المذيع:كما يسرني -مستمعينا الكرام- في بدء هذه الحلقة أن أرحب بضيفي وضيفكم الدائم في هذا البرنامج، فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور: خالد بن عبد الله المصلح؛ أستاذ الفقه بكلية الشريعة في جامعة القصيم، المشرف العام على فرع الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء في منطقة القصيم، السلام عليكم ورحمة الله، أهلًا وسهلًا بكم شيخ خالد.
الشيخ:وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، مرحبًا بك أخي عبد الله، وحيَّا الله الإخوة والأخوات في هذا اللقاء، نسأل الله تعالى لي ولهم التوفيق.
المذيع:اللهم آمين، مرحبًا بكم، وأهلًا وسهلًا بكل المستمعين والمستمعات الذين يستمعون إلينا الآن عبر الأثير، وحديثنا -مستمعينا الكرام- في هذه الحلقة عن "فضل السعي على الأرملة والمسكين"، وفي هذه الحلقة سنأتي على الكثير من الفضائل التي وردت في السعي على الأرملة والمسكين، وكذلك أيضًا الحكمة من وجود وترتيب هذا الفضل على هذا العمل الصالح.
شيخ خالد، عندما نتحدث عن مثل هذا الفضل بشكل خاص، وهو ما ورد في الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وسلم، ربما في البداية إذا كان بالإمكان أن نقدم لهذا الحديث بما رتبه الإسلام بشكل عام على هذه الأعمال التي فيها كفالة للمحتاجين، وفيها أيضًا عون لكل من هو محتاج إلى العون وللمساعدة، وفي نفس الوقت أيضًا تسخير هذا الدين الإسلامي الحنيف بعض المسلمين لبعضهم من خلال ندبهم إلى بذل العون والمساعدة، وكذلك أيضًا بذل المساعدة للمحتاجين أينما كان هؤلاء المحتاجون، وبالتالي نحن في صورة نموذجية مثالية جميلة جدًّا يتميز بها ديننا الحنيف، نحتاج أيضًا إلى إشاعتها بدلًا من إشاعة بعض النماذج التي يروجها البعض على حساب هذه النماذج المثلى لما ورد في قيَمنا الإسلامية العظيمة.
الشيخ:بسم الله الرحمن الرحيم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، تحية طيبة لك أخي عبد الله، وللإخوة والأخوات المستمعين والمستمعات، الحديث عن السعي على الأرامل، والمساكين، والأيتام، وذوي الحاجات، لا ينفك عن أصل جاءت به الشريعة، بل هو صورة من صور تطبيقات ما وصف الله تعالى به رسالة خاتم النبيين -صلى الله عليه وسلم- في قوله -جلَّ في علاه-: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ الأنبياء: 107
هذه الشريعة المباركة هي من رحمة الله تعالى للبشرية، وقد وسعت رحمته -جلَّ وعلا- كل شيء؛ كما قال تعالى : ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا﴾ غافر: 7 ، وقد جعل الله تعالى رحمة في قلوب الخلق بها يصلح معاشهم، ويستقيم حالهم، وتنتظم علاقاتهم وصلاتهم؛ وذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر أن الله تعالى أنزل في الناس رحمة وأمسك عنده تسعًا وتسعين رحمة، تسع وتسعون رحمة أمسكها الله تعالى تكون من رحماته لعباده يوم القيامة، هذه الرحمة التي أنزلها في الأرض هي جزء من ذلك الجزء الذي يترحم الخلق فيما بينهم به حتى فيما يلقيه -جلَّ وعلا- في نفوس البهائم من رحمة، وهي لا تعقل، من رحمة أولادها، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : «حتى ترفَعَ الفرسُ حافِرَها عن وَلَدِها خَشيةَ أن تُصيبَه»[صحيح البخاري:ح6000]، وجاء في لفظٍ آخر لهذا الحديث: «إنَّ للهِ مائةَ رحمةٍ، أنزلَ منها رحمةً واحدةً بين الجنِّ والإنسِ والبهائمِ والهوامِّ، بها يَتعاطَفونَ، بها يَتَراحَمُونَ، بها تَعطِفُ الوحوشُ على وَلَدِها، وَأَخَّرَ اللهُ تِسعًا وتسعينَ رَحمةً يَرحَمُ بها عِبَادَهُ يومَ القيامةِ».[صحيح مسلم:ح2752/19]
