المطلبُ الثاني: أسبابُ نشأةِ الأراضي البيضاءِ:
الأراضي البيضاءُ في الأصلِ: أراضٌ غيرُ مُنتفَعٍ بها، وليستْ مملوكةً ولا مختصةً. وينشأُ الملكُ في هذهِ الأراضي عنْ أسبابٍ عديدةٍ؛ منْ شراءٍ، وميراثٍ، وتبرُّعٍ منْ هبةٍ وهديةٍ ووصيةٍ كسائرِ الأملاكِ، لكن ابتداء نشوءِ الملكِ في هذهِ الأراضي الكبيرةِ يعودُ إلى سببينِ رئيسينِ، هما كما يلي:
السببُ الأولُ: المِنَحُ الساميةُ (الإقطاعُ):
المنحُ هي إحدى الطرقِ الرئيسةِ لحيازةِ الأراضي، وهي عبارةٌ عنْ «هبةٍ وعطاءٍ منَ الدولةِ للمواطنِ، بدونِ مقابلٍ، للذينَ لا يملكونَ سكنًا مستقلًا أوْ أرضًا يمكنُ أنْ يقامَ عليها سكنٌ مستقلٌ، إضافةً الى كونهمْ يقيمونَ بالبلدِ الذي يطلبونَ مِنَحًا بها» ينظر: المصطلحات البلدية، موقع وزارة الشؤون البلدية والقروية.
http://www.momra.gov.sa/generalserv/terms.aspx . وهذا ما يعرفُ عندَ الفقهاءِ بإقطاعِ التمليكِ، وهوَ تمليكُ الإمامِ أرضًا منْ غيرِ عوضٍ ينظر: الموسوعة الفقهية الكويتية (6/83).. وهذا هوَ المعمولُ بهِ قضائيًا، وهوَ الذي جرى عليهِ عملُ الحكومةِ ينظر: التصنيف الموضوعي لتعاميم وزارة العدل (1/363)..
ولتحديدِ المقصودِ بالمنحِ الساميةِ، نحتاجُ إلى ذكرِ أبرزِ أنواعِ المنحِ المعاصرةِ، وهي نوعانِ:
النوعُ الأولُ: المنحُ البلديةُ :«وهي المنحُ التي تختصُّ بها الأماناتُ والبلدياتُ، وذلكَ للمواطنينَ منْ ذوي الدخلِ المحدودِ. ويكونُ التقديمُ لها عنْ طريقِ الأمانةِ عندَ فتحِ بابِ التقديمِ لهذا النوعِ منَ المنحِ» ينظر: إدارة المنح، موقع أمانة محافظة جدة.
http://www.jeddah.gov.sa/Amanah/Departments/Aradi/Grants/index.php, وترفعُ الطلباتُ إلى الجهاتِ ذاتِ الاختصاصِ، ثمَّ يصدرُ «توجيهٌ للأماناتِ والبلدياتِ بمنحِ بعضِ المواطنينَ قطعَ أراضٍ ذاتَ مساحاتٍ محدودةٍ في الأمرِ المرسلِ إليهمْ» ينظر: إدارة المنح، موقع أمانة محافظة جدة.
http://www.jeddah.gov.sa/Amanah/Departments/Aradi/Grants/index.php .
وهذا النوعُ منَ المنحِ لا يندرجُ ضمنَ ما يُعرفُ بالأراضي البيضاءِ؛ لأنها ذاتُ مساحاتٍ صغيرةٍ، فمساحةُ الأرضِ في هذهِ المنحِ ستمائةٌ وخمسةٌ وعشرونَ مترًا مربعًا تقريبًا ينظر: شروط منح الأراضي، موقع وزارة الشؤون البلدية والقروية.
http://www.momra.gov.sa/MediaCenter/Circulars/CircularsDisplay.aspx?CircularsID=262.
النوعُ الثاني: المنحُ الساميةُ: «يصدرُ هذا النوعُ منَ المنحِ منَ المقامِ السامي، وهوَ عبارةٌ عنْ توجيهٍ للأماناتِ والبلدياتِ بمنحِ المواطنينَ قِطَع أراضٍ بمساحاتٍ مختلفةٍ» ينظر: إدارة المنح، موقع أمانة محافظة جدة.
http://www.jeddah.gov.sa/Amanah/Departments/Aradi/Grants/index.php . ويتمُّ إصدارُهُ منَ المقامِ السامي عندَ تقدمِ المواطنِ بطلبِ منحةٍ ساميةٍ في الديوانِ الملكيِّ. وثبوتُ الملكِ بهذا النوعِ منَ المنحِ صدرتْ بهِ أوامرُ ساميةٌ منها رقمُ 76 بتاريخِ 7/3/1425هـ ينظر: إدارة المنح، موقع أمانة محافظة جدة.
http://www.jeddah.gov.sa/Amanah/Departments/Aradi/Grants/index.php .
