المسألة الأولى: الحكم فيما إذا كانتْ هذهِ المبالغُ الماليةُ ضرائبَ:
تقدَّمَ أنَّ منْ أبرزِ تكييفِ هذهِ المبالغِ التي يُرادُ فرضُها على مُلَّاكِ الأراضي، أنها ضريبةٌ. وعليهِ فإنَّ الوصولَ إلى حكمِ هذا المقترحِ سينتجُ منْ خلالِ معرفةِ كلامِ العلماءِ في حكمِ فرضِ الضريبةِ. وهي ما يسميها الفقهاءُ المتقدمونَ الوظائفَ الماليةَ أوِ التوظيفَ، ويعرِّفونها بأنَّها: قدرٌ منَ المالِ يفرضُهُ وليُّ الأمرِ على الموسِرينَ؛ لسدِّ حاجةٍ عامَّةٍ ينظر: "المبسوط" (3/8،10/79)، "فتح القدير" (6/45)، الخرشي "شرح مختصر خليل" (7/94)، حاشية الدسوقي (4/89)، تحفة المحتاج (6/86)، نهاية المحتاج (3/71)، المغني (13/202)، الإنصاف (4/223)..
وقدْ حكى غيرُ واحدٍ منْ أهلِ العلمِ الإجماعَ على تحريمِ فرضِ شيءٍ على أموالِ الناسِ بغيرِ حقٍ؛ فنقلَ ابنُ حزمٍ اتفاقَ أهلِ العلمِ على تحريمِ أنْ يفرضَ ولاةُ أمورِ المسلمينَ وظائفَ ماليةٍ على السلعِ والتجارِ والمارةِ منَ المسلمينَ، فقالَ في مراتبِ الإجماعِ: «واتفقوا أنَّ المراصدَ الموضوعةَ للمغارمِ على الطرقِ وعندَ أبوابِ المدنِ، وما يؤخذُ في الأسواقِ منَ المكوسِ على السلعِ المجلوبةِ منَ المارَّةِ والتجارِ ظلمٌ عظيمٌ وحرامٌ وفسقٌ» ص (141)..
وكذلكَ حكى الإجماعَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ، فذكرَ أنَّ هذهِ الوظائفَ السلطانيةَ «ليسَ لها أصلٌ في كتابِ اللهِ ولا في سُنَّةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وسنةِ خلفائِهِ الراشدينَ، ولا ذكرَها أهلُ العلمِ المصنِّفونَ للشريعةِ، ولا لها أصلٌ في كتبِ الفقهِ منَ الحديثِ والرأيِّ، وهي حرامٌ عندَ المسلمينَ، حتى عندَ منْ يأخذُها، ويعرفُ حكمَ اللهِ، وقدْ ذكرَ ابنُ حزمٍ إجماعَ المسلمينَ على ذلكَ» قاعدة في الأموال السلطانية ص (37)..
هذا هوَ الأصلُ الذي دلَّتْ عليهِ النصوصُ، ومنْ أجازَ الضرائبَ فإنما أجازَها للضرورةِ ودفعِ الضررِ، كما أفادهُ كلامُ الجوينيِّ، حيثُ قالَ: «فليكنِ الكلامُ في الأموالِ، وقدْ صَفِرَ بيتُ المالِ واقعةً لا يُعهَدُ فيها للماضينَ مذهبًا، ولا يحصُلُ لهمْ مطلبًا، ولنجرِ فيهِ على ما جرى عليهِ الأولونَ إذْ دُفِعوا إلى وقائعَ لمْ يكونوا يألفوها، ولمْ يُنقَلْ لهمْ مذاهبُ، ولمْ يعرفوها، وإذا استدَّ الناظرُ استوى الأولُ والآخرُ»"غياث الأمم" ص (267).. وقالَ الغزاليُّ: «أما إذا خلتِ الأيدي منَ الأموالِ، ولمْ يكنْ منْ مالِ المصالحِ ما يفي بخراجاتِ العسكرِ، ولوْ تفرقَ العسكرُ واشتغلوا بالكسبِ لخيفَ دخولُ الكفارِ بلادَ الإسلامِ أوْ خيفَ ثورانُ الفتنةِ منْ أهلِ الغرامةِ في بلادِ الإسلامِ، فيجوزُ للإمامِ أنْ يوظِّفَ على الأغنياءِ مقدارَ كفايةِ الجندِ...» "المستصفى" (1/303-304). وينظر: "شفاء الغليل" ص (234)..
ولما كانَ الإجماعُ منعقدًا على تحريمِ الضريبةِ إلاَّ في حالِ الضرورةِ، فإنَّ الضرورةَ التي يستباحُ بها المُحرَّمُ لا بدَّ أنْ يتحققَ فيها الشرطانِ التاليانِ ينظر: "الأشباه والنظائر" ص (173-175)، "المنثور في القواعد" (2/317-318)، "التحبير شرح التحرير" (8/3847)، "مجموع الفتاوى" (24/268-269)، "نظرية الضرورة الشرعية" ص (289-335).:
الشرطُ الأولُ: ألَّا يمكنُ دفعُ الضرورةِ إلَّا منْ هذا الطريقِ المحرمِ.