فهذه الشريعة جاءت بالرحمة العامة، الواسعة، الشاملة، التي أظهرت شيئًا من رحمة الله تعالى بعباده. إن الله كتب كتابًا قبل أن يخلق الخلق: إن رحمتي سبَقتْ غَضَبِي، فهو مكتوب عنده فوقَ العرشِ[صحيح البخاري:ح7422]، وقد قال تعالى في محكم كتابه: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ الفاتحة: 2،3 ؛ فاشتق لنفسه اسمين من هذا المعنى الجليل، وهو الرحمة، وقد وصف الله تعالى أهل الإيمان بالرحمة، وجعل رحمته قريبة من المحسنين؛ كما قال تعالى : ﴿إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ الأعراف: 56 ، وقال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ اللهُ»[مسند أحمد:ح6494، والترمذي في سننه:ح1924، وقال:هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.]؛ فالرحمة التي جاءت بها الشريعة لم تقتصِر على صورة، ولا على نوع من الأنواع، بل هي الرحمة العامة التي يُؤجر عليها الإنسان حتى في تعامله مع الحيوان، وليس في رحمته لبني جنسه فحسب، فقد جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة –رضي الله تعالى عنه- أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أخبر عن كلبٍ كان يُطِيف ببئرٍ كاد يقتلُه العطش، فأتته بغِيٌّ من بغايا بني إسرائيل - البغي الذي تمتهن وتكسب المال بالزنا، وهو من أعظم الموبِقات، وكبائر الإثم، وعظائم الذنوب - رأته هذه البغي فنزعت مُوقَها؛ أي خُفَّها الذي كانت تلبسه في قدمها، فاستقت له، فسقته؛ أي سقت الكلب رحمةً له لما رأته يكاد يهلِك من العطش، فغُفر لها به؛ غفر الله تعالى ذنوب هذه البغي بسقيها الكلب، بما قام في قلبها من الرحمة.[صحيح مسلم:ح2245/154] «الراحِمُونَ يَرحَمُهُمُ اللهُ»[تقدم]، وفي المقابل أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله تعالى عنهما- قال: «عُذِّبَتِ امرأةٌ في هِرَّةٍ»[صحيح البخاري:ح2365]، في رواية: «دخَلَتِ امرأةٌ النارَ في هِرةٍ -أي بسببها-سجنتها حتى ماتتْ، فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها وسقتها إذ حَبَسَتْها، ولا هي تَرَكَتْها تأكُلُ من خَشَاشِ الأرضِ»[صحيح البخاري:ح3318]؛ وهذا يبين عِظيم العقوبة المترتبة على أولئك الذين قست قلوبُهم وخلت من الرحمة بالخلق.
إن هذه الشريعة، شريعة رحمة، وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أرحم الناس؛ كما قال تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ﴾ التوبة: 128 ؛ يعني يشق عليه كل ما يصعب عليكم، كل ما يلحقِكم حرجًا فهو شاقٌّ على النبي -صلى الله عليه وسلم- يلحقه منه أذى وضيق، ثم قال -جلَّ في علاه: ﴿حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ التوبة: 128 .
وقد وصفه الله تعالى بالرحمة وامتنَّ عليه بها، فقال: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ﴾ آل عمران: 159 ؛ يعني ألقاها في قلبك، وجعلها من خصالك وخلالك؛ هذا من خطاب للنبي -صلى الله عليه وسلم-: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ آل عمران: 159 ، وجعل من سمات أهل الإيمان تعاطف قلوبهم بعضها على بعض، فألَّف بين قلوبهم، وجعل ذلك من المنن التي امتنَّ بها على هذه الأمة وعلى الرسول الكريم، فقال: ﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ الأنفال: 63
وقد قال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «مَثَلُ المؤمنينَ في توادِّهِم وتراحمِهم، وتعاطفهِم كالجسدِ؛ إذا اشتَكَى منهُ عُضْوٌ تَداعَى لهُ سائِرُ الجسدِ بالسَّهَرِ والحُمَّى».[صحيح البخاري:ح6011] الرحمة ظاهرة في هذه الشريعة وبيِّنة في هذه الشريعة في كل أحكامها، وفي كل تفاصيلها، وفي كل تشريعاتها، كل ذلك بيِّن في هذه الشريعة المباركة، وقد ترجمها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في معاملة الصغير، والكبير، والحر، والعبد، والصديق، والعدو، فكان في غاية الرحمة -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لكل أحد؛ ومن هذا المنطلق أكد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا المعنى في مواقف مرت عليه ليستحضر أصحابه أن الرحمة عبادة، وقربة، وتقرب من الله -عزَّ وجلَّ- وليست فقط انفعالًا عاطفيًّا من قلب رحيم لا يُرجَى له أثر، ولا ثمر. أذكر لذلك شاهدين إن سمحت لي.
