المطلبُ الرابعُ: المسئوليَّةُ الجزائيَّةُ المترتّبةُ على إفشاءِ الأسرارِ الطبيَّةِ:
إفشاءُ أسرارِ المرضَى يُعدُّ خيانةً للأمانةِ واعتداءً على المرضَى، ومعَ أنَّ الأنظمةَ منعَتْ ذلكَ، إلا أنها لم تحدِّدِ المسئوليةَ الجزائيةَ المترتّبةَ على مخالفةِ ذلكَ بصورةٍ جليّةٍ، فالأبحاثُ القانونيَّةُ «لم تستوعبْ- بصورةٍ كافيةٍ- مشكلةَ إفشاءِ السرِّ الطبِّيِّ، حيثُ لا يزالُ الفراغُ القانونيُّ حولَ هذا الموضوعِ» مسئولية الطبيـب الجنــائية المترتبة على إفشاء السر المهني، طارق صلاح الدين محمد، خبير قانوني ـ وزارة الصحة العامة. http://www.ssfcm.org/arabic/index.php .
وإن كانتْ قد تضمَّنتْ القوانينُ الجزائيَّةُ النصَّ على عقوبةِ إفشاءِ السرِّ، فالمادةُ (301) مِن قانونِ العقوباتِ الجزائريِّ نصَّتْ على أنَّ العقوبةَ هي الحبسُ مِن شهرٍ إلى ستةِ أشهرٍ، والغرامةُ مِن 500 إلى 5000 د.ج ينظر: المسئولية الجزائية للطبيب عن إفشاء السر المهني، دفاتر السياسة والقانون، العدد الرابع، ص (176)..
وعلى هذا جرتْ القوانينُ الجزائيةُ في كثيرٍ مِنَ البلدانِ، فنصَّتْ على العقوبةِ بالسجنِ أو بالغرامةِ أو بهما معًا ينظر: الحماية الجنائية لسر المهنة في الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية ص(155)..
فهذهِ العقوبةُ جمعَتْ بينَ التعزيرِ بالمالِ والحبسِ، وهي مُصنَّفةٌ في العقوباتِ الشرعيةِ ضمنَ العقوباتِ التعزيريةِ التشريع الجنائي الإسلامي (1/90)..
وقد جرَتْ طريقةُ «التشريعِ الجنائيِّ الإسلاميِّ، على أن لا يفرض لكلِّ جريمةٍ مِن جرائمِ التَّعزيرِ عقوبة معيَّنة، كما تفعلُ القوانينُ الوضعيَّةُ؛ لأنَّ تقييدَ القاضي بعقوبةٍ معيَّنةٍ يمنعُ العقوبةَ أن تؤديَ وظيفتَها، ويجعلُ العقوبةَ غيرَ عادلةٍ في كثيرٍ مِنَ الأحوالِ؛ لأنَّ ظروفَ الجرائمِ والمجرمينَ تختلفُ اختلافًا بيِّنًا، وما قد يُصلحُ مجرمًا بعينِهِ قد يُفسدُ مجرمًا آخرَ، وما يردعُ شخصًا عن جريمةٍ قد لا يردعُ غيرَهُ.
ومِن أجلِ هذا وضعتِ الشريعةُ لجرائمِ التعازيرِ عقوباتٍ متعددةً مختلفةً، هي مجموعةٌ كاملةٌ مِنَ العقوباتِ التي تتسلسلُ مِن أتفهِ العقوباتِ إلى أشدِّها، وتركَتْ للقاضي أن يختارَ مِن بينها العقوبةَ التي يراها كفيلةً بتأديبِ الجاني واستصلاحِهِ، وبحمايةِ الجماعةِ مِنَ الإجرامِ، وللقاضي أن يُعاقِبَ بعقوبةٍ واحدةٍ أو بأكثرَ منها، وله أن يُخفِّفَ العقوبةَ، أو يُشدِّدَها إن كانت العقوبةُ ذاتَ حدَّينِ، ولهُ أن يُوقفَ تنفيذَ العقوبةِ، إن رأى في ذلكَ ما يكفي لتأديبِ الجاني وردعِهِ واستصلاحِهِ» التشريع الجنائي الإسلامي (1/685)..
وتفريعًا على التَّأصيلِ المتقدِّمِ فإنهُ إذا لم يكن ثمَّة تنظيمٌ يُحدِّدُ العقوباتِ المترتِّبةَ على إفشاءِ الطبيبِ نتائجَ فحوصاتِ المريضِ؛ فإنَّ على القاضي أن يبذلَ وسعَهُ ويجتهدَ، في تقديرِ العقوبةِ التي تتناسبُ مع سرِّ المريضِ الذي قامَ الطبيبُ بإفشائِهِ، وذلكَ بحسبِ الحالِ والمكانِ والزَّمنِ والشخصِ، فمَن «سوَّى بينَ الناسِ في ذلكَ، وبينَ الأزمنةِ والأمكنةِ والأحوالِ؛ لم يفقَهْ حكمَ الشرعِ» إعلام الموقعين (2/109)..