بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ
إنَّ الحمدَ للهِ، نحمدُهُ ونستعينُهُ ونستغفرُهُ، ونعوذُ باللهِ مِن شرورِ أنفسِنا وسيِّئاتِ أعمالِنا، مَن يهدِهِ اللهُ فلا مضلَّ لهُ، ومَن يُضللْ فلا هاديَ لهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ، وحدَهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، أرسلَهُ اللهُ بالهُدى ودينِ الحقِّ، ليُظهرَهُ على الدِّينِ كلِّهِ، وكفى باللهِ شهيدًا، صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وأصحابِهِ وسلَّمَ تسليمًا.
أمَّا بعدُ:
فإنَّ أوثقَ الصّلاتِ البشريّةِ صلةُ الزّوجينِ أحدِهما بالآخرِ، فهما في القربِ كالنّفسِ للمرءِ، قالَ اللهُ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ سورة النساء، جزء آية: (1)..
وقالَ تعالى: ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً﴾ سورة النساء، جزء آية: (72)..
فلا تكادُ تجدُ رباطًا بينَ اثنينِ مِنَ النَّاسِ، كالَّذي بينَ الزوجينِ مِنَ المودَّةِ والرحمةِ وعظيمِ المشاركةِ وكثرةِ المخالطةِ وشدَّةِ الملابسةِ، فبيْنَ الزوجينِ مِن كمالِ الامتزاجِ والقربِ ما كنى اللهُ عن شدَّتِهِ وعظمتِهِ، بأنْ جعلَ كلَّ واحدٍ مِنَ الزوجينِ لباسًا للآخرِ تفسير اللباب لابن عادل (1/571). ؛ حيثُ قالَ تباركَ وتعالى: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾ سورة البقرة، آية: (187)..
فإنَّ كلًّا مِنَ الزوجينِ ينضمُّ إلى الآخرِ حتى يصيرَ كلُّ واحدٍ منهما لصاحبِهِ كالثوبِ الذي يلبسُهُ.
وهذا الاختصاصُ والتقاربُ يشملُ أوجهًا عديدةً مِنَ المخالطةِ والسَّكنِ، ثم المعاشرةِ في الفراشِ، ثم النَّسلِ والذُّرِّيَّةِ التي تنشأُ عنهما.
ولشدةِ قربِ كلٍّ مِنَ الزَّوجينِ بالآخرِ، كان اطِّلاعُ كلٍّ منهما على شأنِ الآخرِ ميسورًا، فيُفضي كلُّ واحدٍ منهما إلى صاحبِهِ بالدَّقيقِ والجليلِ غالبًا، لهذا جاءَ التَّغليظِ في كشفِ السِّرِّ الذي بينهما.
كما جاءَ فيما رواهُ مسلمٌ، مِن حديثِ أبي سعيدٍ الخدريِّ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ مِن أشرِّ الناسِ عندَ اللهِ منزلةً يومَ القيامةِ: الرجلُ يُفضِي إلى امرأتِهِ، وتُفضِي إليهِ؛ ثم يَنْشُرُ سِرَّها» كتاب النكاح، باب تحريم إفشاء سر المرأة، رقم (2597)..
ولأجلِ طبيعةِ هذهِ العلاقةِ، وما تتميَّزُ بهِ مِنَ الخصوصيَّةِ، كانتْ مسألةُ إخبارِ الطبيبِ أحدَ الزوجينِ بنتائجِ الفحوصِ الطبيةِ للآخرِ مِنَ المسائلِ الملحَّةِ التي تدعو الحاجةُ العلميَّةُ والعمليَّةُ إلى تجليتِها؛ وبيانِ ما يتعلّقُ بها مِنَ الأحكامِ؛ وذلكَ لما قد يترتبُ على ذلكَ مِنْ آثارٍ مهمةٍ في العلاقةِ بينَ الزَّوجينِ وفي النَّسلِ والذُّرِّيَّةِ.
