المطلبُ الثالثُ: ضوابطُ الإخبارِ بالأسرارِ الطبيَّةِ:
الأصلُ وجوبُ حفظِ السِّرِّ وعدمُ إظهارِهِ كما تقدمَ؛ لكن إنِ اقتضتْ مصلحةٌ أو دعتْ حاجةٌ إلى إفشائِهِ، فإنَّ المنعَ يزولُ؛ بل يكونُ إفشاءُ السرِّ مباحًا، وقد يكونُ مستحبًّا أو واجبًا، وذلك بناءً على قدرِ المصلحةِ المترتبةِ على إفشاءِ السرِّ، أوِ المفسدةِ النَّاتجةِ عن كتمانِهِ.
ومما يُستدلُّ بهِ لذلكَ ما جاءَ في "الصَّحيحينِ" مِن حديثِ زينبَ امرأةِ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رضيُ اللهُ عنهما، أنها قالتْ: «انطلقتُ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فوجدتُ امرأةً مِنَ الأنصارِ على البابِ، حاجتُها مثلُ حاجتِي، فمرَّ علينا بلالٌ، فقلنا: سلِ النَّبيَّ: أيُجزئ عني أن أُنفقَ على زوجِي وأيتامٍ لي في حجرِي؟ وقلنا: لا تخبرُ بنا، فدخلَ فسألَهُ، فقالَ: «مَنْ هُمَا؟»، قالَ: زينبُ، قالَ: «أيُّ الزَّيَانِبِ؟»، قالَ: امرأةُ عبدِ اللهِ...» البخاري، كتاب الزكاة، باب الزكاة على الأقارب، رقم (1462)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين والزوج والأولاد، رقم (1000)..
وقد وجَّهَ القرطبيُّ فعلَ بلالٍ على أنهُ إنما أفشَى ما طلبَتَا كتمانَهُ، لأجلِ المصلحةِ أو دعاءِ الحاجةِ، قالَ رحمهُ اللهُ: «وليسَ إخبارُ بلالٍ بالسائلتينِ اللتينِ استكْتَمَتَاهُ مَنْ هما، بكشفِ أمانةِ سرٍّ؛ لوجهينِ:
أحدُهما: أنَّ بلالًا فَهِم أنَّ ذلكَ ليسَ على الإلزامِ، وإنما كانَ ذلكَ منهُما على أنهما رَأَتَا أنَّهُ لا ضرورةَ تُحوجُ إلى ذلكَ.
والثاني: أنهُ إنما أخبرَ بهما جوابًا لسؤالِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فرأى أنَّ إجابةَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أهمُّ وأوجبُ مِن كتمانِ ما أمرتاهُ بهِ» المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (3/46)..
وقد قرَّر جوازَ الإفشاءِ لمصلحةٍ أو دفعِ ضررٍ أو لحاجةٍ، العزُّ بنُ عبدِ السلامِ رحمَهُ اللهُ، حيثُ قالَ: «السترُ على الناسِ شيمةُ الأولياءِ، فضلًا عنِ الأنبياءِ، وإنما قالَ يوسفُ عليه السلام: ﴿هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي﴾ سورة الأنفال، آية: (50). ليدفعَ عن نفسِهِ ما قد يتعرَّضُ لهُ مِن قتلٍ أو عقوبةٍ، وكذلكَ قولُهُ: ﴿مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ﴾ سورة يوسف، آية: (50). يدفعُ التهمةَ عن نفسِهِ؛ فإنَّ الملكَ لو اتَّهمَهُ لم يُوَلِّهِ، ولم يحصُلْ على إحسانِ الولايةِ» شجرة المعارف والأحوال ص (291)..
وأسرارُ المرضَى مِن جملةِ ما يجبُ حفظُهُ وكتمانُهُ مِنَ الأسرارِ، إلا ما دعتْ حاجةٌ أو مصلحةٌ لبيانِهِ وكشفِهِ وإفشائِهِ.
وهذا ما انتهتْ إليهِ توصيةُ المنظمةِ الإسلاميَّةِ للعلومِ الطبيَّةِ، في ندوتِها الثالثةِ سنةَ 1987م، حيثُ جاءَ في توصياتِها: «إفشاءُ السرِّ في الأصلِ محظورٌ، ومستوجبٌ المؤاخذةَ شرعًا ومهنيًّا وقانونًا.
ويُستثنى مِن وجوبِ كتمانِ السِّرِّ حالاتٌ يؤدِّي فيها كِتمانُهُ إلى ضررٍ يفوقُ ضررَ إفشائِهِ بالنِّسبةِ لصاحبِهِ، أو يكونُ في إفشائِهِ مصلحةٌ تُرجَّحُ على مضرَّةِ كتمانِهِ.
وهذهِ على ضربينِ:
1- حالاتٌ يجبُ فيها إفشاءُ السِّرِّ، وهي ما فيهِ درءُ مفسدةٍ عنِ المجتمعِ أوِ الأفرادِ.
2- حالاتٌ يجوزُ فيها إفشاءُ السرِّ، وهي ما فيهِ جلبُ مصلحةٍ للمجتمعِ أو يأذنُ صاحبُ السرِّ بإفشائِهِ.