المذيع:لعلنا نأخذ فاصلًا، ثم نتطرق إلى هذين الشاهدين إن أذنتم شيخ خالد، مستمعينا الكرام فاصل قصير بعده نعود لمواصلة هذه الحلقة من برنامجكم: الدين والحياة، وحديثنا مستمر ومتواصل عن "فضل السعي على الأرملة والمسكين" مع ضيفنا فضيلة الشيخ الدكتور: خالد بن عبد الله المصلح، دقائق مستمعينا الكرام عبر هذا الفاصل، أو ثوانٍ معدودة عبر هذا الفاصل بعده نعود إليكم لمواصلة هذه الحلقة، فتفضلوا بالبقاء معنا.
من جديد نحييكم ونتواصل معكم في هذه الحلقة المباشرة من برنامجكم: "الدين والحياة"، وحديثنا مستمر ومتواصل معكم مستمعينا الكرام عن السعي على الأرملة والمسكين مع فضيلة الشيخ الدكتور: خالد المصلح، من جديد نحييك شيخ خالد، وقد كنت في ذكر شاهدين قبل هذا الفاصل لعلك تتطرق إليهما، بعد ذلك ننطلق إلى المحور التالي.
الشيخ:الشاهدان هما ترجمة نبوية فعلية نبه فيها أصحابه إلى أن الرحمة عبادة يؤجر عليه الإنسان، وأن خلوَّ القلب من الرحمة يحجب عن الإنسان رحمة الرحمن الرحيم -جل في علاه-؛ دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- على ابنه إبراهيم وهو يجود بنفسه؛ يعني في حال الاحتضار، فجعلت عيناه -صلى الله عليه وسلم- تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف -رضي الله تعالى عنه-: وأنت يا رسول الله؟؛ أي: يحصل منك هذا أن تدمع عيناك على فراق، أو على مصاب نزل بابن لك، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- : «يا ابنَ عوفٍ، إنها رحمةٌ»، ثم أتبعها بأخرى؛ أي: دمعت عينه -صلى الله عليه وسلم- بعد هذه المقولة، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ العينَ تَدمَعُ، والقَلْبَ يَحزَنُ، ولا نقولُ إلَّا ما يُرضِي ربَّنا، وإنَّا بفراقِكَ يا إبراهيمُ لَمَحْزُونونَ»[صحيح البخاري:ح1303]؛ بيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن هذا الدمع الذي نزل لهذا المصاب رحمة بهذا الرضيع الذي يجود بنفسه هو مما لا يُخرج الإنسان عن طاعة الله، بل هو مما يؤجر عليه كما جاء في حديث الأقرَع بن حابسٍ أنه أبصر النبي -صلى الله عليه وسلم- يقبِّل الحسن، فقال: إن لي عشرة من الولد. الأقرع بن حابس يقول: لي عشرة من الولد، ما قبَّلت واحدًا منهم، فقال النبي –صلى الله عليه وسلم-: «إنَّه مَن لا يَرحَم لا يُرْحَم»[صحيح البخاري:ح5997]؛ فجعل الانفعال الفطري بتقبيل الابن، والحنو عليه، والألم لما يَنزِل به من المصاب من الرحمة التي تستوجِب رحمة الله.
وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في جملة جامعة مانعة في بيان عظيم الأجر المرتَّب على الرحمة، قال: «الرَّاحِمُونَ يَرحَمُهُمُ اللهُ»[تقدم]، مَن طمع في رحمة الله في الدنيا والآخرة فليتخلَّقْ بالرحمة في معاملته للخلق فـ«الرَّاحِمُونَ يَرحَمُهُمُ اللهُ»، وقد امتاز النبي-صلى الله عليه وعلى آله وسلم-قبل الرسالة بهذه الخصلة، فكانت من الخصال الموجبة لوقايته -صلى الله عليه وسلم- من كل خزي، ومن كل ما يكره، وقد سجلت ذلك خديجة -رضي الله تعالى عنها- عندما قالت للنبي -صلى الله عليه وسلم-: «كلَّا واللهِ، لا يُخزِيَكَ اللهُ». هذه المقدمة التي قالت بها خديجة -رضي الله تعالى عنها- لما جاءها النبي -صلى الله عليه وسلم- يخبرها بما طرقه في الغار من مجيء الوحي، وجبريل -عليه السلام- قالت: «كَلَّا؛ واللهِ لا يُخزِيكَ اللهُ أبدًا» لماذا؟ قالت: «إنك لَتصِلُ الرَّحِمَ، وتَحمِل الكَلَّ، وتَكسِبُ المعدومَ، وتَقرِي الضيفَ»؛ أي: تُكرِمُه وتعطيه حقه «وتُعينُ على نوائبِ الدهْرِ».[صحيح البخاري:ح4953]
هذه الخصال التي اتصف بها النبي -صلى الله عليه وسلم- هي خصاله قبل أن يمنَّ الله عليه بالرحمة والنور الذي أشرقت به الأرض بعد ظلماتها، صلة للأرحام، إعانة لذوي الحاجات، قيام بحقوق الخلق من الأضياف ونحوهم، إعانة لأصحاب المصائب، «وتعين على نوائب الدهر»؛ أي مصائب الزمان وما يلحق الناس بما يجري من حوادث الزمان؛ كل هذه الخصال هي في الحقيقة منظومة من خصال تنبثق عن قلب رحيم، قلب رفيق، قلب شفيق، قلب يحرص على إيصال الخير، وكف الشر عن كل أحد؛ هذا المعنى الذي اتسمت به هذه الشريعة، وأنها رحمة للعالمين؛ كما قال العزيز الرحيم: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ الأنبياء: 107 ؛ تُرجمت في أحكامها وشرائعها، ففرض الله تعالى الإحسان إلى الخلق وجعله ركنًا من أركان الشريعة، فإن من أركان الإسلام: أداء الزكاة؛ إيتاء الزكاة وفعلها؛ وهذا قاعدة الإحسان إلى الخلق، بأن الإحسان إلى الخلق قاعدته الأساس هو ما ذكره الله تعالى من إعطاء الزكاة، والزكاة حق للفقراء والمساكين، وبقية من زكاهم الله تعالى من المستحقين للزكاة دون صلة من جهة قرابة، ولا من جهة صحبة، ولا من جهة جوار، فهي حقٌّ للفقير ولو كان في آخر الدنيا، ولو كان أبعد الناس نسبًا عنك، ولو لم يكن بيننا وبينه أي ارتباط بالروابط التي توجب أن تقدِّم له مالًا، تقدم المال رحمة بالخلق، وإحسانًا إليهم، طمعًا في إحسان الخالق، ورحمته، وبره، وفضله، فضلًا عما أوجبه الشارع من الحقوق التي تكون بين القرابات من النفقة الواجبة؛ كنفقة الوالد على ولده، والولد على والده إذا كان غنيًّا والوالد فقيرًا، وهلم جرًّا مما يكون من النفقات الواجبة.
وقد ندب الله تعالى إلى الإحسان وإيتاء ذوي القربة، وذوي الحاجات ما يكون سببًا لكف حاجاتهم وإغنائهم.
أخذنا شيئًا من اللمحة في آيات الكتاب الحكيم التي ذكر الله تعالى فيها حقوق ذوي القرابات، وحقوق ذوي الحاجات فيما يتعلق بالمال على وجه المثال، وهو صورة من الصور، وليست حصرًا؛ لأن الإحسان إلى ذوي القربى ليس مقصورًا على المال، الله تعالى يقول في بيان ما أخذه من الميثاق في الأمم السابقة، على سبيل المثال، يقول: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ﴾ البقرة: 83 ، ثم قال: ﴿وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ البقرة: 83، ثم عاد فقال: ﴿وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ البقرة: 83؛ فانظر إلى حجم الإحسان إلى الخلق في هذا الميثاق الذي أخذه الله –تعالى- على بني إسرائيل، وهو ميثاق على الأمم أيضًا؛ لأن ما جاء به الأمر في هذا دلت عليه الأدلة في الكتاب والسنة، فذكر الميثاق هنا تذكيرًا للأمة بأن ما أُمروا به من عبادة الله، والإحسان إلى الوالدين، وإيتاء الحقوق ليس مقصورًا على الأمم السابقة، بل حتى على هذه الأمة، أو ليس مأمورًا به هذه الأمة فحسب، بل هو مما أخذه الله تعالى على الأمم السابقة.
وقد جعل الله تعالى ذلك من البر؛ فانظر إلى قوله تعالى : ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ﴾ البقرة: 177 ؛ هذا كله من أعمال القلب؛ إيمان بالله، واليوم الآخر، والملائكة والكتاب، والنبيين، ثم في أعمال الجوارح في معاملة الخلق، قال: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ﴾ البقرة: 177 ؛ انظر التفصيل في الذين يعطون المال ليتحقق وصف البر: ﴿وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ﴾ البقرة: 177 ، ثم عاد قال: ﴿وَأَقَامَ الصَّلاةَ﴾ البقرة: 177 ، ثم عاد مرة أخرى إلى الحق في المال؛ لأنه عصب الحياة ﴿وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا﴾ البقرة: 177 .
