المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلًا ومرحبًا بكم مستمعينا الكرام في هذه الحلقة المباشرة من برنامجكم "الدين والحياة"، والتي تأتيكم عبر أثير إذاعة "نداء الإسلام" من مكة المكرمة.
نرحب بكم ونحييكم في مطلع هذا اللقاء الذي نسعد بصحبتكم من خلاله في إعداد وتقديم هذه الحلقة، معكم محدثكم: "عبد الله الداني". ومن التنفيذ على الهواء زميلي: "خالد الزهراني".
كما يسرني في مطلع هذا اللقاء أن أرحب بضيفي وضيفكم الدائم في هذا البرنامج صاحب الفضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور "خالد بن عبد الله المصلح" أستاذ الفقه بكلية الشريعة في جامعة القصيم، المشرف العام على فرع الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء في منطقة القصيم.
فباسمي واسمكم أرحب بفضيلته في مطلع هذا اللقاء.
السلام عليكم ورحمة الله، وأهلًا ومرحبًا بكم يا شيخ خالد.
الشيخ: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، مرحبًا بك، حياك الله أخي عبد الله، وحيا الله الإخوة والأخوات، أهلًا وسهلًا.
المقدم: أهلًا ومرحبًا بكم، وحيا الله كل المستمعين والمستمعات الذين انضموا إلينا الآن عبر هذا الأثير؛ للاستماع إلى هذه الحلقة المباشرة من برنامج "الدين والحياة".
في هذه الحلقة مستمعينا الكرام سيكون حديثنا عن:
"خصائص مكة البلد الحرام"
نسعد بصحبتكم في هذه الحلقة، وكذلك أيضًا نسعد بتلقي اتصالاتكم واستفساراتكم ومداخلاتكم حول هذا الموضوع، وحول عنوان هذه الحلقة في برنامج "الدين والحياة" على الرقم: 0126477117 ، والرقم الثاني: 0126493028
وبإمكانكم كذلك مستمعينا الكرام مشاركتنا بإرسال رسالة نصية على الواتس أب على الرقم: 0582824040
أو بالتغريد على هاشتاج البرنامج "الدين والحياة"، وحساب الإذاعة "نداء الإسلام" على تويتر.
فعلى بركة الله نبدأ هذه الحلقة، أهلًا وسهلًا بالجميع.
المقدم: أهلًا ومرحبًا بكم من جديد مستمعينا الكرام في هذه الحلقة المباشرة من برنامج "الدين والحياة"، حديثنا كما نوَّهنا في بداية هذا اللقاء عن:
"خصائص البلد الحرام".
مستمعينا الكرام، ميَّز الله -جلَّ وعلا- بلده الحرام مكة المكرمة بخصائص دون غيرها من البلدان، وهي أصولٌ تُؤَسِّس للعبادات والمعاملات والأخلاق لساكن البلد الحرام والوافد إليها.
حول هذا الموضوع نتحدث مستمعينا الكرام ونتعرف على هذه الخصائص التي يتمتع بها هذا البلد الحرام، خصوصًا مع تزامن هذا الموضوع في هذه الأيام، ومع اقتراب موسم الحج وقدوم وتوافد العديد والوفود الغفيرة من حُجَّاج بيت الله الحرام من أقطار الأرض الواسعة.
شيخ خالد عندما نتكلم عن مثل هذا الأمر ربما هناك العديد من الخصائص التي خُصَّ بها هذا البلد الحرام، والتي ينبغي التنبيه عليها، والتنويه عليها في مثل هذه الأيام، خصوصًا فيما يتعلق بالحجاج الذين يفِدون ويتوافدون هذه الأيام إلى بيت الله الحرام في مكة المكرمة، قاصدين هذا البيت العتيق؛ لأداء مناسك الحج في هذا العام الهجري.
الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، مرحبًا بك أخي عبد الله، ومرحبًا بالإخوة والأخوات المستمعين والمستمعات، حياكم الله جميعًا.
المقدم: أهلًا وسهلًا.
الشيخ: فيما يتعلق بمكة شرَّفها الله تعالى، لها مزايا وخصائص، حَرِيٌّ بالمؤمن في كل الدنيا أن يعرف خصائص هذه البلدة، لماذا؟
لأن هذه البلدة فيها البيت الذي يستقبله المسلمون من أرجاء الدنيا، فجميع الناس يستقبلون هذه البقعة المباركة في صلواتهم في اليوم والليلة عدة مرات، هذا الارتباط الذي جعله الله تعالى لأهل الإيمان في هذه العبادة التي هي من أَجَلِّ العبادات، وهي عبادة الصلاة تقتضي أن يجد المؤمن في قلبه مَيْلًا إلى هذه البقعة التي يُيَمِّمُ إليها وجهه في لقائه لربه وفي وقوفه بين يديه -جلَّ في علاه-؛ ولذلك ذكرت أنه من المناسب والمفيد لكل مؤمن ومؤمنة في الدنيا كلها أن يعرف فضيلة هذه البقعة المباركة التي فضَّلها الله تعالى وجعلها قِبْلَةً لأهل الإسلام.
كما أن الله -عزَّ وجلَّ- فرض على أهل الإسلام قَصْد هذه البقعة في العمر مرة، وهذا لا شك وبالتأكيد أن له سببًا؛ فإن هذا القصد ليس قصد نُزْهَة ولا قصد فُرْجَة، إنما هو قصد طاعة وعبادة؛ ولذلك عندما ذكر الله تعالى وجوب القصد لهذه البقعة ذكر المقصود بالمجيء؛ حتى ينتفي كل ما يمكن أن يتوهمه الإنسان من المقاصد والغايات في مجيئه إلى هذه البقعة المباركة، فقال: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾آل عمران:97
فعندما يعلم المؤمن ويحضر في ذهنه هذان الأمران أن هذه البقعة قِبْلَتُه التي يتوجَّه إليها في اليوم مراتٍ عديدة، وهي موضع أداء فرضٍ من فرائض الله -عزَّ وجلَّ- وركنٍ من أركان الإسلام وهو الحج، بالتأكيد أن هذا سيلقي في قلبه تطلُّعًا إلى معرفة خصائص هذه البقعة، ومعرفة ما هي المزايا التي خُصِّت بها هذه البقعة دون سائر البقاع، فهذه المزايا ذكرها الله تعالى في كتابه، وأشاد بهذا البيت في مواضع عديدة من الكتاب الحكيم.
