الأمرُ الأولُ: نزعُ ملكيةِ الأراضي البيضاءِ المقطعةِ والمحياةِ:
الأصلُ أنَّ كلا الإقطاعِ والإحياءِ إنما شرعَ لأجلِ عمارةِ الأرضِ والحثِّ على الانتفاعِ بها.
الإحياءُ لا تملكُ الأرضَ إلاَّ بهِ، كما قالَ النبيُّ- صلى اللهُ عليهِ وسلمَ -: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِي لهُ» أخرجه أبو داود (3073).. والراجحُ في ضابطِ الإحياءِ أنَّهُ «ما عُدَّ إحياءً، وهوَ عمارتها بما تتهيأُ بهِ لما يرادُ منها» ينظر: الشرح الكبير لابن قدامة (6/164)..
وكذلكَ الإقطاعُ اختلفَ الفقهاءُ في إفادتِهِ الملكِ، ولوْ لمْ ينتفعُ المقطعُ بهِ إحياءً أوِ عمارةً على قولينِ:
القولِ الأولِ: أنَّ الملكَ لا يثبتُ بمجردِ الإقطاعِ، بلْ يفتقرُ للإحياءِ، ويكونُ المُقطَعُ أحقَّ بها منْ غيرِهِ. وهذا قولُ الجمهورِ منَ الحنفيةِ يُنظر: بدائع الصنائع (6/194)، الفتاوى الهندية (5/368)، والشافعيةِ ينظر: الحاوي (7/482)، المجموع (15/227).، والمذهبُ عندَ الحنابلةِ ينظر: الكافي (2/243)، دقائق أولي النهى (2/237) واختاره الشيخ محمد بن إبراهيم، ينظر: مجموع فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم (8/223)..
القولُ الثاني: أنَّ الملكَ يثبتُ بمجردِ الإقطاعِ، وأنَّهُ لا يفتقرُ للإحياءِ، ولا يجوزُ لوليِّ الأمرِ استرجاعُها. وهذا مذهبُ المالكيةِ ينظر: الذخيرة (6/153)، وحاشية الدسوقي (4/68).، وروايةٌ عندَ الحنابلةِ ينظر: الإنصاف (16/127)..
والأقربُ منْ هذينِ: القولُ بأنَّ الإقطاعَ لا يثبتُ الملكُ بمجردِهِ، بلْ يفتقرُ الملكُ إلى إحياءِ الأرضِ بما يقصدُ منها. والأصلُ في ذلكَ ينظر: البيان والتحصيل (10/301).، ما روي منْ حديثِ بلالِ بنِ الحارثِ أنَّ رسولَ اللهِ- صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- أقطعَهُ منَ العقيقِ ما يصلحُ للعملِ فلمْ يعملْهُ، فقالَ عمرُ بنُ الخطابِ رضي الله عنه: إنْ قويتَ على عملِهِ فاعملْهُ وإلَّا فأقطعْهُ للناسِ، فقالَ لهُ: قدْ أقطعنيهِ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقالَ عمرُ رضي الله عنه : إنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لمْ يقطعكَ لتحجُرَهِ عنِ الناسِ، لمْ يقطعْكَ إلَّا لتعملَ. قالَ فأقطعَ عمرُ بنُ الخطابِ للناسِ العقيقَ أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (6/ 148)، والحاكم في "المستدرك" (1/404)، وقال عنه: «قد احتج البخاري بنعيم بن حماد ومسلم بالدراوردي، وهذا حديث صحيح ولم يخرجاه».. وقدْ اختارَ ذلكَ الشيخُ محمدُ بنُ ابراهيمَ: فقالَ:"هذا الإقطاعُ لا يعطي المقطعَ حقَّ التملكِ ، بدليلِ استرجاعِ عمرَ لبقيةِ الأرضِ التي عجزَ بلالٌ عنْ إحيائِها منَ العقيقِ. وإنما يعطيهِ حقَّ الاختصاصِ والأولويةِ»"فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ" (8/ 223).
فإحياءُ الأراضي البيضاءِ والانتفاعُ بها، يكونُ بتخطيطِها وتطويرِها وتجهيزِها لما يُرادُ بها منْ إعمارٍ أوِ استثمارٍ. والناظرُ في حالِ أكثرِ الأراضي البيضاءِ، يجدها معطلةً عنْ أيِّ تطويرٍ، فينتفي وصفُ الإحياءِ عنها والانتفاعُ، فيكونُ لوليِّ الأمرِ نزعُ ملكيتِها لتعطيلِها.
ومهما يكنْ منْ أمرٍ، فإنَّ المعمولَ بهِ منَ الأنظمةِ في المملكةِ ينصُّ على أنَّ الأراضي عمومًا التي داخلَ النطاقِ العمرانيِّ مملوكةٌ لمنْ أُقطِعَتْ لهُ، أوْ كانَ قدْ أحياها سابقًا قبلَ اتساعِ النطاقِ العمرانيِّ. وقدْ بينتِ المادةُ التاسعةُ منْ نظامِ توزيعِ الأراضي البورِ أنَّهُ «إذا قامَ منْ صدرَ لصالِحهِ قرارُ التوزيعِ باستثمارِ الأرضِ، وانتهتِ المُدَّةُ المُحدَّدةُ للاستثمارِ، تُملكُ الأرضُ الموزعةُ لِمنْ صدرَ لصالِحهِ قرارُ التوزيعِ»"مجموعة الأنظِمة السعودية" (7/322). . وأمَّا الأراضي المُقطَعةُ، فإنَّ قرارَ الهيئةِ القضائيةِ العليا رقمِ (94)، في 14/3/1394هـ تضمنَ «أنَّ عملَ الحكومةِ قديمًا وحديثًا في اعتبارِ الإقطاعِ مفيدًا للتملكِ، وأنها تصدرُ وثائقَ الإقطاعِ، وتكتبُ الجهاتُ الرسميةُ للمحاكمِ لإعطاءِ المقطعينَ حججَ الاستحكامِ على الأراضي المقطعةِ لهمْ بناءً على الأوامرِ الساميةِ، فيبيعونَ تلكَ الأراضي تحتَ سمعِ وبصرِ الحكومةِ، وتشتري في بعضِ الحالاتِ الحكومةُ منهمْ، وليسَ في عملِ الحكومةِ هذا ما يخالفُ الشرعَ، بلْ تشهدُ لهُ القواعدُ الشرعيةُ، وبناءً على ما تقدمَ فإنَّ الهيئةَ ترى بأنَّ الإقطاعَ يفيدُ التملكَ، وهوَ الذي عليهِ العملُ الجاري في المملكةِ، إلاَّ ما رافقَهُ شرطٌ حينَ الإقطاعِ بألَّا يملكهُ صاحبُهُ إلاَّ بالإحياءِ، فيكونُ الشرطُ معتبرًا، ولا يتحققُ ملكٌ بدونهِ» ينظر: التصنيف الموضوعي لتعاميم وزارة العدل (5/1)..