المطلبُ الثَّالثُ: الآثارُ المترتِّبةُ على كتمانِ نتائجِ الفحوصاتِ الطبيةِ أو إفشائِها:
تبيَّنَ مما تقدمَ أنَّ الأصلَ المتينَ الذي تجب مراعاتُهُ، هو كتمانُ نتائجِ فحوصاتِ المريضِ وعدمُ إفشائِها، مالم يَستدعِ ذلكَ جلبَ مصلحةٍ راجحةٍ أو درءَ مفسدةٍ غالبةٍ.
فإذا خرجَ الطبيبُ عن هذهِ الجادَّةِ، فأفشَى ما يجبُ كتمانُهُ مِن نتائجِ الفحوصاتِ الطِّبِّيَّةِ، أو كَتَمَ ما يجبُ بيانُهُ والإفصاحُ عنهُ منها، فما الَّذي يترتَّبُ على ذلكَ؟ هذا ما سأتناولُهُ في الفرعينِ التَّاليينِ.
الفرعُ الأولُ: الآثارُ المترتِّبةُ على إفشاءِ ما يجبُ كتمانُهُ مِن نتائجِ الفحوصاتِ الطبيَّةِ:
إفشاءُ أسرارِ المريضِ، ومنها نتائجُ فحوصاتِهِ الطبيَّةِ، هو خيانةٌ للأمانةِ، شرعًا ونظامًا، وفيهِ اعتداءٌ على المريضِ وانتهاكٌ لخصوصيتِهِ.
وقد تقدمَ فيما سَلفَ أنَّ ذلكَ موجبٌ للعقوبةِ شرعًا ونظامًا.
وقد تقدمَ ذكرُ أنَّ القوانينَ الجزائيةَ نصَّتْ على عقوبةِ إفشاءِ السرِّ بالسجنِ أو بالغرامةِ أو بهما معًا ينظر: الحماية الجنائية لسر المهنة في الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية ص (155)..
وأنَّ عقوبةَ إفشاءِ السرِّ عقوبةٌ تعزيريةٌ، عمدَتْ أكثرُ القوانينَ إلى تحديدِها، دونَ اعتبارٍ للحالِ والمكانِ والزَّمانِ والأشخاصِ.
وأنَّ الجاريَ على سَنَنِ العدلِ أن يجتهدَ القاضي في تقديرِ العقوبةِ التي تترتَّبُ على إخبارِ الطبيبِ أحدَ الزوجينِ بنتائجِ فحوصاتِ الآخرِ، مُراعيًا الحالَ والمكانَ والزمنَ والشخصَ والآثارَ.
وبناءً عليهِ فإذا كانَ قد ترتَّبَ على إخبارِ أحدِ الزَّوجينِ بنتائجِ فحوصاتِ الآخرِ ضررٌ، سواءٌ أكانَ ضررًا معنويًّا، كالإضرارِ بسُمعتِهِ أو إفسادِ زوجِهِ عليهِ، أم كانَ ضررًا ماديًّا كمطالبةِ الزَّوجِ بالمهرِ، أو مطالبةِ المرأةِ بتعويضٍ دونَ جلبِ مصلحةٍ أو درءِ مفسدةٍ، فإنَّ على القاضي تضمينَ الطبيبِ ما ترتبَ على فعلِهِ مِن ضررٍ معنويٍّ أو ماديٍّ؛ فإن ما ترتَّبَ على غيرِ المأذون ِ فهو مضمونٌ.
الفرعُ الثَّاني: الآثارُ المترتِّبةُ على كتمانِ ما يجبُ بيانُهُ مِن نتائجِ الفحوصاتِ الطبيَّةِ:
إخبارُ الطبيبِ أحدَ الزوجينِ بنتائجِ الفحوصاتِ الطِّبِّيَّةِ للآخرِ، قد يكونُ واجبًا كما لو كانتْ نتائجُ الفحوصاتِ تُشيرُ إلى وجودِ مرضٍ يُثبتُ حقًّا كحقِّ الفرقةِ، ومِن أمثلةِ ذلكَ الأمراضُ التي لا يُمكنُ للزَّوجِ المقامُ معهُ إلا بضررٍ؛ سواءٌ أكانَ مرضًا خطيرًا مُعدِيًا أم غيرَ معدٍ. فإذا كتمَ الطبيبُ نتائجَ الفحوصاتِ في هذهِ الحالِ، ولم يُخبِرْ بها، فإنهُ يكونُ آثمًا؛ لعدمِ قيامِهِ بما يجبُ مِنَ النصيحةِ، فالدينُ النصيحةُ، كما قالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فلما قالوا لهُ: لِمَن؟ قالَ: «للهِ ولرسولِهِ ولأئمَّةِ المسلمينَ وعامَّتِهِم» البخاري، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم»، ومسلم، باب بيان أن الدين النصيحة، رقم (55)..