وهذا النوعُ منَ المنحِ هوَ مصدرُ كثيرٍ منَ الأراضي البيضاءِ محلّ البحثِ، ولكثرةِ ما ترتبَ على هذا النوعِ منَ المنحِ منْ إشكالاتٍ وتوسعٍ وجَّهَ المقامُ السامي في مراتٍ عديدةِ الأوامرَ للحدِّ منَ التوسعِ في الإقطاعِ الذي يُفضي إلى تعثرِ التطويرِ العقاريِّ.
فكانَ منْ ذلكَ قصرُ حقِّ الإقطاعِ على المَقامِ السامي دونَ غيرِهِ، وقد جاءَ ذلكَ في عدَّةِ أوامرَ؛ أولها : الأمرُ الملكيُّ رقمُ (24726) في تاريخِ 6/12/1379هـ حيثُ جاءَ فيهِ: «منعُ الإماراتِ منْ إقطاعِ أراضٍ للناسِ إلاَّ بأمرٍ منا. وأكدْنا ذلكَ بأمرِنا برقمِ (640) في 11/1/1389هـ» ينظر: التصنيف الموضوعي لتعاميم وزارة العدل (1/363).. ومنْ ذلكَ إيقافُ منحِ الأراضي ذاتِ المساحةِ الكبيرةِ، فكانَ أولُ ما وقفتُ عليهِ الأمرَ الملكيَّ رقمَ (28364) بتاريخِ 21/11/1397هـ الذي نصَّ على عدمِ جوازِ إقطاعِ مساحاتٍ كبيرةٍ ومنعِ بيعِ مثلِ ذلكَ ينظر: التصنيف الموضوعي لتعاميم وزارة العدل (3/600). وقدْ تمَّ تأكيدُ هذا الأمرِ في السنةِ التاليةِ، وذلكَ بموجبِ خطابٍ موجَّهٍ لوزيرِ الشؤونِ البلديةِ والقرويةِ برقمِ (901) بتاريخِ 11/1/1398هـ جاءَ فيهِ: «بلغنا أنَّ بعضَ البلدياتِ تحيلُ إلى كاتبِ العدلِ معاملاتٍ بإعطاءِ أشخاصٍ ملايينَ الأمتارِ غيرِ محددةٍ بمساحةٍ معينةٍ، وذلكَ بناءً على أوامرَ ساميةٍ. فنرغبُ إليكمْ إبلاغَ جميعِ البلدياتِ بعدمِ إحالةِ أيِّ معاملةٍ منْ هذا القبيلِ غيرِ محددةٍ بمساحةٍ معينةٍ إلى كاتبِ العدلِ. وقدْ أعطيت نسخة منْ هذا لمعالي وزيرِ العدلِ لإبلاغِ كتابِ العدلِ بالرفعِ عنْ أيِّ معاملةٍ منْ هذا النوعِ قبلَ اتخاذِ أيِّ إجراءٍ عليها، نرغبُ الاطلاعَ والتمشي بموجبهِ» ينظر: التصنيف الموضوعي لتعاميم وزارة العدل (3/600).. ثمَّ صدرَ أمرٌ منْ المقامِ السامي بإيقافِ إقطاعِ الأراضي مطلقًا ، جاءَ ذلكَ في الأمرِ برقمِ (2/4997) بتاريخ 17/7/1400هـ جاءَ فيهِ: «نظرًا لأنَّهُ حصلَ توسعٌ في الإقطاعِ بالنسبةِ للأراضي ، ورغبةً منا في تحديدِ هذهِ الأمورِ لتوفيرِ أكبرِ قدرٍ للمحتاجينَ للسكنِ فقدْ أمرنا بإيقافِ الإقطاعِ والمنحِ اعتبارًا منْ تأريخِ أمرنا هذا...» ينظر: التصنيف الموضوعي لتعاميم وزارة العدل (3/601). والإقطاعُ بأنواعِهِ وسيلةٌ منْ وسائلِ عمارةِ الأراضي والبلدانِ. ولأجلِ ذلكَ ذكرَ الفقهاءُ شروطًا للإقطاعِ تحقِّقُ ذلكَ المقصدَ.
