل به وما أصابه من بعد أهله وولده، فكان صادقًا، فكان كما قال الله تعالى: ﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾، فلا يضر العبد ما أصابه من حزنٍ، أو سرورٍ، من بؤسٍ أو شقاءٍ مما يحب أو يكره ما دام أنه محقق في ذلك طاعة الله، ساعٍ في رضاه، فإنه مَنْ سعى في رضى الله، وحقق مرضاته فلن يُؤَثِّر عليه ما يجريه الله تعالى من الأقدار.
وهذا يبرز ذاك المعنى الجليل الذي أشار إليه النبي الكريم -صلوات الله وسلامه عليه- فيما رواه الإمام مسلم في صحيحه من حديث سهيل قال: قال صلى الله عليه وسلم: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ» يعجب النبي صلى الله عليه وسلم من حال المؤمن الذي له من الحال ما يسترعي الانتباه، ويستدعي النظر فيم السر وراء هذا التعجب؟ «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ» إن أمره يعني إن شأنه، في كل أحواله، في السعة والضيق، والبسط والإقتار في الرزق والإمساك، في الصحة والمرض، في الغنى والفقر، والفرح والحزن، في النصر والهزيمة، في القوة والضعف، في الصغر والكبر، وفي سائر أحواله.
عجبًا له، إن أمره في كل هذه الأحوال له خير «وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ» أي: لا ينال هذا العجب، وهذا الخير في اختلاف الأحوال وتغيُّرها وتقلبها إلا المؤمن، «إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ»، إنْ أصابَه ما يسرُّه في نفسه، أو في ماله، أو في أهله، أو في ولده، أو في بلده، إذا أصابتْه سراء شكر، شكر، أي: قام بحق هذه النعمة، فالشكر هنا ليس المقصود به فقط أن يقول: الحمد لله، أو الشكر لله ونحو ذلك، بل الشكر بمعناه الواسع الذي يشمل شُكْر القلب بإضافة النعمة إلى الله، وشكر اللسان بالثناء على الله -عز وجل- والتحدث بنعمه، وشكر الجوارح في شكر هذه النعمة فيما يرضي الله تعالى؛ بهذا يحقق الشكر بالقلب واللسان والجوارح، وهذا هو الشكر على وجه الكمال، فإن الشكر لا يكون فقط كما يتصرف بعض الناس فقط بأن يقول بلسانه: شكرًا أو الحمد لله، أو أشكر الله أو نحو ذلك، هذا صورة من صور الشكر.
لكن الشكر أبعد من هذا، يشمل شكر القلب بأن يضيف الإنسان النعمة إلى الله، وأن يقرَّ بأنه هو المنعم، وألا يضيفها إلى غيره، ويكون شكر النعم أيضًا بأن يحمد الله بلسانه، يثني عليه خيرًا بهذه النعمة يتحدث بنعمة الله -عز وجل-، ويكون أيضًا استعمال هذه النعم من الصحة، أو الغنى، أو القوة، أو العطاء، يستعمل ذلك في طاعة الله، فيؤدي حق الله فيه ويستعمله فيما يقربه إلى الله -عز وجل-، وبهذا يكون شاكرًا، وهذا حال المؤمن؛ إن أصابته سراء شكر بقلبه ولسانه وبدنه، فكانت أي هذه المصيبة، أو هذه النازلة خيرًا له، خيرًا له في إيش؟ خيرًا له في دنياه، وخيرًا له في أُخْراه: خيرًا له في دنياه؛ لأن استعمال الشكر في مقابلة النعم يستوجب المزيد والبركة، قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ﴾الأعراف:96.
والإيمان والتقوى شكرٌ لله -عز وجل- على ما أنعم به على العبد من النعم والعطايا والهبات، فيكون هذا مفتاحًا للبركات، وأصرح من هذا قوله -جل وعلا-: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾إبراهيم:7، فجعل الله تعالى جزاء الشكر الزيادة، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «خَيْرًا لَهُ» هذا في الدنيا، وأما في الآخرة فإن ما أنعم الله تعالى به عليه في الآخرة يكون رفعةً في درجاته، يكون مزيدًا في عطائه، يكون سموًّا في صبر الله عليه فينال من هباته وعطاياه ما يكون مطمئنًا لقلبه شارحًا لصدره، مبلغًا له درجة الفوز، أسأل الله أن يجعلني وإياكم من هذا؛ مَنْ إذا أصابته سراء شكر فكان خيرًا له.