فالله -جلَّ في علاه- ذكر في هذا البيت بِناءَه، وذكر تاريخه، وذكر جُملة من الأمور التي تُحَفِّز النفوس على الوقوف على ما في هذا البيت من عجائب وأسرار وآيات بيِّنات تدل على الله -عزَّ وجلَّ- الواحد القهار سبحانه وبحمده.
فجدير بالمؤمن الذي يؤمن بالله واليوم الآخر أن يعتني بمعرفة شيء من خصائص هذه البقعة، شيء من حُرْمَتِها ومكانتها؛ حتى يُعَظِّم ما أمر الله تعالى بتعظيمه، ويمتثل ما شرعه الله تعالى من حفظ حُرْمَة شعائره.
مكة البلد الحرام هي أول موضعٍ عُبِدَ الله تعالى فيه في الأرض؛ لذلك قال الله تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾آل عمران:96-97
فأول خصائص هذه البقعة:
• أنها البقعة التي اصطفاها الله -عزَّ وجلَّ-، فشُيِّدت وعُمِّرَت وأُقِيمت لعبادة الله وحده لا شريك له.
وهذه خاصية تميَّز بها هذا المكان على سائر بقاع الدنيا، والله يخلق ما يشاء ويختار.
وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في بيان سَبْق هذا البيت في تحقيق مقصود الوجود وهو عبادة الله -عزَّ وجلَّ- في جوابه لأبي ذر لما سأله -صلى الله عليه وسلم-: "أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ أَوَّل؟ قَالَ النبي -صلى الله عليه وسلم-: «الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ». قال: ثُمَّ أَيٌّ؟ -أي يعني بعد ذلك- قَال -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «ثُمَّ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى».[صحيح البخاري:ح3366]
ولشرف هذه البقعة وعظيم منزلتها أضافها الله تعالى إليه عمومًا، وأضاف الكعبة خصوصًا.
والإضافة إلى الله -عزَّ وجلَّ- مما يدل على شرف المُضاف، فكل ما أضافه الله تعالى إليه فهو دليلٌ على شرفه، فالإضافة قد تأتي للتشريف، وقد تأتي أيضًا لمعاني أخرى، كأن تأتي للخلق، والملك، والتدبير، والتصرف، لكن في غالب ما يُذْكَر من إضافات إلى الله -عزَّ وجلَّ- شيء يضيفه الله تعالى إليه يكون هذا على وجه التشريف لهذا المُضاف؛ قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا﴾النمل:91.
فأضاف الله تعالى البلدة وهي مكة إليه، وهذا - يا أخي الكريم، أيها المستمع والمستمعة الكريمان - يدل أن هذه البقعة مُصطفاة، مُختارة، وأن هذا الاختيار اختيار إلهي.
الله -عزَّ وجلَّ- يقول لرسوله: ﴿إِنَّمَا أُمِرْتُ﴾النمل:91، يُخْبر الناس أنه إنما أُمِر أن يعبد رب هذه البلدة، هذه البلدة التي هي من دلائل عظمَة الله وقدرته وإلهِيَّتِه -جلَّ في علاه- أن حَفِظَ حُرْمتها على مر العصور، وتعاقب الدهور، واختلاف الأحوال في الخلق والناس.
﴿رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ﴾النمل:91، أنت تنظر بجلاء عظيم اصطفاء الله - عزَّ وجلَّ - هذه البقعة، أنت تتأمل أن الله - عزَّ وجلَّ - يذكر هذه البقعة بصيغة الرفع والتمييز والتقديس، دون سائر بلاد الدنيا.
ويقول -جلَّ وعلا- في موضعٍ آخر: ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ*الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾قريش:3-4؛ فأضاف الله تعالى البيت إليه، وهذه إضافة أخص من الإضافة السابقة، فالإضافة السابقة لكل البلدة وهي مكة والحرم، وهذه الإضافة لمركز التشريف في هذا المكان، وهو الكعبة التي شرَّفها الله تعالى وعظَّمها وخصَّها بما خصَّها به من المزايا والخصائص.
إذًا هذه الآيات الكريمات تُظْهِر حفاوة الله -عزَّ وجلَّ- بهذه البقعة، وأن هذه البقعة بقعة معظَّمة، عظمها الله -جلَّ في علاه-، ومن تعظيمه لها أن حرَّمها، فجعلها مُحَرَّمة، ومعنى حرَّمها أي: مَنَعَها من كل ما يكون سببًا لضعف عظمتها في القلوب، لضعف مكانتها في النفوس، وأضاف إلى ذلك أحكامًا، ولتحقيق ذلك جعل هذه البقعة محلًّا لأحكامٍ عديدة مما يتصل بتحريمها.
الله تعالى يقول: ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾القصص:57، هذه البقعة هي بقعة عظَّمها الله وحرَّمها، وتحريم الله لهذه البقعة ليس حادِثًا ولا طارِئًا، بل هو أصيل ضارب في عُمق التاريخ، فهو في القِدْم والسَّبق من أقدم ما يكون في شأن الأرض؛ حيث إن الله تعالى حرَّم مكة يوم خلق السماوات والأرض.