السببُ الثاني: الإحياءُ:
الإحياءُ: هوَ منْ أبرزِ الطرقِ الرئيسةِ لحيازةِ الأراضي ذاتِ المساحاتِ الواسعةِ الكبيرةِ أوِ الصغيرةِ؛ وذلكَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ» أخرجه أبو داود (3073)..
واختلفَ الفقهاءُ فيما إذا كانَ إحياءُ مواتِ الأرضِ البيضاءِ سببًا مستقِلًّا لحيازتها، أمْ أنَّهُ يلزمُ إذنَ الإمامِ، باعتبارِ أنَّ الأرضَ ملكٌ عامٌّ لجميعِ المسلمينَ؟ والمذهبُ الوسطُ في ذلكَ، هوَ ما ذهبَ إليهِ الإمامُ مالكٌ، حيثُ يقولُ: «أمَّا ما كانَ قريبًا منَ العمرانِ، وإنْ لمْ يكنْ مملوكًا؛ فلا يحازُ ولا يعمَّرُ إلا بإذنِ الإمامِ. وأمَّا ما كانَ في فيافي الأرضِ؛ فلكَ أنْ تحييهِ بغيرِ إذنِ الإمامِ» التمهيد (22/285).. وقدْ جرى العملُ في المملكةِ، على إحياءِ المواتِ عمومًا بدونِ اعتبارِ إذنِ الإمامِ، وذلكَ إلى أنْ صدرَ الأمرُ الساميُّ رقمُ 21679 بتاريخِ 9/ 11/ 1387هـ، الذي نصَّ على أنَّهُ: «كلُّ منْ يدّعي وضعَ اليدِ، لا يُلتفتُ لدعواهُ منَ الآنَ فصاعدًا»، وبناءً عليهِ «قررتِ الهيئةُ القضائيةُ العليا أنَّ منْ كانَ إحياؤهُ قبلَ صدورِ الأمرِ الساميِّ المشارِ إليهِ، ولمْ يتعارضْ بناؤهُ معَ التنظيمِ، فإنَّ الأرضَ التي أحياها تكونُ ملكَهُ، وليسَ للبلديةِ عليهِ سبيلٌ» ينظر: التصنيف الموضوعي لتعاميم وزارة العدل (1/195).. وقدْ لوحظَ أنَّ كثيرًا منْ تلكَ الأراضي اقتصرَ محيوها على أدنى صورِ الإحياءِ التي يثبتُ بها الملكُ منْ غرسٍ ونحوِهِ، بلْ إنَّ بعضَهمْ قدِ اكتفى بمجرّدِ التحجيرِ- أيْ: ضربُ الحدودِ حولَ ما يريدُ إحياءَهُ منَ المواتِ- غيرُ مقيّدٍ نفسهُ بمدةٍ زمنيةٍ محددةٍ للإحياءِ، كما هوَ مذهبُ الإمامِ أبي حنيفةَ الذي يقيِّدُ هذهِ المدةَ بثلاثِ سنواتٍ ينظر: بدائع الصنائع (14/55).، ويروي أبو يوسفَ في ذلكَ خبرًا عنْ عمرَ بنِ الخطابِ رضي الله عنه، أنَّهُ قالَ: "مَنْ أَحْيَا أَرضًا ميتةً فهي لهُ، وليسَ لِمُحْتَجرٍ حقٌّ بعدَ ثلاثِ سنينَ" الخراج لأبي يوسف (1/77).، فإنْ لمْ تكنْ هناكَ عمارةٌ أوِ استصلاحٌ لهذا العقارِ طيلةَ هذهِ المدةِ؛ يُنتزعُ منهُ ليُمنَحَ إلى غيرِهِ. وقدْ صدرتْ بضعةُ تعاميمَ للحدِّ منَ التأثيرِ السّلبيِّ لهذهِ الظاهرةِ، فلذلكَ قررَ مجلسُ الوزراءِ بتاريخِ 4/9/1395هـ ما يلي: «ويُقصدُ بالإحياءِ إقامةُ بناءٍ، ... ولا يعتبرُ منْ قبيلِ الإحياءِ تحديدُ الأرضِ بأسلاكٍ شائكةٍ، أوْ تحجيرها أوْ إقامةِ بيتٍ منْ أعوادٍ غيرِ الثابتةِ كالخيامِ والخشبِ والزنكِ» ينظر: التصنيف الموضوعي لتعاميم وزارة العدل (1/292)..