وقد رغَّبَتْ أمانةُ المجمعِ الفقهيِّ الإسلاميِّ بمكةَ المكرمةِ، في إعدادِ ورقةِ بحثٍ حولَ أحكامِ إخبارِ الطبيبِ أحدَ الزوجينِ بنتائجِ الفحوصِ الطبيَّةِ، مما لهُ أثرٌ في الطرفِ الآخرِ، فاستعنتُ اللهَ في كتابَةِ هذهِ الورقاتِ، مشاركةً لإخواني، ومساهمةً في تجليةِ بعضِ جوانبِ هذهِ المسألةِ، وقد وسمتُها: "إخبارُ الطبيبِ أحدَ الزَّوجينِ بتائجِ الفحوصِ الطبِّيَّةِ للآخرِ؛ رؤية شرعيَّة".
وهذهِ المسألةُ وثيقةُ الصِّلةِ بما يُعرفُ في الدراساتِ القانونيةِ بسرِّ المهنةِ عمومًا، وسرِّ المِهَنِ الطبِّيَّةِ خصوصًا.
وموضوعُ السرِّ الطبِّيِّ عمومًا قد تناولَهُ عددٌ مِنَ الأبحاثِ والدراساتِ القانونيَّةِ والشَّرعيَّةِ، كما تناولَتْهُ بالبحثِ المنظمةُ الإسلاميةُ للعلومِ الطبِّيَّةِ، في ندوتِها الثالثةِ سنةَ 1987م، ثم مجمعُ الفقهِ الإسلاميُّ الدوليُّ بجدةَ، في دورةِ مؤتمرِهِ الثَّامنِ.
والجديدُ في هذا البحثِ هو تخصيصُه بصورةٍ مِن صورِ إفشاءِ السرِّ الطِّبِّيِّ، وهو إخبارُ الطبيبِ أحدَ الزوجينِ بنتائجِ فحوصاتِ الآخرِ.
وقد تناولتُه على النَّحوِ التَّالي:
أولًا: تمهيدٌ.
ثانيًا: المبحثُ الأوَّلُ: الأصلُ في الأسرارِ الطبِّيَّةِ.. وفيهِ أربعةُ مطالبَ:
المطلبُ الأولُ: تعريفُ الأسرارِ الطبِّيَّةِ.
المطلبُ الثَّاني: حفظُ الأسرارِ في الشَّريعةِ والطِّبِّ.
المطلبُ الثَّالثُ: ضوابطُ الإخبارِ بالأسرارِ الطبِّيَّةِ.
المطلبُ الرَّابعُ: المسؤوليَّةُ الجزائيَّةُ المترتّبةُ على إفشاءِ الأسرارِ الطِّبِّيَّةِ.
ثالثًا: المبحثُ الثَّاني: الإخبارُ بنتائجِ الفحوصاتِ الطبِّيَّةِ.. وفيهِ ثلاثةُ مطالبَ:
المطلبُ الأولُ: تعريفُ الفحوصِ الطِّبِّيَّةِ.
المطلبُ الثَّاني: إخبارُ أحدِ الزَّوجينِ بنتائجِ الفحوصاتِ الطبِّيَّةِ.
المطلبُ الثَّالثُ: الآثارُ المترتِّبةُ على الإخبارِ بنتائجِ الفحوصاتِ الطِّبِّيَّةِ.
رابعًا: خاتمةٌ.
فاللهَ أسألُ الإعانةَ والتَّسديدَ، وأن يُباركَ في القولِ والعملِ، وأن يرزُقَنا الفقهَ في الدِّينِ، والعملَ بالتَّنزيلِ.
ولا يفوتُني أن أشكرَ أمانةَ المجمعِ الفقهيِّ الإسلاميِّ بمكةَ، التابع لرابطةِ العالمِ الإسلاميِّ، على ما يقومونَ بهِ مِن جهودٍ مباركةٍ وأعمالٍ جليلةٍ، واللهُ المأمولُ وهو المرتجَى وعليه المعوَّلُ، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.
فرغتُ منهُ في ضحى يومِ الأحدِ
22/10/1433ه
بينَ السَّماءِ والأرضِ (في الطَّائرةِ)