هذا الكلام يبيِّن أن هذا التحريم ليس طارئًا، إنما هو تحريم سابق يضرب في عمق التاريخ، فهو من أوائل ما أخبرَتْ به النصوص من شأن الأرض وما فيها من وقائع وحوادث.
فإن مكة حرامٌ بتحريم الله -عزَّ وجلَّ-؛ ولهذا أكد النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا المعنى في أحاديث عديدة؛ فقد قال -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كما في صحيح الإمام البخاري من حديث ابن عباس: «إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ، فَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، وإنَّما أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ».[ أخرجه البخاري في صحيحه:ح1834]
ثم في الحديث الآخر يقول صلى الله عليه وسلم: «فإنَّ هَذَا بَلَدٌ حَرَّمَ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، وَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ».[صحيح البخاري:ح1834]
هذا التأكيد لهذا المعنى الذي أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- من تحريم مكة جاء من أحاديثَ عديدةٍ يُبَيِّن التشريف الذي خُصَّت به هذه البقعة وهو حفظها حرامًا، حرمتها ليست من صُنْع الناس، ولا علاقة لها بما يكون من أفعالهم، بل هي حرامٌ، حتى وإن خلت من ساكن، وإن لم يقصدها قاصد، هي حرام.
يدُل لذلك: ما ذكره الله تعالى في قصة مجيء إبراهيم -عليه السلام- إلى هذه البقعة لَمَّا أمره الله تعالى بأن يُنْزِل فيها إسماعيل وهاجر -عليهما السلام-، فإن إسماعيل وهاجر جاء بهما إبراهيم -عليه السلام- إلى هذه البقعة المباركة.
إبراهيم -عليه السلام- امتثل أمر الله تعالى، وجاء بزوجه ورضيعه إلى هذه البقعة التي ليس فيها إنسٌ ولا شجرٌ ولا شيء كانت خالية ليس فيها أي شيء مما يستوجب قصدها أو الإقامة عندها.
جاء -عليه السلام- بأمر الله عزَّ وجلَّ، ونزل هذا الوادي المبارك، ولما أَنزل هاجرَ وابنَها إسماعيل حيث أمره الله تعالى وأراد الرجوع، وضع عندهم شيئًا من الطعام وشيئًا من الشراب، فولَّى -عليه السلام- وقد ترك إسماعيل وأمه هاجر عند البيت، عند دَوْحةٍ فوق زمزم، ما كان زمزم في ذلك الوقت، إنما في الموضع القريب من زمزم في أعلى المسجد، دَوْحة وتحتها امرأة معها رضيعها، ومعها جِراب فيه تمر وسِقاء فيه ماء.
ولَّى إبراهيم -عليه السلام- منطلقًا إلى الشام، تبعته أم إسماعيل فقالت: "يَا إِبْرَاهِيمُ، أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الْوَادِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلَا شَيْءٌ؟".
لك أن تتصور صعوبة الأمر على هذه المرأة، ليست المرأة فقط، بل المرأة التي معها رضيع، بمعنى أنها ليست مُتَكَفِّلة بنفسها فقط، فإن هذا قد يهون على الإنسان أن يتكفل بنفسه ويجد له مخرجًا، لكن أن يكون معه مَنْ هو كَلٌّ عليه، من هو عائلٌ له، يَصْعُب الأمر. فقالت له ذلك مرارًا، تتبع إبراهيم -كما في صحيح الإمام البخاري- وتقول: "أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا في هذَا الْوَادِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلَا شَيْءٌ؟" فقالت بعد أن كَرَّرت عليه وهو لا يُجيبها -عليه السلام- ولا يلتفت إليها؛ حتى لا يكون هذا سببًا لثوران العاطفة، أو التراخي في الامتثال، أو ما إلى ذلك مما قد تُصيب النفوس؛ ولذلك كان لا يلتفت إليها يمضي حيث أمره الله تعالى، فقالت له لما رأت عزمه وهو رجلٌ رشيد، ولا يُمكن أن يصدر هذا هكذا بدون سبب، قالت له: فَقَالَتْ لَهُ : آللَّهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا؟ فقَالَ -عليه السلام-: نَعَمْ. قَالَتْ: إِذًا لَا يُضَيِّعُنَا.[صحيح البخاري:ح3364]
مضى -عليه السلام-، ورجعت هي لابنها لرضيعها عند الدَوْحة التي في أعلى المسجد قريبًا من زمزم.
انطلق إبراهيم حتى إذا توارى عنهم - خَفِي عنهم - المكان خالٍ ليس فيه أحد كما وَصَفَتْ عليها السلام، ليس فيه إنسٌ ولا شيء، يعني: من مُقَوِّمات الحياة، من مُقَوِّمات حفظ النفس، فلما ذهب قال -عليه السلام- في كلماتٍ حَفِظَها الله -عزَّ وجلَّ- في كتابه الحكيم، في دعوات رَفْعِ إبراهيم يديه فقال: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾إبراهيم:37
أخي الكريم، انظر إلى قوله: ﴿عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ﴾إبراهيم:37، هذا الشاهد في سياق هذه القصة، أن هذا البيت بيت محرَّم، هذا البيت بيتٌ مُعَظَّم، عظمه الناس أو لم يعظموه، الله الذي عظمه؛ ولذلك قال: ﴿عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ﴾إبراهيم:37، ولم يكن ثمَّة بناء في ذلك اليوم، إنما البيت مُمَيَّز بعلوه وارتفاعه على سائر ما حوله من جهات الحرم. فكان هذا التحريم تحريمًا راسخًا، تحريمًا باقيًا، تحريمًا إلهيًّا، ولو تخلَّف الناس عنه وتركوه.
هذا البيت الحرام، هذه البقعة المباركة حرَّمها الله تعالى، ومن مقتضيات التحريم أن جعلها آمنةً.
