المسألةُ الثانيةُ: تسعيرُ الأراضي البيضاءِ:
تسعيرُ الأراضي البيضاءِ مندرجٌ ضمنَ ما يعرفُ بالتسعيرِ للمصلحةِ، وهذا النوعُ منَ التسعيرِ للعلماءِ فيهِ قولانِ:
القولُ الأولُ: يجوزُ التسعيرُ إذا اقتضى ذلكَ مصلحةَ العامةِ، وهذا هوَ مذهبُ الحنفيةِ ينظر: "تبيين الحقائق" (6/28).، والمالكيةِ ينظر: "التاج والإكليل" (4/380).، ووجهٌ عندَ الحنابلةِ ينظر:" الإنصاف" (4/338).، اختارهُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ ينظر:"مجموع الفتاوى" (28/205)..
القولُ الثاني: لا يجوزُ التسعيرُ، ولوِ اقتضى ذلكَ مصلحةَ العامةِ. وهذا هوَ مذهبُ الشافعيةِ ينظر: "مغني المحتاج" (2/38).، والحنابلةِ ينظر: "كشاف القناع" (3/187).، وابنُ حزمٍ منَ الظاهريةِ ينظر: "المحلى" (9/40). .
وقدِ استدلَّ كلا الفريقينِ بأدلةٍ؛ فتمسَّكَ المانعونَ بالأصلِ.
وأما المجيزونَ فقالواْ: إنَّ قواعدَ الشريعةِ تعضِّدُ القولَ بجوازِ التسعيرِ؛ لأنَّهُ يحققُ العدلَ ويحصلُ المصالحَ العامةَ. قالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ: «وإذا تضمنَ -أيِ التسعيرُ- العدلَ بينَ الناسِ مثلَ: إكراهِهمْ على ما يجبُ عليهمْ منَ المعاوضةِ بثمنِ المثلِ، ومنعهمْ مما يحرمُ عليهمْ منْ أخذِ زيادةٍ على عوضِ المثلِ، فهوَ جائزُ بلْ واجبُ»"مجموع الفتاوى" (28/76). وينظر: "البيان والتحصيل" (9/314).. وإذا كانَ كذلكَ فإنَّ الوسائلَ لها أحكامَ المقاصدِ ينظر: "قواعد الأحكام في مصالح الأنام" (1/53-54)، "الفروق" للقرافي (2/30)..
وما يخشى منَ الظلمِ بتفعيلِ التسعيرِ، يمكنُ توقِّيهِ بتحري العدلِ في استعمالِهِ. ولذلكَ ذكرَ العلماءُ أنَّهُ يجبُ في التسعيرِ أنْ يكونَ عنْ علمٍ بأحوالِ الأسواقِ، وأنْ يُراعى في ذلكَ مصلحةُ جميعِ الأطرافِ: الباعةِ والمشترينَ. ولذلكَ نبَّهَ ابنُ العربيِّ بعدَ ترجيحِهِ جوازَ التسعيرِ ، فقالَ: «وضبطُ الأمرِ على قانونٍ لا تكونُ فيهِ مظلمةٌ على أحدٍ منَ الطائفتينِ. وذلكَ قانونٌ لا يُعرَفُ إلاَّ بالضبطِ للأوقاتِ ومقاديرِ الأموالِ»"عارضة الأحوذي" (6/54). وينظر: "القبس في شرح الموطأ" (2/838)..
كما أنَّهُ وسيلةٌ لرفعِ ظلمِ المحتكرينَ المعتدينَ الذينَ قالَ فيهمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنِ احتَكَرَ فَهُوَ خَاطِئٌ» أخرجه مسلم (1605) من حديث معمر بن عبد الله العدوي.. وهذا لا يختصُّ نوعًا منَ المالِ، بلْ يشملُ كلَّ ما يحبسُ مما يتضررُ الناسُ بحبسِهِ طلبًا لارتفاعِ سعرِهِ، قالَ مالكُ- رحمَهُ اللهُ -: «أرى أنَّ كلَّ ما أضرَّ بالناسِ في أسعارِهمْ أنْ يمنعَهُ الناسُ ، فإنْ أضرَّ ذلكَ بالناسِ مُنِعوا منهُ»"البيان والتحصيل" (9/ 322)..