وكذلك القسم الثاني: «إِنْ أصَابتْهُ ضرَّاءُ صَبَر فَكَانَتْ خَيْرًا لَهُ»[تقدم] هذه هي الحالة الثانية للمؤمن أنه إذا أصابته ضراء، والضراء هنا اسم لكل ما يكرهه الإنسان مما يحصل له به نقصٌ وضرر، سواء كان ذلك في نفسه، أو في ماله، أو في أهله، أو في ولده، أو في مَنْ يحب، أو في بلده، كل هذا مما يدخل في الضراء وتفصيله قوله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾البقرة:155.
فهذه الألوان من البلايا هي المذكورة، أو المُجْمَلة في قوله -صلى الله عليه وسلم-: «وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ»، والصبر هو حبس النفس عن الجذع، ومنعها عن التَّسَخُّط؛ فإن أقدار الله -عز وجل- لا تُقابَل بالجزع، ولا تقابل بالتَّسَخُّط، لا يعني هذا أن يكون غير متألمٍ بما يصيبه من المصائب، بل التألم أمر طبيعي وعادي ويجري على الإنسان فيما يصيبه من المكروهات، لكن الشأن ليس في الألم، إنما الشأن في أن لا يكون هذا الألم حاملًا له على الضجر.
وإلا فالله -عز وجل- يقول في محكم الكتاب: ﴿وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ﴾ يعني: يصيبكم الألم من أعدائكم في القتل والجراح، والأسر، والاستيلاء على الأموال، والأنفس وما إلى ذلك، ﴿إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ﴾النساء:104، أي: يصيبهم من الألم ما يصيبكم، فالألم الناتج عن المكروه أمر طبيعي، وليس المطلوب ألَّا يألم الإنسان من المكروهات التي تصيبه أو تنزل، هذا لا ينافي الصبر، أما المنهي عنه هو أن يكون هذا الألم حاملًا له على الجذع.
المقدم: التسخط.
الشيخ: الضجر والتسخط؛ ولذلك قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ»[صحيح البخاري:ح1294] فهذه المظاهر التي تكون عند المصائب من لطم الخدود أو ضرب سائر البدن، أو شق الجيوب أو النياحة والجذع بالصوت العالي، كل هذا من دعوى الجاهلية التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
فقوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ»؛ لأن ذلك كله ينافي الصبر الذي ينبغي أن يكون عليه المؤمن في حاله عندما يصيبه ما يكره من الأقضية والأقدار، فينبغي أن يُقابل ذلك بالصبر، وهو حبس النفس عن الجذع بقلبه، والسُّخْط بلسانه، أو حاله فليس في قلبه تسخط لأقدار الله، لكن لا يعني هذا أن يكره ما أصابه من المؤلمات.
عادي وطبيعي أن يكره الإنسان ما يؤلمه؛ من مرض، مِنْ فَقْد ولد، من نقص مال، من مصابٍ في نفسٍ، أو في أهلٍ، أو في بلدٍ، هذا مما جرت به الطبيعة، وليس في ذلك حرجٌ ولا نقصٌ، وقد قالت عائشة مرةً لرسول الله: "وَارَأْسَاه" شاكيةً ما نزل بها من ألمٍ في رأسها -رضي الله تعالى عنها-، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «بَلْ أَنَا وَارَأْسَاه»[صحيح البخاري:5666] أي: أنا الذي أشتكي ما كان فيَّ من ألمٍ في رأسي، فعائشة لما قالت: ورأساه قال صلى الله عليه وسلم: «وَارَأْسَاه» في بيان أنه يألم مما نزل به صلى الله عليه وسلم، وكان يعصب رأسه، ويجد ألمًا في مرضه -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، ولم يكن ذلك التألم منافيًا لما طُلِب منه، وما كان عليه من الصبر الجميل -صلوات الله وسلامه عليه-.
فالصبر لا يتنافى أبدًا مع أن يألم الإنسان مما يصيبه، لكنه يتنافى مع الجزع باللسان، والتسخط بالقلب، والانفعال بالبدن بأن يَضْرِبَ خدًّا أو يشق جيبًا، أو نحو ذلك مما يفعله ضعاف القلوب وضعاف الإيمان عند نزول المصائب والبلايا، فمن المهم أن يلاحظ المؤمن هذا المعنى، فإن قوله صلى الله عليه وسلم: «وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ»، أي: حَبَس نفسه، حبس قلبه حبس لسانه، حبس بدنه عن كل ما يُغْضِب الله فيما ينزل عليه من المصائب، بل يُقابِلُ ذلك بالصبر ويحتسب الأجر عند الله -عز وجل- فيما نزل، وبهذا يحقِّق قولَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «فَكَانَ خَيْرًا لَهُ».