والتأمين الذي أثبته الله تعالى لهذه البقعة نوعان:
التأمين الأول: تأمين قَدَري كما قال الله تعالى: ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا﴾القصص:57، هذا في خطاب الله -عزَّ وجلَّ- لأهل مكة وهم مشركون، يقول: ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا﴾القصص:57، ثم ذكر ثمرة هذا التحريم وهو التأمين، فهو آمن، والتأمين منذ ذلك الزمان منذ تحريم الله تعالى إلى أن جاء الإسلام كان تحريمًا قَدَرِيًّا، يجد الناس في نفوسهم ما يمنعهم ويحول بينهم وبين انتهاك حرمته، حتى قيل: إنهم كانوا لا يتمكنون من أن يَعتدي بعضهم على بعض في داخل الحرم، حتى إن الرجل ليَجِدُ ويرى قاتل أبيه، ولا يَعْرِض له بشيء.
وهذا التحريم لم يكن تعظيمًا لحلالٍ وحرام؛ لأنهم كانوا مشركين وبدَّلوا وغيَّروا في الدين، لكن بقي هذا الأمر في نفوسهم.
ومن آثار هذا التأمين القَدَرِي الذي كان قبل مجيء النبي -صلى الله عليه وسلم- لمكة قبل الفتح، من ثمار هذا التأمين القدري أنَّ الله تعالى ردَّ عن البيت أبرهة، لما جاء بالفيل؛ ليهدم الكعبة، ويحوِّل الناس إلى ما أراد أن يحوِّلهم إليه من كعبةٍ بناها في اليمن.
قال الله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ* أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ﴾الفيل:1-5. هذا من التأمين القَدَرِي الذي حَفِظ الله تعالى به بيته الحرام.
ثم لما جاء الإسلام بقي التحريم وقرَّرَه سيد الأنام -صلوات الله وسلامه عليه-، لكن هذا التحريم أثمر تأمينًا تكليفيًّا يجب على الناس أن يحققوه، وأن يقوموا به، وهو أن يحفظوا حُرْمة هذه البقعة بما أمرهم الله تعالى بحفظه من أحكام الحرم، وسيأتي تفصيلٌ لذلك وبيان فيما نتحدث به في هذه الحلقة إن شاء الله تعالى.
مكة البلد الحرام تحريمها في الإسلام تحريمٌ شرعيٌّ؛ ولذلك لما دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- مكة أراد أن يُبَيِّن أن هذا الدخول ليس رفعًا لتحريمها، ولا إزالة لما جعله الله تعالى فيها من أمانٍ وصيانة، فكان -صلى الله عليه وسلم- يُقَرر ذلك، بل لما سمع من يقول تلك المقالة التي قالها سعد بن عُبَادة -رضي الله تعالى عنه-: "الْيَوْمَ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ، الْيَوْمَ تُسْتَبَاحُ الكَعْبَة". رد عليه -صلى الله عليه وسلم- لما بلغه هذا القول فقال: «الْيَوْمَ يَوْمُ الْمَرْحَمَةِ، الْيَوْمَ تُعَظَّمُ الْكَعْبَةُ».[أخرج القصة البخاري في صحيحه:ح4280]
نعم، اليوم تُعَظَّم الكعبة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- جاء إلى هذه البقعة مُطَهِّرًا لها من كل سوءٍ ودنس شركٍ.
كان -صلى الله عليه وسلم- يمر بالأصنام وهي منصوبة حول الكعبة وفي الكعبة، ويُزِيلُها ويقول: ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾الإسراء:81.
هذا بيان أنَّ هذا الدخول الذي كان قد دخله النبي -صلى الله عليه وسلم- ليس انتهاكًا لحرمة البيت، بل هو تحقيقٌ وتأكيدٌ لحرمته، وهو عملٌ على تطهير، التطهير الحسي والتطهير المعنوي.
التطهير المعنوي بسلامته من الشِرك، والتطهير الحسي بإزالة هذه الأقذار والأصنام والأوثان التي عُلِّقت عليه؛ لتحرف الناس وتصدهم عن عبادة الله وحده لا شريك له.
المقدم: نعم. أحسن الله إليكم.
الشيخ: هذا جزء من التحريم الذي هذا تقرير للتحريم الذي قدَّره الله -عزَّ وجلَّ-، ثم بيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- جملة من أحكام التحريم المتعلقة بهذا البيت.
المقدم: جميل، لعلنا نتعرف على هذه الأحكام شيخ خالد، لكن بعد أن ننوِّه بأرقام التواصل، وكذلك أيًضا نستقبل جزءًا من اتصالات المستمعين في هذه الحلقة.
أرقام التواصل في برنامج "الدين والحياة" مع فضيلة الشيخ الدكتور "خالد المصلح" في هذه الحلقة التي عَنْوَنَّا لها بــ "خصائص البلد الحرام"، والأرقام هي 0124677117 و 0126493028
رقم الواتس أب للبرنامج هو: 0582824040
وكذلك يمكنكم مشاركتها بالتغريد في هاشتاج البرنامج "الدين والحياة" على تويتر، وكذلك أيضًا حساب الإذاعة على تويتر "نداء الإسلام".
نأخذ الاتصال الأول معنا في هذه الحلقة من محمد بن مسعود، تفضل يا محمد.
المتصل: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المقدم: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
المتصل: زادكم الله جميعًا فضلًا وتوفيقًا وإحسانًا.
المقدم: اللهم آمين وإياك.
المتصل: طيب سؤالي الأول اللي هو، قال الله -عزَّ وجلَّ-: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ﴾الحج:27 أنا هنا نقطة ﴿فِي النَّاسِ﴾الحج:27، وجاء في الآية الثانية التي هي عن السجود قال: ﴿وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ﴾الحج:18
فأحب يوضح الشيخ النقطة هذه.