والإحسان إلى الخلق في نصوص الكتاب والسنة ظاهر حتى فيمن حضر الميراث، الله تعالى يقول في قسمة الميراث: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ النساء: 7 على نحو ما بيَّن -جلَّ وعلا-، ثم قال: ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبَى﴾ النساء: 8 ؛ هؤلاء ليس لهم حق في الميراث، لكنهم حضروا القسمة ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ﴾ النساء: 8 ، يقول الله تعالى: ﴿فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ﴾ النساء: 8 ؛ أي: أعطوهم. قد تشح الأنفس عن العطاء، أو يقل المال فلا يكون هناك ما يعطى هؤلاء إذا حضروا، فقال: ﴿وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ النساء: 8 .
إذن الإحسان المأمور به في هذه الشريعة إحسان ظاهر، وبيِّن، وجلي، وهو ينتظم كل أحد على كل صورة، لكن يتأكد في حقوق من؟ إما لقرابة، وإما لحاجة، فانظر في القرابة؛ ذكر فقط وصفًا واحدًا ﴿ذَوِي الْقُرْبَى﴾ البقرة: 177 ، ثم بعد ذلك قال: ﴿وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ﴾ البقرة: 177 ؛ كل هؤلاء يُعطَون لحاجتهم، وسد ما يحصل لهم به الكفاية والاقتناع عن الناس.
المذيع:بعد أن أوضحنا شيخ خالد هذه الصور الرائعة في الكمال الإسلامي في أبهى صوره عندما رتب هذا الأجر العظيم على هذه الصور المتعددة من التكافل الاجتماعي وأرساها، ورتب عليه الفضل العظيم، لعله أيضًا نستذكر ونحن نتحدث عن السعي على الأرملة والمسكين ربما هنا سؤال يسأله البعض، وهو: هل هذا الفضل الذي جاء في السعي على الأرملة، والمسكين، واليتيم، والإنفاق عليهم، والقيام على أمورهم، وتشبيه القائم على هذا الأمر وباذله؛ كالمجاهد في سبيل الله، وكالقائم، وكالصائم، ربما يذكر البعض حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «السَّاعي على الأرملةِ والمسكينِ كالمجاهدِ في سبيلِ اللهِ»، وقال أيضًا: وأحسبه قال: «وكالقائمِ الذي لا يفتُرُ، وكالصائمِ الذي لا يُفطِرُ».[صحيح البخاري:6007]
شيخ خالد، هل هذا الفضل مرتب على جنس هذه الأفعال، أو أنه على كل عمل صالح يكون في نفس السياق هذا؛ مما يكون فيه عون للمحتاج، وإغاثة للملهوف؟
الشيخ:هو على كل حال يعني النصوص فيما يتعلق بالإحسان إلى ذوي الحاجات من الأرملة والمسكين، ونحو ذلك من اليتامى، وذوي الحاجات ليست مقصورة على الإحسان المالي، بل تشمل كل أوجه الإحسان مما يوصل به الإنسان الخير إلى الناس، ويكف عنهم ما يسوؤهم؛ ابتداءً بالمشاعر القلبية التي تتمنى الخير لكل أحد؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : «لا يُؤمِنُ أحدُكُمْ حتَّى يُحِبَّ لأخيهِ ما يُحِبُّ لنفْسِهِ»[صحيح البخاري:ح13]، وكذلك بالمشاعر التي تنزل من القلب عندما ينزل بالإنسان مصاب فيتألم له، ويجد ألمًا لهذا المصاب الذي نزل بإخوانه، وإن كان هو في ذاته، أو في شأنه الخاص، أو فيمن حوله سليمًا؛ فإنه من خصال الإيمان؛ ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : «مَثَلُ المؤمنين في تَوَادِّهم، وتراحُمِهِم، وتعاطفهم كمَثَلِ الجَسَدِ إذا اشتكى منه عُضْوٌ تداعى له سائرُ الجسدِ بالحمَّى والسهرِ».[تقدم]