المقدم: نعم، أحسن الله إليكم، متواصلين معكم، مستمعينا الكرام، ومع فضيلة الشيخ الدكتور خالد المصلح في هذه الحلقة المباشرة من برنامجكم "الدين والحياة".
وحديثنا مستمر أيضًا عن عبادة السراء والضراء في ضوء حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ».
أرقام التواصل أيضًا لمن أراد أن يَتواصَلَ معنا ويطرح ما لديه من استفسار أو أسئلة على رقم من أرقام التواصل: 0126477117 ، والرقم الآخر: 0126493028 ، ويمكنكم كذلك إرسال نصية عبر الواتس أب على الرقم: 0582824040 ، وكذلك أيضًا التغريد في هشتاج البرنامج "الدين والحياة" أو حساب الإذاعة على تويتر "نداء الإسلام".
شيخ خالد، لعلنا نأخذ بعض الاتصالات والأسئلة إن سمحتم فيما تبقى من وقت هذه الحلقة.
الاتصال الأول، معنا من المستمع ريان الحربي من رابغ، تفضل يا ريان.
المتصل: السلام عليكم.
المقدم: وعليكم السلام ورحمة الله.
المتصل: مساكم الله بالخير جميعًا.
المقدم: مساك الله بالنور، تفضل.
المتصل: بس عندي سؤال حبيت أسال الشيخ فيه.
المقدم: وهو عن موضوع الحلقة؟
المتصل: إي نعم، موضوع الحلقة.
المقدم: تفضل.
المتصل: في الحياة يعني الواحد مثلًا، يعني إذا أحب في بعض النجاحات بالنسبة للموضوع ... الطلاب، إذا كان يعني فشل في موضوع، ولا شيء يعني في واحد إذا ذكرته قلت له: إن الله لا يضيع أجر المحسنين، إذا اجتهدت ووصلت إلى ما تريد إن الله لا يضيع أجر المحسنين، هل المعنى هذا صحيح أم لا؟
المقدم: طيب، فيه سؤال ثان؟
المتصل: والشيء الثاني مثلًا بالنسبة للشيء الثاني، يعني: مثلًا أذكر واحدًا جته مصيبة، لا قدر الله، أقوله: ﴿إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾الشرح:6، يعني آيات قرآنية تذكر بهذا الشيء مثلًا، لعل بعد ذلك يحدث أمر.
المقدم: ﴿لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾الطلاق:.1
المتصل: بالنسبة لهذه الأشياء نُذَكِّر بها الغير، هل في معناها هذا صحيح أم لا؟
المقدم: طيب، شكرًا يا ريان، أيضًا معنا عبد العزيز الشريف من الرياض، تفضل يا عبد العزيز.
المتصل: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المقدم: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، حياك الله.
المتصل: حياك الله، أستاذ عبد الله، كيف حالك؟
المقدم: حياك الله، أخي عبد العزيز، تفضل.
المتصل: أحييك، وأحيي فضيلة الشيخ.
المقدم: تفضل.
المتصل: يقول ابن رجب -رحمه الله-: "من عامل الله بالتقوى والطاعة في حال رخائه عامله الله باللطف والإعانة في حال شدته"[جامع العلوم والحكم:ص190]، ما معنى هذا الكلام؟
السؤال الثاني، بارك الله فيك، النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ، وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حَزَنٍ، وَلاَ أَذًى وَلاَ غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةَ يُشَاكُهَا، إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ»[صحيح البخاري:5641]، هل هذه الأعمال التي تصيبُ المسلم في حياته في ولده إذا صبر واحتسب هل تُكَفَّر بها الخطايا من دون أن يتلفَّظ بالتوبة والاستغفار؟
الأمر الثاني يقول الله -عز وجل-: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾الأنبياء:35، ويقول: ﴿إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ﴾التغابن:14، ويقول: ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾التغابن:15، فكيف يكون الخير فتنة؟ وكيف تكون الزوجة فتنة أو عدوًّا؟ وكيف يكون الأولاد أعداء؟ وهل هم من السرَّاء أو الضراء؟
السؤال الثاني الأخير: الغني الشاكر والفقير الصابر، أيهما أفضل عند الله؟ وهل عبادة الفقير أقل من عبادة الغني لحديث أهل الصفة عندما جاءوا للرسول صلى الله عليه وسلم وقالوا: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ"[صحيح البخاري:843]، وجزاكم الله كل خير والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المقدم: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، حياك الله أخ عبد العزيز، معنا أيضًا اتصال ثالث من مستمعة تفضلي.
