المسألةُ الأولى: الأصلُ في التسعيرِ:
الأصلُ ألَّا يحملَ الناسُ على إخراجِ ما بأيديهمْ إلَّا بالثمنِ الذي يرتضونَهُ، وألَّا يُسعرَ عليهمْ في شيءٍ منْ أموالهمْ، هذا ما دلتْ عليهِ الأدلةُ، وجرى عليهِ العلماءُ والأئمةُ ينظر: " فتح القدير" (10/59)، التاج والإكليل (6/246)، مغني المحتاج (2/392)، : الفروع (4/51)..
والأصلُ في ذلكَ ما جاءَ عنْ أنسٍ بنِ مالكٍ رضي الله عنه قالَ: غلا السعرُ على عهدِ رسولِ اللِه صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، سعِّرْ لنا. فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ هُوَ المُسَعِّرُ القَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّزِاقُ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى رَبِّي، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَطْلُبُنِي بِمَظْلَمَةٍ فِي دَمٍ وَلَا مَالٍ» أخرجه أبو داود (3451)، والترمذي (1314)، وابن ماجه (2191).وقال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح». وقال ابن عبد البر في "الاستذكار" (20/78): «روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يمنع من التسعير من وجوه صحيحة لا بأس بها». وقال عنه الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" (3/14): «وإسناده على شرط مسلم، وقد صححه ابن حبان».. فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم أبى أنْ يسعرَ، وجعلَهُ مظلمةً يرجو ألاَّ يلقى اللهَ بها. فالناسُ مسلطونَ على أموالهمْ، والتسعيرُ حجرٌ عليهمْ، وإجبارٌ لهمْ على ما لا يرضونَ، وهذا ظلمٌ لهمْ ينظر: "المنتقى شرح الموطأ"(5/19)، "الحاوي الكبير" (5/409)، "الطرق الحكمية" ص (216)..كما أنَّ الواجبَ رعايةُ مصالحِ الناسِ كافةً على حدٍّ سواءٍ: المشتري والبائعُ، فمراعاةُ أحدهما على حسابِ الآخرِ ظلمٌ. ومنْ جهةٍ أخرى فإنَّ التسعيرَ قدْ يفضي إلى اختلالِ قانونِ العرضِ والطلبِ، فيخلُّ بالأنشطةِ الاقتصاديةِ، ويأتي بعكسِ المأمولِ، فترتفعُ الأسعارُ؛ وذلكَ أنَّ كثرةَ القيودِ على التجارةِ والاستثمارِ يؤدي غالبًا إلى تعطيلِ الاستثمارِ في العقارِ، وهذا يؤدي إلى قلةِ العرضِ فيرتفعُ السعرُ.
وكذلكَ قدْ يحملُ التسعيرُ أصحابَ السلعِ والخدماتِ إلى أنْ يمتنعوا عنْ بيعها، بلْ يكتمونها، فيطلبُها المستهلكونَ فلا يجدونها إلَّا قليلًا, فيرفعون في ثمنِها؛ ليصلوا إليها, فتغلو بذلكَ الأسعارُ، ويحصلُ الإضرارُ بالجانبينِ: جانبِ المُلَّاكِ في منعهمْ منْ بيعِ أملاكِهمْ، وجانبِ المشترينَ في منعِهمْ منَ الوصولِ إلى غرضِهمْ"المغني" (6/312)..