أما مطلق النفع الدنيوي بها ، فهو عند الله لا شيء ، فلا ينافي بطلانها ؛بدليل قوله :{وما الحياة الدنيا إلا متاع } وقوله :{وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون وقوله :{ ولولا أن يكون الناس أمة واحدة } إلى قوله :{للمتقين} والآيات في مثل هذه كثيرة .
ومما يوضح هذا المعنى حديث :" لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء".
ذكر ابن كثير هذا الحديث في تفسير قوله تعالى :{ولولا أن يكون الناس أمة}الآيات . ثم قال : أسنده البغوي من رواية زكريا بن منظور، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره . ورواه الطبراني من طريق زمعة بن صالح ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - :" لو عدلت الدنيا عند الله جناح بعوضة ، ما أعطى كافرا منها شيئا .
قال مقياه ـ عفا الله عنه ـ : لا يخفى أن مراد الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله ـ بما ذكرناه عنه ، أن كلتا الطريقتين ضعيفة ، إلا أن كل واحدة منهما تعتضد بالأخرى ، فيصلح المجموع للاحتجاج ، كما تقرر في علم الحديث من أن الطرق الضعيفة المعتبر بها يشد بعضها بعضا ، فتصلح للاحتجاج .
لا تخاصم بواحد أهل بيت فضعيفان يغلبان قويا
لأن زكريا بن منظور بن ثعلبة القرظي ، وزمعة بن صالح الجندي ، كلاهما ضعيف ، وإنما روى مسلم عن زمعة مقرونا بغيره لا مستقلا بالرواية ، كما بينه الحافظ ابن حجر في التقريب .
الثالث : أن معنى { نوف إليهم أعمالهم } أي نعطيهم الغرض الذي عملوا من أجله في الدنيا ، كالذي قاتل ليقال : جريء ، والذي قرأ ليقال : قارئ والذي تصدق ليقال : جواد ، فقد قيل لهم ذلك ، وهو المراد بتوفيتهم أعمالهم على هذا الوجه .
ويدل له الحديث الذي رواه أبو هريرة مرفوعا في المجاهد والقارئ والمتصدق ؛ إنه يقال لكل واحد منهم : إنما عملت ليقال ، فقد قيل . أخرجه الترمذي مطولا ، وأصله عند مسلم كما قاله ابن حجر ، ورواه أيضا ابن جرير ، وقد استشهد معاوية رضي الله عنه لصحة حديث أبي هريرة هذا ، بقوله تعالى :{ نوف إليهم أعمالهم} وهو تفسير منهم رضي الله عنهم لهذه الآية بما يدل لهذا الوجه الثالث .
الرابع : أن المراد بالآية المنافقون الذين يخرجون للجهاد ، لا يريدون وجه الله ، وإنما يريدون الغنائم فإنهم يقسم لهم فيها في الدنيا ولا حظ لهم من جهادهم في الآخرة ، والقسم لهم منهم هو توفيتهم أعمالهم على هذا القول . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى :{فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق } الآية .
هذه الآية الكريمة ندل على أن هذا الابن من أهل نوح عليه السلام ، وقد ذكر تعالى ما يدل على خلاف ذلك ، حيث قال :{ يا نوح إنه ليس من أهلك } .
والجواب : أن معنى قوله :{ليس من أهلك } ، أي : الموعود بنجاتهم في قوله :{ لننجينه وأهله } ؛ لأنه كافر لا مؤمن .
وقول نوح :{ إن ابني من أهلي }يظنه مسلما من جملة المسلمين الناجين كما يشير إليه قوله تعالى :{فلا تسألني ما ليس لك به علم } .
وقد شهد الله أنه ابنه حيث قال :{ ونادى نوح ابنه } إلا أنه أخبره بأن هذا الابن عمل غير صالح ؛ لكفره ، فليس من الأهل الموعود بنجاتهم ، وإن كان من جملة الأهل نسبا .
قوله تعالى :{ ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام..} الآية .
هذه الآية الكريمة تدل على أن إبراهيم رد السلام على الملائكة . وقد جاء في سورة الحجر ما يوهم أنهم لما سلموا عليه أجابهم بأنه وجل منهم ، من غير رد السلام ، وذلك قوله تعالى :{ فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون (52) سورة الحجر } .
والجواب ظاهر : وهو أن إبراهيم أجابهم بكلا الأمرين : رد السلام والإخبار بوجله منهم . فذكر أحدهما في هود ،والآخر في الحجر . ويدل لذلك ذكره تعالى ما يدل عليهما معا في سورة الذاريات في قوله :{فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون (25) سورة الذاريات } لأن قوله :{ منكرون } يدل على وجله منهم .ويوضح ذلك قوله تعالى :{ فأوجس منهم خيفة } في هود والذاريات ، مع أن في كل منهم :{ قال سلام } .
قوله تعالى :{خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض } الآية .
تقدم وجه الجمع بينه وبين الآيات التي يظن تعارضهما معه ، كقوله تعالى :{ خالدين فيها أبدا } في سورة الأنعام ، وسيأتي له إن شاء الله زيادة إيضاح في سورة النبأ .
قوله تعالى :{ ولا يزالون مختلفين (118) إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم } .
اختلف العلماء في المشار إليه بقوله :" ذلك" ، فقيل : إلا من رحم ربك وللرحمة خلقهم .
والتحقيق : أن المشار إليه هو اختلافهم إلى سقي وسعيد ، المذكور في قوله :{ ولا يزالون مختلفين (118) إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم } ولذلك الاختلاف خلقهم ، فخلق فريقا للجنة وفريقا للسعير ، كما نص عليه بقوله تعالى :{ ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس..} الآية .
وأخرج الشيخان في صحيحهما ، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه : " ثم يبعث الله إليك الملك فيؤمر بأربع كلمات : فيكتب رزقه ، وأجله وعمله ، وشقي أم سعيد " .
وروى مسلم من حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ " ياعائشة ، إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم ، وخلق النار وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم " .
وفي صحيح مسلم ، من حديث عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إن الله قدر مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ، وكان عرشه على الماء" .
وفي الصحيحين من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " كل ميسر لما خلق له" .
وإذا تقرر أن قوله تعالى {ولذلك خلقهم} معناه : أنهم خلقهم لسعادة بعض وشقاوة بعض ،كما قال :{ ولقد ذرأنا } الآية ، وقال :{ {هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن (2) سورة التغابن } فلا يخفى ظهور التعارض بين هذه الآيات ، مع قوله تعالى :{ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (56) سورة الذاريات } .
والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه :
الأول ـ ونقله ابن جرير عن زيد بن أسلم وسفيان ـ : أن معنى الآية : { إلا ليعبدون أي : يعبدي السعداء منهم ويعصيني الأشقياء . فالحكمة المقصودة من إيجاد الخلق ـ التي هي عبادة الله ـ حاصلة بفعل السعداء منهم ، كما أشار له قوله تعالى :{ يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين } .
وغاية ما يلزم على هذا القول ، أنه أطلق المجموع وأراد بعضهم ،وقد بينا أمثال ذلك من الآيات التي أطلق فيها المجموع مرادا بعضه ، في سورة الأنفال .
الوجه الثاني ـ هو ما رواه ابن جرير عن ابن عباس ، واختاره ابن جرير : أن معنى قوله :{إلا ليعبدون} أي : إلا ليقروا إلي بالعبودية طوعا أو كرها ؛ لأن المؤمن يطيع باختياره ، والكفار مذعن منقاد لقضاء ربه جبرا عليه .