المتصلة: السلام عليكم.
المقدم: وعليكم السلام ورحمة الله، أم سلمان تفضلي أم سلمان.
المتصلة: أقول، جزاك الله خيرًا ، أيش الموضوع نسيت والله؟
المقدم: عن عبادة السراء والضراء.
المتصلة: عن نعمة السراء والضراء، الحمد لله، والصبر على كل اللي يجيء من الله كله خير، كل واحد يحمد ربه في السراء والضراء، خاصة الضراء، يشكو حاله إلى الله، والله سبحانه قريب مجيب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما جاء مصيبة إلا وشكر، أكثر المسلمين كلهم، فالله يعطينا والمسلمين -إن شاء الله- الصبر، وكذلك فيه - جزاك الله خيرًا- فيه طلب، الله يعطيك العافية.
المقدم: تفضلي.
المتصلة: أطلب من الشيخ الله يعطيه العافية، الحمد لله على كل شيء، يجيء من الله، الحمد لله فيه أجر، ولكن الشيء يضيق الصدر، يعني: مفسرون الأحلام اللي يفسرون على الناس، على تفسيرات تقلب حياتها ما تدري وين تروح، ما أحد يقتنع، يعني لو خطباء الجمعة ينبهون على الناس ..بعض المفسرين هادول الله يهديهم، بعضهم، أنا ما أقول كلهم
المقدم: طيب، يا أم سليمان.
المتصلة: تدمر حياتهم، تجي الأمراض وتجي البهدلة، وين نروح؟ ولا أحد يقتنع، يقول: لا أصدق هذا فسر لنا، قال لنا، ما قالك: إنه صح، تدري ما الغيب؟ ما في شيء يعني .. تصير النعمة نقمة والله ... يصير الواحد فيه الهواجس والمصائب ما يعلم به إلا الله.
المقدم: طيب، سؤالك وصل -إن شاء الله- الشيخ يجيب عليه، شكرًا جزيلًا لكِ يا أم سلمان.
طيب، فيه اتصال؟ طيب إلى أن تجهز بقية الاتصالات، شيخ خالد، يعني نعود إلى موضوع حلقتنا في هذا اليوم عن عبادة السراء والضراء، ولعل الإخوة المستمعين يعني من خلال أسئلتهم يَوَدُّون أن يضاف إلى هذه الحلقة بعض المسائل المهمة في هذا السياق، إذا أذنتم يا شيخ.
الشيخ: إي تفضل، حياهم الله.
المقدم: فيما يتعلق يا شيخ، بتذكر الناس ببعض الآيات في القرآن الكريم إذا نزلت بهم مصيبة من المصائب، هل ينبغي أن تكون هذه الآية تتسق مع تلك المصيبة بالتحديد، أو أنه يعني لا بأس في إيراد أي آيةٍ لتذكير المصاب بها وتسليته؟ معي يا شيخ؟
الشيخ: نعم - هو يا أخي الكريم - فيما يتعلق بالمصيبة إذا نزلت هي لون من البلاء الذي يبتلى الله -عز وجل- به العباد، وهذا البلاء بالتأكيد يستوجب أن يقابل بالصبر، وللصبر أسباب ما ذكرت من التذكير بآيات الله -عز وجل-، وذكر ما يصبر الإنسان، هو من المشروع؛ ولهذا شرعت تسلية المصاب بتعزيته في أعظم مصيبة تنزل بالإنسان من موت حبيبٍ، أو قريبٍ، أو نحو ذلك، فالتصبير بهذا التذكير هو من الأسباب التي يدرك بها الإنسان الصبر على الضراء، فالحديث عن هذا الموضوع هو ما هي الأسباب التي يحقق بها الإنسان عبادة السراء بالشكر، وعبادة الضراء بالصبر؟
الأسباب عديدة، من أعظم ذلك: الإيمان؛ ولهذا الحديث يشير إلى هذا المعنى إشارة واضحة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أمْرَه كُلَّهُ لهُ خَيرٌ، ولا يكون ذلكَ لأحَدٍ إلَّا للمُؤْمنِ» فأكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر في موضعين: أولًا: في التعجب في بيان غرابة أمره، والتعجب هو خروج الشيء عن نظائره - فالإنسان يا أخي الكريم مخلوق مجبول في الأصل على الهلع، والجذع، وعلى الكنود والجحود كما قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا﴾المعارج:19-21، فذكر الله تعالى الأصل في حال الإنسان عندما تصيبه النعماء أو يصيبه الضراء أنه عارٍ إذا لم يكن معه إيمان، عارٍ عن الصبر، عارٍ عن الشكر، إنما حاله إذا مسه الشر جذوعًا، وهذا ينافي الصبر، وإذا مسه الخير منوعًا، وهذا ينافي الشكر.
