المطلبُ الثَّاني: حفظُ الأسرارِ في الشريعةِ والطبِّ:
الفرعُ الأولُ: منزلةُ حفظِ السرِّ في الشريعةِ:
أمرَ اللهُ تعالى بأداءِ الأماناتِ إلى أهلِها، فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ سورة النساء، جزء آية:(58)..
وقد امتدحَ الذين هم لأمانتهِم راعونَ، فقالَ: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾ سورة المؤمنون، آية: ( 8). . وهذا يشملُ كلَّ ما يجبُ حفظُهُ مِنَ الأشياءِ ورعايتُهُ، ومِن ذلكَ أسرارُ الناسِ وما يسترونَهُ ويكرهونَ ظهورَهُ، فإنَّهُ يجبُ صيانتُها وحفظُها وكتمانُها تفسير المراغي (5/70)، تفسير المنار (5/143)..
ويشهدُ لذلكَ ما رواهُ جابرٌ رضيَ اللهُ عنهُ، عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قالَ: «إذا حدَّثَ الرَّجلُ الحَدِيثَ ثُمَّ الْتَفَتَ فَهِيَ أَمَانَةٌ» رواه الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء أن المجالس أمانة، رقم (1959)، وأبو داود، كتاب الطب، باب في نقل الحديث، رقم (4868). قال عنه الترمذي: حديث حسن. ، «قالَ ابنُ رسلانَ: لأنَّ التفاتَهُ إعلامٌ لمن يحدِّثُهُ أنهُ يخافُ أن يَسمعَ حديثَهُ أحدٌ، وأنَّهُ قد خصَّهُ سرَّهُ» عون المعبود (3/ 179)..
والأسرارُ مما يدخلُ في الأماناتِ التي نهَى اللهُ عن خيانتِها ينظر: تفسير المنار (9/535). ، فتندرجُ في قولِهِ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ سورة الأنفال، آية: (27)..
وقد عابَ اللهُ على بعضِ أزواجِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إفشاءَها سرَّ الرَّسولِ الكريمِ صلى الله عليه وسلم، وذلكَ مِن أسبابِ نزولِ قولِهِ تعالى: ﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾ سورة التحريم، آية: (4). ، كما قالَ بعضُ أهلِ العلمِ ينظر: شرح صحيح البخارى لابن بطال (7/405)، المحرر في أسباب التزول، د.المزيني (2/1033)..
والأدلَّةُ متضافرةٌ على وجوبِ حفظِ السِّرِّ.
وعلى هذا المعنى تواردتْ كلماتُ أهلِ العلمِ، في التَّأكيدِ على حرمةِ إفشاءِ السرِّ ووجوبِ كتمانِهِ ينظر: شرح صحيح البخارى لابن بطال (9/61)، إكمال المعلم شرح صحيح مسلم للقاضي عياض (5/14)، إحياء علوم الدين (3/132)، طرح التثريب في شرح التقريب (7/264)، مطالب أولي النهى (15/401)..
وقد خصَّ بعضُ الفقهاءِ تحريمَ إفشاءِ السرِّ، بما إذا كان فيه مضرَّةٌ على صاحبِ السِّرِّ ينظر: الإنصاف (8/266)..
والسِّرُّ الذي يجبُ حفظُهُ ولا يجوزُ إفشاؤُهُ، يشملُ كلَّ أمرٍ علمتَهُ عن غيرِكَ، وعرفْتَ أنهُ يرغبُ منكَ أن تكتمَهُ ولا تُظهرَهُ، سواءٌ أعرفتَ ذلكَ بتصريحِهِ أو بقرينةٍ ينظر: غذاء الألباب (1/116)..
ويتأكَّدُ الحفظُ كلَّما زادَ التَّمكُّنُ مِن الاطِّلاعِ على الخفايا وتعسَّرَ الاحترازُ؛ لذلكَ جاءَ الوعيدُ في كشفِ الرجلِ سرَّ امرأتِهِ، ففي صحيحِ مسلمٍ مِن حديثِ أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ مِن أشرِّ الناسِ عندَ اللهِ مَنزِلةً يومَ القِيامةِ: الرَّجلُ يُفضِي إلى المرأةِ وتُفضِي إليهِ، ثم يَنشُرُ سِرَّها» كتاب النكاح، باب تحريم إفشاء سر المرأة، رقم (2597)..
ومما يندرجُ فيما يجبُ حفظُهُ مِنَ الأسرارِ، ما يطَّلعُ عليهِ الإنسانُ مِن خفايا الناسِ، بمقتضَى وظيفتِهِ وطبيعةِ عملِهِ. وقد نصَّ على ذلكَ الفقهاءُ في مهنةِ الطبِّ على وجهِ الخصوصِ، فقالَ ابنُ مفلحٍ في حديثِهِ عمَّا يجبُ على غاسلِ الموتى: «كما يحرُمُ تحدُّثُهُ، وتحدُّثُ طبيبٍ، وغيرِهما بعيبٍ» الفروع (2/ 217)..
وقالَ الحجاويُّ: «يجبُ على الطبيبِ ألَّا يحدِّثَ بشرٍّ هكذا في الأصل، والصحيح: بشرًا". لما فيهِ مِنَ الإفضاحِ» كشاف القناع (4/326)..
وقالَ الرّحيبانيُ: «كطبيبٍ في سترِ عيبٍ رآهُ بجسدٍ مطبوبٍ، فيجبُ عليهِ سترُهُ، فلا يُحَدِّثُ بهِ؛ لأنَّهُ يؤذيهِ، ومِثلُهُ الجرائحيُّ» مطالب أولي النهى (4/328)..
