الأمرُ الثاني: نيةُ التجارةِ والأراضي البيضاءِ:
اتَّفقَ الفقهاءُ على أنَّهُ لا تجبُ الزكاةُ في الأراضي البيضاءِ، إلَّا إذا صارتْ عروضَ تجارةٍ، إلاَّ أنهمُ اشترطوا فيما تجبُ فيهِ الزكاةُ لكونِهِ عروضَ تجارةٍ: أنْ ينوي مالكُ الأراضي البيضاءِ بها التجارةَ ينظر: "بداية المجتهد" (1/245)، "المحلى" (4/14)..
وقدْ اختلفوا في وقتِ النيةِ المعتبرِ على قولينِ:
القولُ الأولُ: أنَّهُ يُشترطُ أنْ تكونَ نيةُ التجارةِ حاضرةً عندَ تملُّكِ هذهِ الأراضي البيضاءِ، وإلى هذا ذهبَ أكثرُ أهلِ العلمِ ومنهمُ الأئمةُ الأربعةُ ينظر:" المبسوط" (2/298)، "المنتقى" (2/122)، "الكافي" (1/300)، "المهذب والمجموع" (6/48)، "المغني" (4/258)..
القولُ الثاني: أنَّهُ لا يشترطُ أنْ تكونَ نيةُ التجارةِ حاضرةً عندَ تملكِ هذهِ الأراضي البيضاءِ، فتجبُ الزكاةُ فيما لا تجبُ الزكاةُ فيهِ بعينهِ منَ الأموالِ، بمجردِ أنْ ينوي بها التجارةَ والتربُّحَ والكسبَ متى حصلتِ النيةُ، ولوْ لمْ تكنِ النيةُ قائمةً عندَ التملكِ، وإلى هذا ذهبَ بعضُ الشافعيةِ ينظر: "المجموع" (6/48)، "روضة الطالبين" (2/266). وروايةٌ عنْ أحمدَ ينظر: "الإنصاف" (3/153).، أخذَ بها بعضُ الحنابلةِ ينظر:" الشرح الكبير مع المقنع" (7/59).، وبهذا قالَ شيخُنا ابنُ عثيمينَ - رحمَهُ اللهُ - ينظر: "الشرح الممتع على زاد المستقنع" (6/144)..
وبناءً على ما تقدَّمَ فإنَّهُ يشترطُ لجبايةِ الزكاةِ على الأراضي البيضاءِ، في قولِ أكثرِ أهلِ العلمِ: أنْ تكونَ نيةُ التجارةِ حاصلةً عندَ تملكِها.
أمَّا على القولِ الآخرِ فلا يشترطُ ذلكَ، فتكونُ الزكاةُ واجبةً في الأراضي البيضاءِ بمجردِ نيةِ التجارةِ بها متى حصلتِ النيةُ، ولوْ لمْ تكنِ النيَّةُ قائمةً عندَ التملكِ.
وهذا الشرطُ يعدُّ عائقًا كبيرًا في تفعيلِ جبايةِ الزكاةِ كأداٍة لتحفيزِ ملاكِ الأراضي البيضاءِ على تطويرِها، حتى حالَ توفُّرِ الشروطِ، وذلكَ أنَّ النيةَ أمرٌ خفيٌّ لا يمكنُ الوقوفُ عليهِ ولا يُعلمُ إلَّا منْ جهةِ المالكِ.
وقدْ اختلفَ الفقهاءُ في جعلِ القرينةِ كافيةً في الدلالةِ على نيةِ التجارةِ في زكاةِ العروضِ؛ فنصَّ جماعةٌ منَ الفقهاءِ على عدمِ اعتبارِ القرينةِ، بلْ لا بدَّ منَ النيةِ الجازمةِ، ويصدقُ ربُّ المالِ في أنَّهُ إنما نوى إمساكَ المالِ للقُنْيَةِ، وإنْ دلتِ القرينةُ على خلافِ ما ادَّعاه ينظر:" تحفة المحتاج" (3/295)،"نهاية المحتاج" (2/102).. ذلكَ أنَّ الأصلَ عدمُ وجوبِ الزكاةِ إلاَّ فيما جاءَ بهِ النصُّ منَ الأموالِ، وما عداهُ فهوَ باقٍ على الأصلِ حتى يقومَ الدليلُ على وجوبِ الزكاةِ فيهِ. وفيما تجبُ فيهِ الزكاةُ لكونهِ عروضَ تجارةٍ لا بدَّ منْ توافرِ شروطِ الوجوبِ.
وذهبَ جماعةٌ منَ الفقهاءِ منَ الحنفيةِ والمالكيةِ والحنابلةِ إلى اعتبارِ القرائنِ في تحديدِ نيةِ التجارةِ في العروضِ، قالَ الكاسانيُّ: «نيةُ التجارةِ قدْ تكونُ صريحًا وقدْ تكونُ دلالةً»"بدائع الصنائع" (3/408).. وقدْ اعتبرَ المالكيةُ القرائنَ في مسألةِ إبدالِ النصابِ قبلَ الحولِ فرارًا منَ الزكاةِ، فرأوا أنَّ الزكاةَ لا تسقطُ بهذا الإبدالِ للقرينةِ"حاشية السوقي" (1/437).. وقالَ ابنُ مفلحٍ: «فيما ملكهُ بفسخٍ، هلْ يصيرُ للتجارةِ بنيةُ التجارةِ؟ فإنَّ الفسخَ في عرضِ تجارةٍ يصيرُ للتجارةِ. وقالَ: إنَّ المضاربَ إذا اشترى طعامًا لعبيدِ التجارةِ ولا نيةً صارَ للتجارةِ؛ للقرينةِ، لا لربِّ المالِ، كذا قالَ. قالَ: وإنْ ملكَ بفعلهِ بلا نيةٍ بعرضِ تجارةٍ عرضًا صارَ للتجارةِ»" الفروع" (4/ 169)..