والذي يُخرِج الإنسان عن هذه الحال من حال النقص هو اتصافه بالإيمان في قلبه، وفي عمله، فإن الإيمان يُخرِج الإنسان عن كل نقصٍ؛ لأن الإيمان كمال، الإيمان سموٌّ، الإيمان خروج عن مقتضى الجبلة من الصفات السلبية للإنسان، فهذا الحديث بَيَّن ما المخرج من هذا الإشكال عند نزول مصيبةٍ أو نزول نعمة بعدم الشكر وبعدم الصبر، الذي يخرج الإنسان من هذه الحال حال عدم الشكر، وحال عدم الصبر هو أن يحقق الإيمان، فهذه خصلة لا تكون إلا للمؤمن؛ ولهذا قال: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ»، ثم ختم «وَلَا يَكُونُ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ» تأكيد للمعنى الذي تقدم.
والإيمان أصله الإيمان بالقلب، والإقرار بالربِّ -جل في علاه-، كما قال أهل العلم في تعريف الإيمان، الإيمان: إقرارٌ بالقلب مستلزمٌ للإذعان والقبول، للإذعان لأحكام الله -عز وجل-، والقبول لأخبار الله -عز وجل-، وما جاء فيه، وأحكامه، وما جاء في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
بهذا يحقق الإنسان الإيمان، وبقدر ما يحقق المؤمن من خصال الإيمان بقدر ما يحقق من الشكر عند السراء، وبقدر ما يحقق من الصبر عند الضراء.
المقدم: سؤال الأخ عبد العزيز كان عن مقولة: مَنْ عَامَل الله بالتقوى في حال رخائه عامله الله بلطفه في حال شدته، يعني هل تستقيم هذه العبارة، وما معناها إن كانت صحيحة؟
الشيخ: ما من شك أنَّ مَنْ عامل الله -عز وجل- بالصبر عند البلاء، والشكر عند السراء كان الله -عز وجل- له في كل أحوال؛ ولهذا جاء في الحديث في وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس في رواية الترمذي قال: «تَعَرَّفْ إِلَى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ»[سنن الترمذي:ح2616، ومسند أحمد:ح2303، وقال الترمذي:هذا حديث حسن صحيح] «تَعَرَّفْ عَلَى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ»، ما معنى «تَعَرَّفْ عَلَى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ»؟ التعرف على الله -عز وجل- في حال الغنى بطاعته والقيام بأمره، بتحقيق شكره على هذه النعم التي أنعم بها، مَنْ حقَّق ذلك في حال السعة كان الله تعالى له في حال الضيق، فينجيه الله تعالى من البلايا، وكان معه مؤيدًا ونصيرًا بحال ما ينزل به من المصائب والمكروهات. هذا معنى قوله: «تَعَرَّفْ عَلَى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ، يعرفْكَ في الشدة.
هذا الذي يسأل عنه أخونا من كلام ابن القيم هو مستفادٌ من حديث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، في حديث وصيته لعبد الله بن عباس؛ ولهذا مَنْ كان على هذه الحال، فإنه قريبٌ من الله -عز وجل-، فالله له ناصر، والله له مُعينٌ، وفي كل الأحوال - يا أخي - من حقق أسباب الولاية نال آثارها وثمارها وزاكي نتائجها، الولاية مرتبة عالية، الولاية ولاية الله -عز وجل-مرتبة سامية ينالها الإنسان بفعل الطاعات الواجبة والمسابقة إلى الخيرات.