فعندنا فيما يتعلق بالمشاعر في حد ذاتها هي من الرابطة التي يترجم بها الإنسان الرحمة، يترجم بها الإنسان الشفقة، يترجم بها الإنسان المشاعر الإيجابية تجاه إخوانه، سواء بتمني الخير لهم، أو بالتألم لما ينزل بهم من المصائب؛ وبذلك يؤجر ولو لم يفعل شيئًا، مجرد قيام هذا الشعور في قلب الإنسان بمحبته الخير لإخوانه، وتألمه لما ينزل بهم من المصائب، هو في حد ذاته مأجور، أما ذاك الذي يتشفَّى بما نزل من الناس من المصائب، أو يتمنى لهم ما يكون من السوء والشر؛ فهذا آثم بمجرد ما قام في قلبه من هذه المشاعر الراسخة، ولو لم يترجم ذلك بعمل، بأن يذهب إلى أحد بسوء، أو أن يُلحق به شرًّا، بمجرد هذا الشعور المستقر في القلب يحصل به الإثم، وبمجرد وجود المشاعر الإيجابية يحصل الأجر، فإذا انتقل هذا الشعور الإيجابي إلى عمل وحركة ورغبة؛ كان ذلك موجبًا لعظيم الأجر، وكبير الفضل، لاحظ في الحديث الذي ذكرته أخي الكريم؛ حديث أبي هريرة في الصحيحين، وجاء عن غيره «السَّاعِي على الأَرْمَلَةِ والمسكينِ كالمجاهِدِ في سبيلِ اللهِ»، الساعي، من هو الساعي؟ هو القائم الذي يبذُل جهدًا، ويعمل على سد حاجات هذين الصنفين من أهل الحاجات؛ الأرملة: وهي المرأة التي لا زوج لها، أو التي تُوفي عنها زوجها، أو التي عطَّل زوجها حقوقها بأن أصبحت كامرأة لا زوج لها؛ كل هؤلاء يندرجون في الأرملة، إما حقيقة، وإما حكمًا، وكذلك المسكين، المسكين هو كل من أسكنته الحاجة ممن لم تفِ مكتسباته بما لديه من متطلبات وحاجات معيشية أساسية؛ هذا هو المسكين، الساعي على هذين هو في الأجر والمثوبة كالمجاهد في سبيل الله، لماذا قال: كالمجاهد في سبيل الله؟ ما الرابط بين الساعي على الأرملة والمسكين في سد حوائجهما، وقضاء متطلباتهما، وإنهاء معاناتهما، ما الرابط بينه وبين المجاهد في سبيل الله؟ إن هذا وذاك يشتركان في نفع الناس، فالمجاهد في سبيل الله ليس همه ولا غرضه إراقة الدماء، وإزهاق الأنفس والأرواح؛ فإن هذا مما يتنافى مع ما جاءت به الشريعة من حفظ الأنفس، وجعلها في القائمة العليا من المطلوب حفظه، بل هذا لأجل أنه يحيي الناس بتذليل كل ما يكون من العقبات لوصول النور إليهم بإحياء قلوبهم، بنشر هذا الدين المبارك الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان هذا يحيي القلوب، وهذا يحيي الأبدان، ويسد الحوائج، ويكف هذه الأنفس عن أن تنحدر إلى مستنقع الرذيلة تحت وطأة الحاجة، وتحت ضغط المتطلبات كان مشتركًا مع المجاهد في الأجر والمثوبة، بل بيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه يفوق حتى العابد الذي اشتغل بعبادة يصلح بها نفسه، فهو كالقائم لا يفتر، وكالصائم لا يفطر. القائم لا يفتر؛ أي: الذي يقوم الليل على ما جاء في فضائل قيام الليل من الأحاديث والأجور، هو كقائم الليل، وكذلك كصائم النهار، فهو الذي لا يفتر عن القيام في صلاته، والذي لا يفطر عن الصيام في نهاره، فهو على مرتبة عالية، لماذا؟ لما يقدمه من الخير والنفع المتعدي الذي يحصل به صيانة النفوس، إكرام الآدمي، منع انزلاقه في مهاوي الفساد، والشر، والضر بسبب الترمل، أو بسبب المسكنة.
المذيع:أحسن الله إليكم، وبارك الله فيكم، نتواصل معكم مستمعينا الكرام في هذه الحلقة المباشرة من برنامجكم: الدين والحياة، وحديثنا مستمر عن فضل السعي على الأرملة والمسكين، مع ضيفنا فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور: خالد بن عبد الله المصلح. فاصل قصير مستمعينا الكرام، بعده نعود لمواصلة هذه الحلقة، فتفضلوا بالبقاء معنا.