وبعدين الآية الثانية اللي هي: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} آل عمران: 96 آل عمران:96، هذا عن مكة، أما عن بيت المقدس أو القدس جاء: (مبارك للعالمين) يعني، لو فيه فرق يوضحه الشيخ جزاه الله خيرًا، وجزاكم الله خيرًا.
المقدم: طيب، تسمع إجابة السؤال.
المتصل: أو المعاني هذه. جزاكم الله خيرًا.
المقدم: وإياك.
المتصل: بارك الله فيكم.
المقدم: شكرًا جزيلًا لك، أخ محمد.
المتصل: السلام عليكم ورحمة الله.
المقدم: وعليكم السلام ورحمة الله.
الاتصال الثاني عبد العزيز.
طيب، حتى يجهز الاتصال مع الأخ عبد العزيز، لعلنا يا شيخ إذا كان بالإمكان نُعَلِّق، ثم نتوجه للحديث عن خصائص أو تحريم هذا البلد الحرام، والأحكام التي تخص هذا البلد الحرام من الأمور التي حُرِّمت على المسلمين في هذا البلد الحرام، وكذلك أيضًا بعض الخصائص التي مُيِّز بها هذا البيت عن غيره.
مسألة أنه في قوله -سبحانه وتعالى-:﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ﴾الحج:27، وكذلك أيضًا في الآية الأخرى في سورة الحج: ﴿وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ﴾الحج:18.
ومسألة أن يُقال أيضًا، ورد في آيةٍ أخرى أنَّ هذا البيت أيضًا أنه مبارك للعالمين، ومسألة أنه أيضًا هناك آيةً أخرى: ﴿مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾آل عمران:96، يعني مسألة أن يكون هذا البيت يحتوي على هذه البرَكة، وهذه البركة عامةٌ لكل العالم، كيف يمكن أن نجمع بين هذه الآيات الكريمة؟
الشيخ: هو يا أخي الكريم الخصائص التي ذكرها الله -عزَّ وجلَّ- لهذه البقعة في الآية واضحة وهي خمس خصائص؛ حتى يتميَّز ما الذي خصَّ الله تعالى به هذه البقعة عن غيرها من بقع الدنيا، ومنها المسجد الأقصى:
• الخاصية الأولى: ذكرها الله تعالى في قوله: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ﴾آل عمران:96، الأولِّية، والأولية هنا: أولية شرف ومكانة، وأولية زمانية. تجتمع الأوليَّتان: أولية الشرف والمكانة، وأولية الزمان.
• ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ﴾آل عمران:96، هذا فيه بيان أن هذه البقعة بقعة اجتماع للناس؛ لأنه قال: ﴿لَلَّذِي بِبَكَّةَ﴾آل عمران:96، بَكَّة هنا اختير هذا الاسم من بين أسماء مكة في هذا السياق؛ للدلالة على كَثْرَةِ مَنْ يأتي إلى هذه البقعة.
• الثالث: ما ذكره الله تعالى من كون هذا البيت مبارك، والبركة هنا لم يقل فيها مقيَّدة لأحد؛ لأن بركته بركة سابقة، وهي بركة لكل أحد ممن قصده أو من لم يقصده، وبركته عامة للبشرية كافة؛ ولذلك قال: ﴿وُضِعَ لِلنَّاسِ﴾آل عمران:96، ثم قال: ﴿مُبَارَكًا﴾آل عمران:96، أي: للناس؛ فبركته ليست خاصة بأحدٍ دون أحد، بل بركته عامة.
ثم قال: ﴿مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾آل عمران:96، هنا ذكر الهداية العامة لكل أحد، ﴿لِلْعَالَمِينَ﴾آل عمران:96 والعالمين يشمل الإنس، والجن، والعوالم المكلَّمة جميعها، بل إن من أهل العلم من يقول: إن من هدايات هذا البيت دلالته على الله -عزَّ وجلَّ-، ورَدّ كل ضلالة، كل ضلالة مهما كانت في أي مكان ترجع وتنتهي عن هذا البيت المبارك.
فالدجال وهو أعظم الضلالات التي تجتاح البشرية، يرُده الله تعالى على الناس بمجيئه إلى هذه البقعة، فلا يتمكن من دخولها.
﴿وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ﴾آل عمران:96-97، أي: دلائل واضحات على الحق والهدى، وعلى صدق ما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعلى صدق ألوهية الله -عزَّ وجلَّ- وربوبيته.
﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾آل عمران:97 هذا واحد منها، وهذا أحد تلك الآيات، وهو المقامات التي قام فيها إبراهيم لعبادة الله. ﴿مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾آل عمران:97 ليس المقصود به فقط الحجر الذي قام عليه، بل الحجر الذي قام عليه ببناء البيت، وهو باقٍ إلى يومنا هذا، وكذلك باقي المواضع التي قام فيها إبراهيم -عليه السلام- لعبادة الله وحده لا شريك له، الصفا، المروة، منى، مزدلفة، عرفات، كلها من مقامات إبراهيم -عليه السلام-.
ثم قال: ﴿مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾آل عمران:97 التأمين، وهذا التأمين هو التأمين الشرعي القدري.
المقدم: جميل مسألة الطهارة أيضًا يا شيخ، هي من خصائص هذا البلد الحرام؛ لقوله تعالى: ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾الحج:26 مسألة الطهارة الحسية والطهارة المعنوية.
الشيخ: الطهارة الحِسِّيَة والمعنوية، الله -عزَّ وجلَّ- كلف إبراهيم -عليه السلام- بتطهير هذا البيت، فقال: ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾الحج:26، والتطهير هنا هو: تطهير بإزالة الأنجاس والأقذار عن البيت، هذا واحد.
الثاني: بتهيئته لعبادة الله وحده؛ ولذلك في سورة الحج قال: ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ﴾الحج:26-27.