وفي جميعِ الأحوالِ يجبُ أن يحميَ القانونُ الأطباءَ بالنَّصِّ على كيفيَّةِ الإفشاءِ، ولِمَن يكونُ، وتقومُ الجهاتُ المسئولةُ بتوعيةِ الكافَّةِ بهذهِ المواطنِ» مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد الثامن، (3/378)..
وقد نصَّ على ذلكَ القرارُ الصادرُ عن مجلسِ مجمعِ الفقهِ الإسلاميِّ الدوليِّ، المنعقدِ في دورةِ مؤتمرِهِ الثَّامنِ؛ إذ يقولُ: «تُستثنى مِن وجوبِ كتمانِ السرِّ حالاتٌ يؤدِّي فيها كتمانُهُ إلى ضررٍ يفُوقُ ضررَ إفشائِهِ بالنسبةِ لصاحبِهِ، أو يكونُ في إفشائِهِ مصلحةٌ ترجحُ على مَضرَّةِ كتمانِهِ» مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد الثامن، (3/409)..
وقد أجملَ القرارُ ذلكَ في قسمينِ:
القسمُ الأولُ: «حالاتٌ يجبُ فيها إفشاءُ السرِّ؛ بناءً على قاعدةِ ارتكابِ أهونِ الضَّررينِ لتفويتِ أشدِّهما، وقاعدةِ تحقيقِ المصلحةِ العامةِ، التي تَقضِي بتحمُّلِ الضررِ الخاصِّ لدرءِ الضررِ العامِّ، إذا تعيَّنَ ذلكَ لدرئِهِ.
وهذهِ الحالاتُ على نوعينِ: ما فيهِ درءُ مفسدةٍ عنِ المجتمعِ، وما فيهِ درءُ مفسدةٍ عنِ الفردِ» مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد الثامن، (3/410)..
القسمُ الثاني: «حالاتٌ يجوزُ فيها إفشاءُ السرِّ، لما فيهِ جلبُ مصلحةٍ للمجتمعِ، أو درءُ مفسدةٍ عامَّةٍ.
وهذهِ الحالاتُ يجبُ الالتزامُ فيها بمقاصدِ الشَّريعةِ وأولويَّاتِها، مِن حيثُ حفظُ الدِّينِ والنَّفسِ والعقلِ والنَّسلِ والمالِ» مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد الثامن، (3/410)..
وقد أكَّدَ القرارُ على أنهُ ينبغي أن يَنُصَّ نظامُ مزاولةِ المهنِ الطِّبِّيَّةِ على مواضعِ الاستثناءاتِ، معَ تفصيلِ كيفيَّةِ الإفشاءِ، ولِمَن يكونُ.
وقد جرَتْ على ذلكَ الموادُّ واللوائحُ في الأنظمةِ التي تُنظِّمُ مزاولةَ مهنةِ الطبِّ، فنصَّتْ على وجوبِ حفظِ أسرارِ المرضَى، ونصَّتْ على أنَّه يُستثنى مِن هذا الأصلِ عدَّةُ حالاتٍ, وعلى ذلكَ جرى نصُّ المادةِ الحاديةِ والعشرينَ من نظامِ مزاولةِ المهنِ الصِّحيَّةِ السعوديِّ: «يجبُ على الممارسِ الصِّحِّيِّ أن يُحافظَ على الأسرارِ التي عَلِمَ بها عن طريقِ مهنتِهِ، ولا يجوزُ له إفشاؤُها إلا في الأحوالِ الآتيةِ:
أ- إذا كانَ الإفشاءُ مقصودًا بهِ:
1-الإبلاغُ عن حالةِ وفاةٍ ناجمةٍ عن حادثٍ جنائيٍّ، أوِ الحيلولةُ دونَ ارتكابِ جريمةٍ, ولا يجوزُ الإفشاءُ في هذهِ الحالةِ إلا للجهةِ الرَّسميةِ المختصَّةِ.
2-الإبلاغُ عن مرضِ سارٍ أو معدٍ.
3-دفعُ الممارسِ لاتهامٍ وجَّهَهُ إليهِ المريضُ أو ذووهُ، يتعلَّقُ بكفايتِهِ أو بكيفيَّةِ ممارستِهِ المهنةِ.
ب- إذ وافقَ صاحبُ السِّرِّ كتابةً على إفشائِهِ، أو كانَ الإفشاءُ لذوِي المريضِ مفيدًا لعلاجِهِ.
ج- إذا صدرَ لهُ أمرٌ بذلكَ مِن جهةٍ قضائيَّةٍ» ينظر: نظام مزاولة المهن الصحية، الذي أقره مجلس الوزراء في جلسته المنعقدة بتاريخ 3 من ذي القعدة 1426هـ.
http://www.rkh.med.sa/ar/healthawareness/ethics.htm.
وما تضمَّنتْهُ هذهِ المادةُ هو خلاصةُ التَّنظيماتِ والقوانينِ الدوليَّةِ، والتي تضبطُ إفشاءَ أسرارِ المرضَى؛ سواءٌ في الحالاتِ التي تُبيحُ إفشاءَ أسرارِ المرضَى، أوِ الحالاتِ التي يتوجَّبُ فيها الإفشاءُ ينظر: المسئولية الجزائية للطبيب عن إفشاء السر الطبي ص (45-65)..