الشرطُ الثاني: أنْ يُتيقنَ اندفاعُ الضرورةِ بهذا المحرمِ.
وبالنظرِ إلى مسألةِ فرضِ الضرائبِ في معالجةِ مشكلةِ الأراضي البيضاءِ يتبينُ أنَّ هذينِ الشرطينِ غيرُ متحقِّقينِ، وذلكَ لما يأتي:
أولًا: أنَّ هناكَ عدَّةَ وسائلَ وطرقٍ مختلفةٍ اقترحَها المهتمونَ يمكنُ منْ خلالها الإسهامُ في معالجةِ مشكلةِ الأراضي البيضاءِ، وقدْ ألمحَ إلى فواتِ هذا الشرطِ قرارُ مجلسِ هيئةِ كبارِ العلماءِ في رفضهمْ فرضَ الضرائبَ على الأراضي البيضاءِ، كما جاءَ في تصريحِ وزيرِ الشؤونِ البلديةِ والقُرويَّةِ، حيثُ جاءَ في تسبيبِ التحريمِ «وفرضُ رسومٍ على تلكَ الأراضي ليسَ الآليةَ الوحيدةَ الكفيلةَ بمعالجةِ -أوِ التقليلِ منْ تأثيرِ- تلكَ العواملِ» ينظر: صحيفة الجزيرة، الأمير الدكتور منصور بن متعب وقيادات الشؤون البلدية والقروية تحت قبة الجزيرة.
http://www.al-jazirah.com/2012/20120116/qb1.htm. وبهذا يفوتُ شرطُ ألَّا يمكنُ دفعُ الضرورةِ إلاَّ منْ هذا الطريقِ المحرَّمِ.
ثانيًا: أنَّ معالجةَ مشكلةِ الأراضي البيضاءِ عنْ طريقِ تفعيلِ الضرائبِ لا يتيقنُ اندفاعُ الضرورةِ بها؛ وذلكَ لأنَّ هناكَ العديدَ منَ الصعوباتِ الإداريةِ والبلديةِ والهندسيةِ التي تحولُ دونَ تحقيقِ المقصودِ.
وقدْ فصَّلَ عددٌ منَ المختصينَ في بيانِ عدمِ جدوى فرضِ الضرائبِ لحلِّ مشكلةِ الأراضي البيضاءِ. وقدْ أجملَ بعضُ الباحثينَ أسبابَ ذلكَ فيما يلي ينظر: المخارج الفقهية لأزمة الإسكان ص (18).: رجحانُ نسبةِ الربحِ السنويِّ الذي يمكنُ لمالكِ الأراضي تحقيقَهُ منَ المضاربةِ بالأراضي على نسبةِ الرسمِ، وتحميلُ المشتري عبءَ الرسمِ باحتسابِهِ منْ ثمنِ البيعِ، وتهربُ بعضِ النافذينَ منَ الرسومِ، وغيابُ المعلوماتيةِ العقاريةِ التي تميزُ الأراضي المطورةَ منْ غيرِها، واحتمالاتُ ضعفِ عدالةِ التطبيقِ منْ خلالِ الاستثناءاتِ والإعفاءاتِ.
وقدْ أثارَ عددٌ منَ المختصينَ مسألةَ جدوى فرضِ الضرائبِ على الأراضي البيضاءِ منْ حيثُ الأصلُ، وتوصلوا إلى أنْ فرضَ الضرائبِ على هذهِ الأراضي، سيترتبُ عليهِ مفاسدُ عديدةٌ توثِّرُ سلبًا على السوقِ العقاريِّينظر: جريدة الرياض، هل فرض الرسوم على الأراضي البيضاء هو الحل؟
http://www.alriyadh.com/2012/01/15/article701104.html
صحيفة الاقتصادية، مخاوف من تحميل رسوم الأراضي البيضاء للمستهلك النهائي
http://www.aleqt.com/2012/07/18/article_675385.html.
فتبينَ مما تقدمَ أنَّهُ لا يجوزُ استعمالُ فرضِ الضرائبِ في معالجةِ مشكلةِ الأراضي البيضاءِ؛ لعدمِ انطباقِ الشروطِ التي يُستباحُ بها المحرَّمُ لدفعِ الضرورةِ.
وقدْ ذهبَ إلى تحريمِ فرضِ رسومٍ على الأراضي البيضاءِ قرارُ مجلسِ هيئةِ كبارِ العلماءِ في المملكةِ العربيةِ السعوديةِ؛ استنادًا إلى أنَّ الأصلَ حرمةُ أموالِ المسلمينَ، كما توافرتِ الأدلةُ على ذلكَ، وعدمُ وجودِ ضرورةٍ تخرجُ هذهِ الحالَ منَ العمومِ ينظر: صحيفة الجزيرة، الأمير الدكتور منصور بن متعب وقيادات الشؤون البلدية والقروية تحت قبة الجزيرة.
http://www.al-jazirah.com/2012/20120116/qb1.htm .