من جديد نحييكم، ونرحب بكم مستمعينا الكرام، نتواصل معكم في تقديم هذه الحلقة المباشرة من برنامجكم: الدين والحياة، وحديثنا مستمر عن فضل السعي على الأرملة والمسكين، مع ضيفنا فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور: خالد بن عبد الله المصلح. شيخ خالد، طبعًا بالتأكيد تحدثنا عن فضل السعي على الأرملة والمسكين، وبيَّنَّا ما رتب فيه هذا الدين الإسلامي الحنيف الكثير من الأجور العظيمة على مثل هذه الأعمال الصالحة، والتي فعلًا تدل على مدى الفضل العظيم الذي هو في ديننا الإسلامي الحنيف، وبالتأكيد فضله على سائر الأديان، وفضله على سائر الأعراف، والقيم، والملل، والنحل، وغيرها بأنه ندب إلى هذا العمل، وهو الذي يفترض أن نشهره بين الناس، ونعلم به الآخرين؛ هذا شيء جميل جدًّا، وكذلك أيضًا فيما يتعلق بالفضل الذي أوردتموه في هذه الحلقة، لكن ما هي الصور التي يمكن أيضًا أن يسعى بها الإنسان على مثل، أو في هذه الأعمال الصالحة لعل الإنسان أن يبادر ويباشر في تقديم هذه الأعمال قربة إلى الله –سبحانه وتعالى-، ولعله من المناسب أن نشيد أيضًا بما تقدمه جمعيات العون والمساعدة التي تضطلع بمثل هذه الأعمال، والأجور العظيمة التي تترتب على ما يقدمونه لهذه الأصناف، وهذه الفئات من الناس.
الشيخ:أخي الكريم، السعي على الأرملة والمسكين له صورتان:
الصورة الأولى: أن يبذل الإنسان من ماله ما يسد به حاجة الأرملة، وما يسد به حاجة المسكين؛ وهذه بالتأكيد أعلى الصور؛ وهي أن يبذل الإنسان من ماله ما يكفي به هذين الصنفين ومن هم في حكمهم في الحاجة، ومن هم أشد حاجة منهم؛ ولذلك جاء في بعض الروايات: «السَّعْي على الأرملةِ والمسكين»، والمسكين وصف واسع يشمل كل من كان ذا حاجة، سواء كان من الفقراء، أو كان من الأيتام، أو كان من الغارمين الذين مسَّتهم الحاجة، وأغرقتهم الديون، فلا يتمكنون من حوائجهم الأساسية؛ كل هؤلاء يدخلون في هذا المعنى.
إذن الصورة الأولى من السعي: بذل المال لسد حاجة ذوي الحاجات من الأرامل، والمساكين، والفقراء، والأيتام، وغيرهم.
الصورة الثانية من السعي على هؤلاء: هي أن يبذل جاهه وجهده في كفاية هؤلاء ولو لم يكن من ماله، فإن الإنسان قد لا يملك من المال ما يسد به حاجة غيره، ففي هذه الحال يمكنه أن يشارك في هذا الخير، وفي هذا البر من طريق السعي بالجهد، أو الجاه؛ من أصحاب الجاه بأن يشفع لدى ذوي الأموال في سد حاجات ذوي الحاجات، أو يكلم ذوي الأموال في سد حاجات ذوي الحاجات؛ هذه صورة، الصورة الثانية: أن يسعى ذلك بجهده إما بأن يقضي حوائجهم التي تحتاج إلى جهد بدني؛ لأن الجهد البدني المبذول في قضاء حوائج هؤلاء أيضًا مما يؤجر عليه.
وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي ذر لما سأله: أي العمل أفضل؟ قال: «إيمانٌ باللهِ وجهادٌ في سبيلِه» قلت: فأي الرقاب أفضل؟ قال: «أغلاها ثمنًا وأنفسُها عندَ أهلِها». قلت: فإنْ لم أفعلْ. يعني: إن لم أبذل مالًا في عتق الرقاب، أو غير ذلك من أوجه الخير، قال: «تُعِينُ صانعًا» هذا بذل جهد، بذل عمل، وهو من السعي، «أو تصنَع لِأَخْرقَ»[صحيح البخاري:ح2518]؛ أي: تعين مَن لا يحسِنُ الصناعةَ في تحقيق غايته والوصول إلى مطلوبه.