انظر إلى الترتيب الإلهي في ذكر هذه الأمور، فذكر الله -عزَّ وجلَّ- تطهير هذا البيت من الشرك، وذلك في قوله: ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا﴾الحج:26.
هذه الطهارة الأولى والأساس التي ينبغي أن تُسْتَصْحَب، وأن تظهر معالمها في هذه البقعة المباركة، وهو ألا يكون فيه شيءٌ من الشرك، وألا يُقْصَد بشيء من الشرك؛ ولذلك كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يُلبي بتلبية التوحيد: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك".
وكان -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قد أبطل عبادة كل ما سوى ذلك، بل من تطهير هذا البيت من أعمال الشرك قال -صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَطُوفُ بِالبَيْتِ عُرْيانٌ، وَلا يَحُجُّ بعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ»[صحيح البخاري:ح369]، وقد قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾التوبة:28، هذا كله التطهير المعنوي، أما التطهير الحسي فإزالة كل ما يُقَذِّر البيت الحرام.
المقدم: جميل. شيخ خالد، يَرِدُ في كثير من الآيات ذِكْر الناس، وربما هي فرصة، بما أن الأخ محمد عرض مثل هذا التساؤل أو هذا السؤال، أحيانًا ربما يقصد بهم عامة الناس، وأحيانًا يعني هل ربما أحيانًا يُقْصَد بهم صنف معين من الناس؛ كالمسلمين مثلًا، أو أنه المقصد واحد من كل هذه الألفاظ، أو من كل المواضع التي يرد فيها هذا اللفظة، لفظة "الناس"؟
الشيخ: الناس المقصود بهم بنو آدم البشر، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ﴾آل عمران:96، أي: للبَشَر، لكن فيما يتعلق بَقَصْدِ هذه البقعة ليس جميع الناس يقصدونه هنا؛ ولذلك قال: ﴿فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ﴾إبراهيم:37، ﴿مِنَ﴾ هنا للعلماء فيها قولان:
• بيانيَّة.
• وقال بعضهم: تبعيضية؛ لأنه ليس كل الناس سيأتي، إنما سيأتي إلى هذا البيت مَنْ كان مستطيعًا من أهل الإسلام، ومن كان قَبْل الإسلام مَنْ قَدَّر الله تعالى له أن يأتي إليه.
المقدم: جميل، أحسن الله إليكم.
نتواصل معكم مستمعينا الكرام في هذه الحلقة المباشرة من برنامجكم "الدين والحياة".
أرقام التواصل في هذه الحلقة لمن أراد أن يتواصل معنا: 0124677117 و 0126493028
ورقم الواتس أب: 0582824040
وكذلك يمكنكم أن تشاركونا بالتغريد على هاشتاج البرنامج "الدين والحياة" على تويتر، وكذلك أيضًا حساب الإذاعة على تويتر "نداء الإسلام".
هناك سؤال يا شيخ خالد من أحد المستمعين على الواتس أب يسأل يقول: للذين يسكُنون داخل حَدِّ الحرم في مكة المكرمة والمدينة المنورة، السؤال الأول: ما هي حرمة مكة المكرمة؟ وما هي حرمة المدينة المنورة بالنسبة لساكنيها؟
الشيخ: النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أخبر بأوجه تحريم هذه البقعة المباركة، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ»، ثم قال: «لا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلا يَلْتَقِطُ لُقْطَتَهُ إلَّا مَنْ عَرَّفَهَا».[ أخرجه البخاري في صحيحه:ح1834]
هذا الحديث الشريف وأمثاله بيَّن فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- ما خصَّ الله تعالى به هذه البقعة من أوجه التحريم؛ لأن هذه البقعة محرَّمة، وتحريمها لم يختص شيئًا من الأمور، إنما كان واسعًا عامًّا لجوانب عديدة:
• فتحريم حمل السلاح فيه؛ لتأمين الناس على أنفسهم وأبعاضهم من الاعتداء بالقتل وما دونه.
• وأيضًا: أمَّن ما فيه من نبات، «فَلَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ» أي: لا يُقْطَع، «وَلا يُخْتَلَى خَلاهُ» أي: لا يُحَشُّ ما نبت من نباته الذي نبت به من غير فعل الآدمي.
فهذان الأمران مما خصَّ الله تعالى به هذه البقعة المباركة، وهو من أوجه التحريم، فيخرج بهذا ما يتعلق بالنباتات التي يحتاج الناس إلى إزالتها، أو النباتات التي أنبتوها هم بأنفسهم.
• من أوجه التحريم في هذه البقعة المباركة: ما ذكره النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله: «وَلا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ» أي: لا يُعْتَدى على صيده بالتهييج، وهنا قال: «وَلا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ»، وفي القرآن قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾المائدة:95؛ فنهى الله تعالى عن قتل الصيد في الحرم كما دلت عليه الآية، وكذلك في حال الإحرام.
والصيد هنا هو: كل حيوان بري مأكول متوحش، فإنه لا يحل صيده إذا كان في الحرم، «وَلا يُنَفَّرُ» أي: لا يُهَيَّج.
• وأما الحكم الرابع من أوجه التحريم التي تتعلق بهذه البقعة المباركة هو قوله:
«وَلا يَلْتَقِطُ لُقْطَتَهُ إلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا»، فإن قوله -صلى الله عليه وسلم-: «وَلا يَلْتَقِطُ لُقْطَتَهُ» أي: ما سقط فيه من أموال الناس، فإنه لا يجوز لمن وَجَدَ شيئًا من المال ساقِطًا من أصحابه وهو لا يعرف صاحبه لا يجوز له أن يلتقط ذلك إلا على وجه التعريف، «إلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا».