وقالَ ابنُ القيِّمِ: «فالمفتي والمعبِّرُ والطبيبُ، يطَّلعونَ مِن أسرارِ النَّاسِ وعوراتِهم، على ما لا يطَّلعُ عليهِ غيرُهُم؛ فعليهِم استعمالُ السترِ فيما لا يَحسُنُ إظهارُهُ» إعلام الموقعين (4/ 257)..
فمسئوليَّةُ الطبيبِ وأمثالِهِ أعظمُ مِن غيرِهِم؛ لأنَّهم يطَّلعونَ على أشياءَ كثيرةٍ، ويُفضِي المرضَى إليهِم بخفايا وأمورٍ لا يُطَّلعُ عليها عادةً، فكانَ ما عليهِم مِنَ الحفظِ أعظمَ مِن غيرِهِم.
وقد أشارَ إلى هذا المعنى القرارُ الصَّادرُ عن مجلسِ مجمعِ الفقهِ الإسلاميِّ الدوليِّ، المنعقدِ في دورةِ مؤتمرِهِ الثامنِ، حيثُ جاءَ فيهِ ما نصُّه: «يتأكَّدُ واجبُ حفظِ السرِّ على مَن يعملُ في المهنِ التي يعودُ الإفشاءُ فيها على أصلِ المهنةِ بالخللِ، كالمهنِ الطبِّيَّةِ، إذ يركنُ إلى هؤلاءِ ذوو الحاجةِ إلى محضِ النُّصحِ وتقديمِ العونِ، فيُفضونَ إليهم بكلِّ ما يُساعِدُ على حسنِ أداءِ هذهِ المهامِّ الحيويَّةِ، ومنها أسرارٌ لا يكشفُها المرءُ لغيرِهِم حتى الأقربينَ إليهِ» مجلة المجمع، العدد الثامن (3 /15)..
الفرعُ الثَّاني: منزلةُ حفظِ السِّرِّ في الطبِّ:
الطِّبُّ مِنَ الوظائفِ التي يُطَّلعُ فيها على خفايا المرضَى وأسرارِهِم، لذا كانَ مِن آدابِ المهنةِ الأصيلةِ منذُ قديمِ الزمنِ أن يحفظَ الطبيبُ ما يطَّلعُ عليهِ مِن خفايا المرضَى وأسرارِهِم التي يُعاينُها أو يسمعُها أو يتبينُها بالفحوصاتِ الطِّبِّيَّةِ.
وأقدمُ ما عُرفَ مِنَ التنظيماتِ المتعلِّقةِ بحفظِ أسرارِ المرَضى، ميثاقُ الطبيبِ أبقراطَ، وفيهِ: أنَّ كلَّ ما يصلُ إلى بصرِي أو سمعِي، وقتَ قيامِي بمهمتِي أو في غيرِ وقتِها، مما يمسُّ علاقتي بالناسِ، ويتطلبُ كتمانَه، فسأكتمُهُ، وسأحتفظُ بهِ في نفسِي محافظتِي على الأسرارِ المقدَّسةِ ينظر: المسئولية الجزائية للطبيب عن إفشاء السر الطبي ص (11).. وقد ذُكِرَ لابنِ أبي أصيبعةَ مِن جملةِ آدابِ الأطباءِ: «الحرصُ على كتمانِ أسرارِ المرضى» عيون الأنباء في طبقات الأطباء (1/35)..
وقد نصّتْ مواثيقُ حقوقِ الإنسانِ على توفيرِ الحمايةِ القانونيَّةِ ضدَّ كلِّ الخروقاتِ التي تُفضِي إلى كشفِ أسرارِ حياةِ الإنسانِ الخاصَّةِ بهِ، أو بأسرتِهِ أو منزلِهِ أو مراسلاتِهِ.
كما اشتملتْ القوانينُ الحديثةُ على النصِّ بتجريمِ إفشاءِ السرِّ الذي اؤتُمنَ عليهِ الإنسانُ بحكمِ وظيفتِهِ، ومِن ذلكَ السِّرُّ الطِّبِّيُّ ينظر: المسئولية الجزائية للطبيب عن إفشاء السر الطبي ص (11-13)، مجلة جامعة دمشق للعلوم الاقتصادیة والقانونیة، المجلد (25)، العدد الثاني (2009). تأثير التقدم العلمي في مجال الطب الحيوي على حقوق المرضى، دراسة قانونية مقارنة، الدكتور فواز صالح، ص (498)..
بل أوردَ القانونُ الفرنسيُّ الأطباءَ على رأسِ قائمةِ الموظفينَ الّذينَ ألزمَهُم بسرِّ المهنةِ الحماية الجنائية لسر المهنة في الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية ص (35)..
ومِن ذلكَ ما جاءَ في المادةِ الحاديةِ والعشرينَ، مِن نظامِ مزاولةِ المهنِ الصِّحِّيَّةِ السعوديِّ: «يجبُ على الممارسِ الصِّحِّيِّ أن يُحافظَ على الأسرارِ الَّتي علمَ بها، عن طريقِ مهنتِهِ، ولا يجوزُ لهُ إفشاؤُها إلا في الأحوالِ الآتيةِ...» نظم الصادر بالمرسوم الملكي رقم (م/59)، وتاريخ 4/11/1426هـ..
فالأصلُ تجريمُ إفشاءِ أسرارِ المرضَى، ومؤاخذةُ من يُظهرُها أو يُفشِيها.
وهذا الموضوعُ، يتناولُهُ الأطباءُ في دراستِهِم ضمنَ ما يُعرفُ بآدابِ مهنةِ الطبِّ (medical ethics) Dorland's Pocket Medical Dictionary, edition 25, W.B. Saunders Company, 1995..