فمن حقَّقَ ذلك نال معية الله له، وتأييده، ونصره، وعونه، وغوثه، وهذا لا يقتصر على حال، بل يكون في حال الشدة، وفي حال الرخاء، وإنما ذَكَر النبيُّ صلى الله عليه وسلم حالَ الرخاء؛ لأن الغالب على الإنسان إذا ابتُلِي بالنعماء والسراء كانت حاله على نحوٍ من الكفران للنعم كما قال الله تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى﴾ العلق: 6، 7، فإذا فتح الله تعالى على الإنسان مَرَّ كأن لم يكن قد أصابته مصيبة، وكأن لم يكن سأل الله تعالى عطاءً فيجحد ﴿إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾ العاديات:6-8 كما ذكر الله تعالى في وصفه، وكما أخبَر.
ولذلك كان الابتلاء بالنَّعْماء على بعض النفوس أشدَّ من الابتلاء بالضراء؛ لأن الضراء تَحْمِل الإنسان على الافتقار، لانكساره وضعفه، وحاجته فلذلك كانت حال البعد عن الله في مثل هذه الحالة، في حال الضراء من الحالات التي تؤكد على خبث النفس وتأصل الفساد فيها، وإلا فإن مقتضى المصائب أن يرجع الإنسان إلى الله -عز وجل- بالأوبة والإنابة.
المقدم: ولعل - يا شيخ خالد - هذا يقودنا إلى السؤال الثاني الذي ربما يتقاطع مع هذه النقطة، وأنه كيف يمكن أن يكون الخير فتنة؟ وهذا الأمر أيضًا ربما يقودنا إلى الحديث عن فتنة السراء ، وكيف أن يكون - أيضًا - الأولاد أعداء كما جاء في سورة التغابن؟
الشيخ: هذا يكون بإدراك أن كل نعمةٍ ينعم الله تعالى بها على العبد فلله فيها حق، تقدم قبل قليل الحقوق المُرَتَّبة على النعم، وهي حقوق تكون بالقلب، إقرارًا بالنعمة بأنها من الله وأن يضيفها إليه، وإقرارًا باللسان بأن يتكلم بذلك، وإقرارًا وشكرًا بالجوارح بأن يستعمل تلك النعم في طاعة الله -عز وجل-.
ما يتعلق بالنعم بكل صورها وألوانها، قد تكون فتنةً للإنسان ﴿إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ﴾ كما قال الله تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ﴾ آل عمران:14، هذا كله مما ابتلى فيه الناس، وجه الابتلاء بهذه الأشياء أن النفوس تركن إليها، وتطمئن لها، وتأنس بها لموافقتها لمحبوباتها ومشتهياتها فيقع الإنسان في إمساكها وعدم طاعة الله تعالى فيها، وقد تَعوقُه عن طاعة الله وامتثال أمره، كما قال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا﴾ ثمانية أشياء، وهي الأصول المحبوبة ﴿أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ التوبة:24.
هذا الكلام صورة للفتنة بالمحبوبات التي يُنعِم الله تعالى بها على الإنسان، فيقدمها على طاعة الله -عز وجل- على القيام بحقه، فيكون ذلك موجبًا للعقوبة، موقعًا فيما يكون شؤمًا على الإنسان بعدم طاعة الله تعالى في النعماء، وتحقيق العبودية له تعالى في السراء.
المقدم: هناك كثير من القصص سواءً في ما يتعلق بالأنبياء كنبي الله سليمان -عليه السلام-، وكذلك في ما يتعلق أيضًا ببعض الصحابة عندما شغلتهم، أو فتنتهم هذه النعم قاموا يعني بالاستغناء عنها مباشرةً لله -عز وجل- حتى تفرغوا لعبادته -سبحانه وتعالى-، ولا تفتنهم هذه النعم كما هو معروف هذا الأمر في النصوص الشرعية.
الشيخ: إي نعم، ومنه ما أخبر الله تعالى في قصة سليمان: ﴿إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي﴾ ص:31-32، ألْهَتْه عن صلاة العصر، كما قال المفسرون، ألهاه النظر إلى الخيول التي أنعم الله تعالى بها عليه عن صلاة العصر، أو عن ذكر الله، أو عن ذكرٍ من الأذكار، فحصل منه ما حصل من التخلي عنها كما قال بعض أهل التفسير طاعةً لله -عز وجل- وإخراجًا لما صرف قلبه عن الله طاعةً لله -عز وجل-، ولهذا ينبغي أن لا يعلق الإنسان قلبه بشيء يصرفه عن الله، فكل ما صرف الإنسان عن طاعة الله -عز وجل- شرٌّ له، وإن كان في الظاهر خيرًا.