وقوله -صلى الله عليه وسلم-:«إلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا» التعريف هنا هذا التعريف ليس تعريفًا مُؤَقَّتًا بسنة، كما هو الشأن في سائر اللُقَطَّة، إنما هو تعريفٌ مستمر لا ينقطع ما دامت العين باقية، يُعَرِّفُها حتى يجدها صاحبها، وهذا معنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: «وَلا يَلْتَقِطُ لُقْطَتَهُ إلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا».
هذه بعض الأحكام المتعلقة بالحرم من حيث التأمين: التأمين على الأنفس والدماء، التأمين على الأموال، التأمين للنبات، التأمين للصيد.
المقدم: جميل، طيب يا شيخ قبل ما نكمل أسئلة الواتس أب يمكن ربما نأخذ أيضًا اتصالات المتصلين.
عبد العزيز الشريف، تفضل يا عبد العزيز.
المتصل: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المقدم: وعليكم السلام ورحمة الله.
المتصل: حياكم الله أخ عبد الله، كيف حال؟
المقدم: حياك الله يا أخي عبد الله، تفضل.
المتصل: أحييك، وأحيي فضيلة الشيخ.
المقدم: أهلًا.
المتصل: الله يخليك، بارك الله فيك فضيلة الشيخ، بالنسبة لمكة المكرمة التي عظَّمها الله -عزَّ وجلَّ- جعل لها مواقيت، هذه المواقيت تزيد في حرمتها، هناك -بارك الله فيك- ميقات ذو الحليفة ميقاتها المدينة، تجد المسافة طويلة، ما هي الحكمة في ذلك، مع أن بقية المواقيت مسافتها ليست طويلة، هل لأن هذه المنطقة بين مكة والمدينة تحريمها شديد، أو أن الإنسان لا بد أن يحترم هذه البقعة وهو في طريق المدينة إلى مكة؟
السؤال الثاني -بارك الله فيك-: هناك في أثناء الطواف والسعي بعض الناس لا يحترم غيره للأسف الشديد، تجد التزاحم حول الحجر الأسود، والتزاحم حول الصفا والمروة مما يؤذي الناس، هل هذا دليل على أن هذه البقعة لا بد أن تحترم حتى في حال الطواف والسعي، فإن الإنسان لا يُزَاحِمُ غيره ولا يؤذي غيره؟
وجزاكم الله كل خير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المقدم: وإياك، وعليكم السلام، شكرًا لك يا عبد العزيز.
الأخ عبد العزيز، السؤال الأول كان حول مسألة المواقيت، ويعني هل هناك حِكَم معينة في تحديد هذه المواقيت المكانية؟
الشيخ: هنا يسأل بالتحديد عن ميقات المدينة ذي الحليفة، لماذا كان على هذا النحو من البُعد بخلاف سائر المواقيت، فإن مسافتها عن مكة متقاربة، بينها فروقات، لكن متقاربة في الجملة، فهي على مرحلتين من مكة مسيرة ثمانين كيلو بالحساب المعاصر، ثمانين كيلو تقريبًا من مكة، يزيد قليلًا وينقص، فهي متقاربة إلا ميقات ذي الحليفة فإنه بعيد بمئات الكيلومترات عن مكة، فما السبب في هذا؟
الله أعلم بالسبب، لكن العلماء التمسوا من ذلك حِكَمًا:
فقالوا: إن هذا لشرف المدينة، فإنه شَرُفت هذه البقعة، بأن يُحْرِم من جاء منها بعيدًا عن مكة؛ لأجَلْ أن يَعْظُم أجره.
وقيل: إنه لأجل أن يخرُج من الحرم، حرم المدينة إلى حُرَم الإحرام، إلى تحريم الإحرام، وهو أنه إذا أحرم حَرُم عليه ما يتصل بمحظورات الإحرام، ثم يدخل بعد ذلك في الحرم، وليس أن المنطقة ما بين الميقات وما بين مكة محرمة، فميقات ذي الحليفة أو سائر المواقيت ليست هذه المنطقة محرَّمة، الحرم هو ما أحاط بالبيت من أماكن معروفة محددة، وقد أُقيمت أعلام تميز حدود الحرم عن غيره.
فالمواقيت لا صلة لها بالحرم فهي نائية عن الحرم بعيدة عنه، وما بين المواقيت والحرم ليس شيئًا من الحرام، بل هو من الِحل الذي دون الحَرم، وليس له أحكام تخصه من حيث التحريم.
أما ذو الحليفة فهو في طرف حرم المدينة من جهة الجنوب، يعني الذي يُشاهد وادي العقيق ذا الحليفة يجد أن ذا الحليفة داخل في حدود حرم المدينة، فإذا أحرم منه وخرج إلى خارج حرم المدينة خرج محرمًا، حتى يدخل في حرم مكة.
هذا ما قيل في سبب بُعْد حرم المدينة بُعْد ميقات المدينة عن الحرم بخلاف سائر المواقيت.
المقدم: طيب، قبل أن نأخذ السؤال الثاني للأخ عبد العزيز، نأخذ الاتصال من الأخت شيماء من مصر. تفضلي يا شيماء.
المتصلة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المقدم: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
المتصلة: هنيئًا لكم ببلادكم وهنيئًا لبلادكم بكم.
المقدم: جزاكم الله خيرًا.
المتصلة: الله يرضى عنكم، ويجعلها سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
المقدم: اللهم آمين.
المتصلة: عندي بعض الأسئلة.
المقدم: باختصار يا أخت شيماء عشان الوقت.
المتصلة: حاضر. كم مرة ذُكِرت مكة الحبيبة في القرآن؟
عايزين نعيش مع أقوال السلف ومع أقوال الصحابة والتابعين عن مكة الحبيبة؟
مكة كلها حرام، يعني أنا لو صليت في أي مكان في مكة -ربنا يرزقنا يارب سُكْنَاها أو يرزقنا إياها- لو صليت في أي مكان فيها آخذ فضل خمسين ألف صلاة؟
المقدم: مائة ألف صلاة.