فهذه صورة من الصور التي ذكرها النبي -صلى الله عليه وسلم- في إعانة الآخرين، كذلك جاء في حديث أبي موسى الأشعري في صحيح الإمام البخاري، كذلك في صحيح الإمام مسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «على كلِّ مسلمٍ صَدَقَةٌ»؛ يعني على كل مسلم إحسان لازم يحصُل له به الخير، ينتفِع به، قيل لما قال: «على كلم مسلم صدقة» قيل له: يا رسول الله، أرأيت إن لم أجد؛ يعني ما كان عندي شيء أتصدق به؛ لأن عندما تطلق الصدقة في الغالب ينصرف الذهن إلى العطاء المالي، مع أن المعنى أوسع من ذلك، قال -صلى الله عليه وسلم- : «على كلِّ مسلمٍ صدقةٌ» فقالوا: يا نبي الله، فمن لم يجد؟ يعني مالًا يتصدق به، قال:«يَعمَلُ بيدِه، فيَنفَعُ نفسَه ويتصدَّق» يعني يكتسب حتى يغني نفسَه، وأيضًا يبذل شيئًا من كسبه لغيره. قالوا: فإن لم يجد؟ يعني إذا ما وجد عملًا، ما وجد وظيفةً من خلالها يكتفي في نفسه، ويكفي غيره بالصدقة، أو يعين غيره في بعض الكفاية بالصدقة، كيف يسوي؟ هل ينسد عنه باب الصدقة وباب الإحسان، قالوا للنبي -صلى الله عليه وسلم- : فإن لم يجد؛ يعني ما يعمل به لأجل أن يكتسب ويتصدق، قال: «يُعِين ذا الحاجةِ الملهوفَ»؛ الإعانة البدنية التي يعين بها أصحاب الحوائج هي مما يتصدق به الإنسان، وينال به أجرًا من الله عزَّ وجلَّ، ولذلك قال: «يُعِينُ ذا الحاجةِ الملهوفَ» قالوا فإن لم يجد؟ قال:«فْليَعمَلْ بالمعروفِ، ولْيُمْسِكْ عن الشرِّ؛ فإنها له صَدَقَة».[صحيح البخاري:ح1445، وصحيح مسلم:ح1008/55]
إن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يترك بابًا مغلقًا في وجه من يريد الخير بوجه من الوجوه، فالسعي على الأرملة والمسكين يكون ببذل المال في كفاية الحاجات، وتولي ذلك بالنفس، أو ببذل المال للجهات التي تتولى هذا من الجهات الخيرية، أو جمعيات البر، أو أصحاب الإحسان الذين لهم عمل وجهد في سد حاجات ذوي الحاجات، فإن كان الأمر غير متيسر بهاتين الصورتين من صور السعي، فليسعَ بنفسه.
السعي بالنفس بمعنى: بالجهد في قضاء حوائج هؤلاء بالشفاعة لذوي الحاجات عند أصحاب الأموال لسد حاجاتهم، وما إلى ذلك من أوجه السعي البدني والجاهي الذي يتحقق به شيء من إعانة الأرامل، وإعانة المساكين والأيتام، ومن في حكم من ذوي الحاجات، على سبيل المثال عندما يراجَع شخص في حق يتيم، أو في حق أرملة لقضاء حاجاتها في دوائر حكومية، أو في جهات تحتاج إلى مراجعة؛ هو مما يندرج في السعي على الأرملة والمسكين الذي قال به النبي -صلى الله عليه وسلم- : «كالمُجاهِدِ في سبيلِ اللهِ» وأحسبه قال:«كالقائمِ لا يفتُرُ، وكالصائمِ لا يُفطِرُ».
المذيع:جزاكم الله خيرًا، وأحسن إليكم، وبارك الله فيكم، وهذه أيضًا لعلها رسالة تصل إلى أولئك الذين انتهجوا مؤسسة العمل الخيري، وجعلوه بإذن الله له ضمان الاستمرارية، وكذلك أيضًا وفرة العطاء، وهذه من الأمور التي تُشكَر لأولئك الذين سعَوا في إنشاء هذه المؤسسات وتلك الجمعيات التي يُرجَى بإذن الله دوام استمرار نفعها، ونسأل الله لهم التوفيق والنجاح.
شيخ خالد، شكر الله لكم، وبارك الله فيكم وفي علمكم، وبارك الله لكم فيما تفضلتم به في هذا الحديث الماتع في هذه الحلقة من برنامج: الدين والحياة.
الشيخ:آمين، وأسأل الله تعالى أن يستعملنا وإياكم في طاعته، وأن يوفقنا إلى القيام بحقه، والإحسان إلى عباده، وأن يجعلنا من أبواب الخير ومفاتيحها، وأن يجعلنا من الموفَّقين لما يحب ويرضاه، كما أسأله -جلَّ وعلا- أن يوفق ولاة أمورنا إلى ما يحب ويرضى، وأن يسددهم في الأقوال والأعمال، وأن يحفظ هذه البلاد من كل سوء وشر، وأن ينصر جنودنا المقاتلين، وأن يعينهم، وأن يسددهم، وكذلك يحفظ رجال أمننا من كل سوء وشر، كما أسأله أن يعمَّ الخير بلاد الإسلام، وأن يؤلف بين القلوب، ويصلح ذات البين، صلى الله وسلم على نبينا محمد. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.