المقدم: شيخ خالد، أيضًا سؤال كان الأخ عبد العزيز عن الغني الشاكر والفقير الصابر ومسألة أيهما أفضل؟ وكذلك أيضًا عبادة الغني والفقير، وقصة الصحابة الذين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: "ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ، يَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ وَيُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي وَيَذْهَبُونَ بِفُضُولِ أَعْمَالِهِمْ"[تقدم]، أو كما جاء في هذا الحديث الشريف، وأيضًا ندبهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإكثار من ذكر الله -عز وجل- وغيرها من الأعمال، وهذا في سياق التنافس على طاعة الله -عز وجل-، لكن مسألة الأفضيلة هنا يا شيخ أين تبرز؟
الشيخ: أخي الكريم، هذه المسألة مسألة علمية، تناولها العلماء بالبحث فيما يتعلق بأيهما أفضل الغني الشاكر أم الفقير الصابر؟ والذي يترجح من قولي العلماء: أنَّ مَنْ حقق طاعة الله في الحال التي هو فيها فهو أكمل عند الله -عز وجل-؛ لأن الله يبتلي الناس بالسَّرَّاء والضراء، والفوز والسبق في أن يطيع الله تعالى فيما ابتلاه ولا يتكلف حالًا، يعني لا يُطلَب من الغني أن يفتقر حتى يحقق الصبر، كما لا يطلب من الفقير أن يسعى في طلب الغنى ليحقق طاعة الغنى، فهذه أحوال ليست اختيارية للإنسان في الغالب، إنما تكون أحوال وَهْبِيَّة، أو قَدَرِيَّة يقدرها الله تعالى على الإنسان، فلا يمكن أن يُساوى في الفضل بين هذا وذاك، بمعنى لا يمكن أن يُساوى في الفضل في حق إنسان واحد أيهما أفضل أن تكون غنيًّا شاكرًا، أو فقيرًا صابرًا؟ هذا ليس لك فيه الخيار، إنما الفضل هو أن تكون طائعًا لله مقيمًا لشرعه في الحال التي أنت فيها غنيًّا كنت أو فقيرًا.
المقدم: مسألة في ورود الفضل لمن وقعت عليه مصيبة وأن هذا الأمر يعني يكفر من خطايا هذا الإنسان المصاب، هل يشترط أن يكون هذا الإنسان دائمًا متلفظًا بالتوبة والاستغفار، أو غير ذلك؟ أم أن خطاياه تُكفَّر بدون أن يتلفظ بهذه الألفاظ التي يقصد بها التوبة؟
الشيخ: لا، المصيبة إذا نزلت على الإنسان فصبر عليها أُجر، ولو لم يتلفظ بشيء، يعني الصبر ليس شيئًا يتكلم به، لكن لاشك أن من الكلمات ما يكون عونًا للإنسان على الصبر ومعينًا له على نيل الفضل والخير؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لأم سلمة لما نالها ما نالها من مصابٍ بموت زوجها، قال: علمها -صلى الله عليه وسلم- أن تقول عند المصيبة أن تقول: «اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي ، وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا»[صحيح مسلم:ح918/3] فهذا الذكر هو مما يُدرِك به الإنسان ما يصبره حالًا، وما ينال به الأجر مآلًا إذا أحسن الصبر فيما أصابه من أقضية الله المؤلمة.
المقدم: عفوًا يا شيخ، إذا كان بالإمكان كلمة باختصار لمفسري الأحلام.
أحيانًا كما قالت أختنا أم سلمان؛ تسأل عن أن بعضهم ربما يفسر بعض الرؤى والمنامات بتفاسير أحيانًا قد تؤدي إلى التفريق بين الإخوة والعائلة الواحدة، وغير ذلك من الأمور التي لا تُحْمَدُ عُقْباها.
الشيخ: إي نعم، الموضوع هذا يا أخي الكريم لعلنا نخصه بلقاء ننبه فيه على ما يتعلق بالمنامات وتفسيرها، وما ينبغي أن يُلاحظ الجميع سواءً من الرائي صاحب الرؤيا أو المنام أو العالم.
المقدم: جميل.