ولأنَّ الإخبارَ بنتائجِ الفحوصاتِ في حالةِ ما إذا كانَ المرضُ مُعديًا، هو مما لا يتمُّ الواجبُ إلا بهِ، فقد قالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إذا سَمِعتُمُ بالطَّاعونِ بأرضٍ فلا تَدخُلوها، وإذا وقعَ بأرضٍ وأنتم بها، فلا تَخرُجوا منها» البخاري، كتاب الطب، باب ما يذكر في الطاعون، رقم (5728). ، فلا يَتحقَّقُ توقِّي الوباءِ بتركِ الدخولِ إلى الأرضِ الموبوءةِ، وتركِ الخروجِ منها، إلا بالعلمِ بظهورِ الوباءِ. لذلكَ كانَ الإخبارُ واجبًا في مثلِ هذهِ الحالِ. لاسيَّما وأنَّ بينَ الزوجين منْ الاختلاطِ والامتزاجِ والتقاربِ ما يكونُ معه احتماليَّةُ انتقالِ الأمراضِ المعديةِ أكبرَ مِن غيرِهِ بكثيرٍ.
وقد نصَّتِ القوانينُ واللوائحُ المنظِّمةُ لممارسةِ مهنةِ الطبِّ، على أنَّ مِن واجباتِ الطبيبِ الإخبارَ عنِ الأمراضِ المعديةِ ينظر: نظام مزاولة المهن الصحية، الذي أقره مجلس الوزراء في جلسته المنعقدة بتاريخ 3 من ذي القعدة 1426هـ.
http://www.rkh.med.sa/ar/healthawareness/ethics.htm ، فيكونُ كتمانُ نتائجِ فحوصاتِ أحدِ الزوجينِ عنِ الآخرِ، في حالِ إشارتِها إلى وجودِ مرضٍ خطيرٍ مُعْدٍ؛ تضييعًا للأمانةِ، وإخلالًا بما يجبُ مِنَ الوفاءِ بالعهدِ، وبما التزمَ بهِ مِن تنظيماتِ ممارسةِ مهنةِ الطبِّ.
بل قد رتَّبتْ الأنظمةُ عقوباتٍ على مَن يكتمُ سرًّا في حالٍ يجبُ فيها عليهِ بيانُهُ. ومِن ذلكَ كتمانُ الأمراضِ المعديةِ، وقد حدَّدتِ الأنظمةُ وقتًا للتبليغِ لا يجوزُ تجاوزُهُ، وأنَّهُ في حالِ تجاوُزِ ذلكَ بالكتمانِ وعدمِ الإخبارِ بالمرضِ، فإنهُ يُعاقَبُ الطبيبُ الكاتِمُ بالسجنِ أو بالغرامةِ أو بهما. ففي القانونِ الفرنسيِّ الذي تَستمدُّ منهُ أكثرُ القوانينِ العربيةِ موادَّها يترتَّبُ على عدمِ الإبلاغِ عنِ الأمراضِ المعديةِ عقوبةُ الحبسِ مِن سنةِ إلى خمسِ سنواتٍ ينظر: الحماية الجنائية لسر المهنة في الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية ص (154-155)..
وأمَّا بخصوصِ تضمينِ الطَّبيبِ الضررَ المترتِّبَ على كتمانِ ما يجبُ بيانُهُ مِن أسرارِ المرضَى الطبيَّةِ؛ فلم أقفْ على شيءٍ واضحٍ في ذلكَ، فيما عدا العقوباتِ. أما المدوناتُ الفقهيةُ، فلم تذكرْ هذهِ الصورةَ بعينِها، لكنها مندرجةٌ في عمومِ المعنى الذي نصَّ عليهِ جماعةٌ مِنَ الفقهاءِ، مِن ضمانِ ما يترتَّبُ على كتمانِ الشهادةِ التي يجبُ بيانُها، قالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ: «فإنَّ كتمانَ الحقِّ مُشبَّهٌ بالكذبِ، وينبغي أن يكونَ سببًا للضَّمانِ، كما أنَّ الكذبَ سببٌ للضَّمانِ، فإنَّ الواجباتِ عندنا في الضَّمانِ كفعلِ المحرَّماتِ، حتى قُلْنا: لو قدر على إنجاءِ شخصٍ بإطعامٍ أو سقيٍ فلم يفعلْ فماتَ ضمنَهُ، فعلى هذا: فلو كتمَ شهادةً كتمانًا أبطلَ بها حقَّ مسلمٍ ضمنَهُ، مثلَ أن يكونَ عليهِ حقٌّ بيِّنةٌ بالأداءِ، وقد أدَّاهُ حقَّهُ، ولهُ بيِّنةٌ بالأداءِ، فكتمَ الشهادةَ، حتى يغرمَ ذلكَ الحقَّ» الفتاوى الكبرى (5/531)..
وقالَ ابنُ القيِّمِ أيضًا: «وقياسُ المذهبِ أنَّ الشاهدَ إذا كتمَ شَهادتَهُ بالحقِّ ضمنَهُ؛ لأنَّهُ أمكنَهُ تخليصُ حقِّ صاحبِهِ فلم يفعلْ، فلزمَهُ الضمانُ، كما لو أمكنَهُ تخليصُهُ مِن هلكةٍ، فلم يفعلْ» الطرق الحكمية في السياسة الشرعية (ص217)..
وقال البهوتيُّ: «لو كَتَمَا شهادةً كتمانًا أبطلَا به حقَّ مسلمٍ ضَمِنَاهُ» كشاف القناع عن متن الإقناع (20/490)..
وبناءً على هذا يُمكنُ القولُ: إنّهُ إذا ترتَّبَ على كتمانِ نتائجِ فحوصاتِ أحدِ الزوجينِ عنِ الآخرِ ضررٌ مادِّيٌّ أو معنويٌّ؛ فإنَّ للمتضررِ المطالبةَ بتضمينِهِ.