وعلى هذا يجري تسعيرُ الأراضي البيضاءِ، فمنْ قالَ بجوازِهِ قالَ: إنَّهُ وسيلةٌ لتحقيقِ العدلِ وتحصيلِ المصلحةِ.
كما أنَّ في تسعيرِ الأراضي البيضاءِ دفعًا لضررِ الاحتكارِ عنِ الناسِ «فحبسُ الأراضي معَ العلمِ بحاجةِ الناسِ إليها ضرارٌ ممنوعٌ بالنصِّ أوْ هوَ في معنى المنصوصِ، وهذا مدركٌ منْ مداركِ التحريمِ المعهودةِ في الشرعِ، فكلُّ منْ منعَ ما يحتاجُ الناسُ إليهِ حاجةً عامةً فقدْ وقعَ في المحظورِ، والحالُ أنَّ حاجةَ الناسِ إلى السكنِ منْ جنسِ الحاجاتِ العامةِ التي تنزلُ منزلةَ الضرورةِ كما هوَ مقررٌ في قواعدِ الفقهِ» ينظر: "حكم احتكار الأراضي وفرض الزكاة عليها" للدكتور المزيني..
وسيكونُ تسعيرُ الأراضي البيضاءِ دافعًا للمفاسدِ المترتبةِ على وجودِ هذهِ المساحاتِ الشاسعةِ المعطلةِ داخلِ المدنِ.
وأما منْ ذهبَ إلى عدمِ جوازِ التسعيرِ، فبناهُ على الأصلِ في عدمِ جوازِ التسعيرِ: فمنهمْ منْ رأى أنَّهُ وإنْ جازَ التسعيرُ للمصلحةِ العامةِ إلاَّ أنَّهُ رأى أنَّهُ لا يتعينُ التسعيرُ لتحقيقِ ذلكَ وأنَّهُ يمكنُ إدراكُهُ منْ طريقٍ أخرى.
وبالنظرِ إلى كلامِ المختصينَ منَ الاقتصاديينَ والمهتمينَ نجدُ أنهمْ فريقانِ:
فمنهمْ منْ يرى تسعيرَ الأراضي البيضاءِ حلًّا مجديًا لدفعِ ملاكِ هذهِ الأراضي إلى بيعها، وأنَّهُ وسيلةٌ لرفعِ احتكارِ ملاكِ الأراضي ينظر: صحيفة الاقتصادية، هل هذا قابل للنقاش؟
http://www.aleqt.com/2012/08/13/article_682698.html .
ومنهمْ منْ يقولُ بعدمِ جدوى التسعيرِ في حلِّ مشكلةِ الأراضي البيضاءِ، وأنَّهُ قدْ يكونُ سببًا في تعقيدِها وتفاقمِها ينظر: "المخارج الفقهية لأزمة الإسكان " ص (49)..
ومنَ الجديرِ بالذكرِ أنَّ مقترحَ التسعيرِ لمْ يخصَّ مشكلةَ الأراضي البيضاءِ تحديدًا، بلْ كانَ الكلامُ على معالجةِ أزمةِ ارتفاعِ أسعارِ العقارِ عمومًا ينظر: صحيفة سبق الالكترونية، ثرواتنا في التراب دون تسعير الأراضي
http://sabq.org/oG0aCd..
ومهما يكنْ منْ أمرٍ فإنَّهُ يجوزُ تسعيرُ الأراضي، إنِ اقتضتْ ذلكَ مصلحةٌ؛ لأنَّ التسعيرَ المحرَّمَ ما كانَ متضمنًا للظلمِ، أمَّا إنْ كانَ محقِّقًا للعدلِ ومصلحًا لحالِ الخلقِ، فإنَّهُ مطلوبٌ شرعًا، والنظرُ في ذلكَ مرجعُهُ إلى أهلِ الاختصاصِ والعلمِ بهذهِ الأمورِ، منْ أهلِ الاقتصادِ والخبرةِ بالعقارِ.