المتصلة: معذرةً، لا حول ولا قوة إلا بالله.
المقدم: طيب شكرًا لكِ أختي شيماء، بارك الله فيكِ.
السؤال الثاني كان للأخ عبد العزيز يا شيخ خالد حول مسألة التزاحم، وباختصار يا شيخ.
الشيخ: هو التزاحم هو يُشير الأخ عبد العزيز إلى مسألة العناية بحُرمة المكان، سواءً من الطائفين أو غيرهم، ينبغي استشعار حُرمة هذه البقعة التي نحن فيها سواءً في حجٍ أو في عمرة، فإن تعظيم الله -عزَّ وجلَّ- يقتضي تعظيم ما عظَّمه، وتعظيم هذا المكان هو من شعائر الله؛ ولذلك بعد أن ذكر الله تعالى بناء البيت والمجيء إليه بالحج وما إلى ذلك قال: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ﴾الحج:30، وقال: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾الحج:32
المقدم: جميل. مسألة، هل هناك قول من أقوال السلف - وأقوال السلف كثيرة في مكة المكرمة - لكن هل هناك شيء يا شيخ يحضركم في هذه اللحظة، مما كان في عهد السلف من أقوال السلف مما كان يُنْبِئ عن عظيم حُبِّهم واحترامهم لهذا المكان المُحرَّم؟
الشيخ: لا أعظم من كلام الله وكلام رسوله في بيان حرمة هذه البقعة المباركة.
المقدم: جميل. طيب السؤال، هناك السؤال فيما يتعلق بالصلاة في الحرم ومضاعفة الصلاة بمائة ألف، هل هو مختص بمسجد الكعبة، أو أنه ربما كل المساجد لها نفس الفضل؟
الشيخ: لا، هو شامل لكل الحرم ليس فقط المساجد، بل لكل الحرم سواءً كانت المساجد المبنية أو كان ذلك في غير المساجد المبنية، كله يحصل به المضاعفة، ولكن الصلاة في مسجد الكعبة فيها كَثْرة الجماعة، فيها الصلاة في المنطقة التي عُبِدَ الله تعالى فيها أولًا عند البيت الحرام، فيها الصلاة في مكة في المكان الذي لا خلاف في حصول المضاعفة في الصلاة فيه، وما إلى ذلك.
المقدم: بعض الناس يا شيخ يؤجِّل ربما الصلاة وهو يمكن ربما مسافر مثلًا متجه من جدة إلى الطائف مثلًا، أو أنه مثلًا ربما متجه من جدة إلى مكة، ويحرص على أنه ربما أحيانًا يؤجِّل الصلاة؛ حتى يُدْرِك حد الحرم فيصلي بعد أن يتجاوز هذا الحد.
الشيخ: لا بأس في هذا، إذا كان ذلك مما يحل له الجمع، لكن أن يخرج الصلاة عن وقتها فلا.
المقدم: جميل. السؤال الثاني عبر الواتس أب يسأل: هل هناك أجر أو ميزة معينة للسكن والإقامة داخل حدِّ الحرم؟
الشيخ: فيه أنَّ الحسنات في الحرم أجرها أعظم من الحسنات في خارجه، ولكن أيضًا السيئات فيه لها منزلة ليست كالسيئات في غيره.
المقدم: جميل. سؤال ربما يمكن من الأسئلة الأخيرة اللي نأخذها في هذا اللقاء، الأخ يسأل لم يذكر اسمه، ويقول: السلام عليكم، أشكر القائمين على البرنامج، الله -جلَّ جلاله- أهلك أصحاب الفيل عندما قصدوا مكة بسوء، وفي التاريخ يقول: إن هناك أحد الطوائف أيضًا اعتدوا على آل البيت الحرام، وقتلوا من كان يطوف في الكعبة، وأخذوا أو سرقوا الحجر الأسود، يقول السؤال: ما الحكمة في هلاك أصحاب الفيل، وعدم هلاك هؤلاء الذين اعتدوا على البيت العتيق؟
الشيخ: أجبت عن هذا بأن التحريم السابق للإسلام كان تحريمًا قدريًا، بعد فتح مكة التحريم تحريم شرعي، فوكَّل الله تعالى .. عفوًا التأمين كان قدريًا، وبعد الإسلام كان التأمين شرعيًّا؛ ولذلك أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بما أخبر من وجوب حفظ هذه البقعة: «لا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلا يُخْتَلَى خَلَاهُ، وَلا تُلْتَقَطُ لُقْطَتَهُ».[تقدم]
فهؤلاء الذين جاءوا وفعلوا ما فعلوا من الأفاعيل - القرامطة - من الفساد الذي حصل عند الكعبة، هذا مما لا تمنعه الآيات؛ لأنه لم يقم من يصدهم عن ذلك.
المقدم: نعم. أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.
في خواتم هذا اللقاء أتقدم بالشكر الجزيل إلى فضيلة الشيخ الدكتور "خالد بن عبد الله المصلح"، أستاذ الفقه بكلية الشريعة في جامعة القصيم، المشرف العام على فرع الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء في منطقة القصيم.
على ما أفاد وأجاد في هذا اللقاء، فشكر الله لفضيلتكم.
الشيخ: بوركتم، وجزاكم الله خيرًا. نسأل الله أن يُتَمَّ لنا تعظيم شعائره، وأن يحفظ لنا هذه البلاد من كل سوءٍ وشر، وأن يوفِّق القائمين على حفظ أمن هذه البقاع المباركة، وعلى خدمة حجاج بيت الله ومعتمري مسجد الكعبة، وزواه المسجد الحرام والمسجد النبوي.
المقدم: اللهم آمين.
الشيخ: وصلى الله وسلم على نبينا محمد.