الشيخ: لكن نعود إلى توجيه نبوي فيما يتعلق بالصبر على المصيبة - كما ذكرت الصبر - هو عمل قلبي في الأصل، ويظهر في اللسان، وفي منع البدن من التسخط، ومما يعنيه ذلك فوجَّه إليه النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا أَجَرَهُ اللَّهُ فِي مُصِيبَتِهِ وَأَخْلَفَ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا» فينبغي العمل بالأسباب التي تصرف عن الإنسان الجزع والتسخط وأيضًا الأخذ بأسباب الشكر بحمد الله والثناء عليه، والقيام بحقه في النعم التي أنعم بها عليه.
المقدم: أحسن الله إليكم، أخيرًا شيخ خالد، إن من المبهج والأمر الذي يسر النفس، ويسعد الخاطر ما منّ الله -سبحانه وتعالى- به على هذه البلاد المباركة من يقظةٍ أمنية وجهازٍ أمني قويٍّ متمكن، وأخيرًا ما تم الإعلان عنه مِنْ قِبَل رئاسة أمن الدولة في الكشف عن مخططاتٍ إرهابية آثمة كانت على وشك التنفيذ، وأخرى لخلايا أخرى نائمة، منَّ الله -سبحانه وتعالى- بالقبض على هؤلاء الأفراد الآثمين المنضمين أو المنتمين، أو المتعاونين مع هذه الخلايا الإرهابية، كيف يمكن التعليق على هذه الجهود المميزة؟
الشيخ: لا شك أن هذا من نعمة الله تعالى على هذه البلاد؛ ما سخره الله تعالى من رجالٍ صادقين في حمايتهم وحَدَبهم على هذه البلاد، من مواطنيها ومكتسباتها فجزاهم الله تعالى الخير على ما يبذلونه من جهود تكشف هذه الأعمال الخبيثة قبل أن يتأذى به أحدٌ من الناس قبل أن يبلغ المفسدون أغراضهم بتفجيرٍ أو تخريبٍ أو فرقةٍ أو نزاعٍ، أو إشاعة شرٍّ في البلد، وحق هؤلاء الرجال الأبطال الذين يبذلون أنفسهم وأوقاتهم أن يُشكَروا وأن يُدعَى لهم، فإن الدعاء لهم ردءٌ وعونٌ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا تُرْزَقُونَ وتُنْصَرُونَ بِضُعَفَائِكُمْ، بِدُعَائِهِمْ وَصَلَاتِهِمْ».[صحيح البخاري:2896]
فينبغي أن نحرص على الدعاء لهم وعلى شكرهم، وعلى إبراز جهودهم، فبهم -ولله الحمد- تأمن هذه البلاد، يأمن حجاج بيت الله، يأمن العُمَّار، يأمن قاصدو هذه البلاد، يأمن المواطنون، يأمن المسلمون على أعراضهم، وعلى أنفسهم، وعلى أموالهم، ويقيمون دينهم، هذه نعمة عظمى، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في تصوير عظيم ما يحصل بنعمة الأمن: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا»[أخرجه الترمذي في سننه:ح2346، وحسنه]، وهذا الجهاز يقوم بمهام جليلة وأعمال كبيرة في وَأْدِ المفسدين، وَأْدِ مخططات المفسدين، والتربص بهم وكشف خفاياهم، وما يُزَوِّرُونه ويخططونه من فسادٍ قبل أن ينفذوه.
فنحمد الله تعالى على ذلك، ونسأل الله تعالى لبلادنا الأمن والأمان، ولرجال أمننا بكافة قطاعاتهم التوفيق والسداد والحفظ والعون، ولولاة أمرنا الذين يسهرون ويبذلون جهودًا عظيمةً في حفظ البلاد وتأمينها، وخدمة المواطنين، وخدمة الحرمين الشريفين، وتأمين قاصدي هذه البقعة المباركة، لهم مِنَّا الدعاء الصادق أن يُوَفِّقَهم الله وأن يسددهم، وأن يجعل لهم من لدنه عونًا ونصيرًا.
والدعاء لولاة الأمر مما يحصل به خيرٌ عظيم، ولذلك أُوصي نفسي وإخواني بأن ندعوا لولاة أمرنا؛ الملك سَلْمان وولي عهده، وكل من تولى ولاية على أهل الإسلام، ينبغي أن ندعو له بالتوفيق والتسديد والعون؛ فإن ذلك من أعظم أسباب الصلاح والتوفيق بأن يحفظ بلادنا، وأن يقينا شر كل ذي شر، وأن يحفظ ولاتنا وأن يسددهم، وصلى الله على نبينا محمد، والسلام عليكم ورحمة الله.