المذيع: كما يسرني - مستمعينا الكرام - في بداية هذا اللقاء أن أرحب بضيفي وضيفكم الدائم في هذا البرنامج، صاحب الفضيلة؛ الشيخ الأستاذ الدكتور: خالد بن عبد الله المصلح؛ أستاذ الفقه بكلية الشريعة في جامعة القصيم، المشرف العام على فرع الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء في منطقة القصيم، السلام عليكم ورحمة الله، أهلًا وسهلًا بكم شيخ خالد.
الشيخ: مرحبًا بكم، حياكم الله، وأهلًا وسهلًا بالجميع، نسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد.
المذيع: اللهم آمين، أهلًا بفضيلة الشيخ، وأهلًا بالمستمعين والمستمعات الذين معنا في هذه الحلقة يستمعون إلى هذه الحلقة، ونسعد دائمًا وأبدًا بتواصلهم معنا والاستماع إلى حلقات هذا البرنامج.
حديثنا مستمعينا الكرام، وموضوع حلقتنا في هذه الحلقة عن منهج الإسلام في محاربة الفساد، يمكنكم مشاركتنا بالتواصل، والاتصال على الرقم: 0126477117،0126493028
أما الذين يريدون مراسلتنا عبر الواتساب فيمكنهم ذلك بالإرسال على الرقم:0500422121
وكذلك للمغردين يمكنهم مشاركتنا في هذه الحلقة على هاشتاج البرنامج: "الدين والحياة" على تويتر.
إذن على بركة الله نبدأ هذه الحلقة مستمعينا الكرام، في بدئها ربما نجلي بعضًا من المعاني التي تندرج تحت هذا المفهوم الكبير؛ مفهوم أو مصطلح "الفساد"، وكذلك أيضًا نأتي على منهج هذا الدين الإسلامي الحنيف في محاربة هذه الآفة الخطيرة.
مستمعينا الكرام، لقد هذب الإسلام أتباعه، وردع أسباب الفساد بما في ذلك من فرض لتعاليم شرعية، ونظمٍ أخلاقية تحمي المجتمع وتصونه من أسباب الفساد والانحراف، فهذا الإسلام الحنيف يدعو إلى قيم الخير، والصلاح، ونبذ الشر، والقضاء على المنكرات.
شيخ خالد، عندما نتحدث عن هذا الموضوع؛ لعله من المناسب أن نأتي إلى مقدمة هذه الحلقة، أو نأتي على تعريف لمفهوم الفساد من منظورٍ شرعي، ثم كذلك أيضًا نأتي إلى ما يتعلق بأنواعه، وأسبابه.
الشيخ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المذيع: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
الشيخ: تحية لك أخي عبد الله، وللإخوة المستمعين، والأخوات المستمعات، وأسأل الله - تعالى - أن يجعل هذا اللقاء لقاءً نافعًا مباركًا.
الله - جلَّ في علاه - خلق الخلق، وجعل لهم من الشرائع والأحكام ما تصلح به أمورهم، وتستقيم به أحوالهم، ويحققون به سعادة الدنيا التي هي مفتاح سعادة الآخرة، ولذلك كان الفساد هو محور دعوة الرسل من حيث محاربته، ومن حيث إصلاح ما يمكن أن يكون من الأعمال التي تحقق صلاح الناس، وإنَّ نبينا محمدًا –صلى الله عليه وعلى آله وسلم - ترجم ما جاء به في كلمات مختصرات، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّما بُعِثتُ لأُتَمِّمَ صَالحَ الأَخْلاقِ»[أخرجه أحمد في مسنده:ح8952، وقال الحاكم في مستدركه(ح4221):صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي]، وصالح الأخلاق بالتأكيد أنَّه أعظم ما يحاصر الفساد، أعظم ما يلغي في حياة الناس كل ما يكرهونه من العسرات التي تكون سببًا لتعسر معاشهم، وفساد دنياهم؛ ولهذا كانت الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - يدعون الخلق إلى صلاح ما بينهم وبين الله - عزَّ وجلَّ - بإقامة الحقوق التي جعلها الله - تعالى - عبادة له؛ أي: عبادته وحده لا شريك له؛ وهذا في المرتبة الأولى.
ومن لوازم هذا الصلاح بين العبد وربه: أن يصلح ما بينه وبين الخلق. وصلاح ما بين الإنسان وبين الخلق لا يتحقق إلَّا بمحاربة الفساد، ومحاصرته؛ ولهذا جاءت النصوص جليةً واضحةً في الخبر عن خطورة الفساد، وبيان بغض الله - عزَّ وجلَّ - له، وقد أخبر - جلَّ وعلا - في محكم كتابه، في مواضع عديدة أنَّه لا يحب المفسدين، فذكر ذلك –جلَّ وعلا - فيما يتعلق بالفساد الاعتقادي، وفيما يتعلق بالفساد العملي، قال الله - جلَّ وعلا -: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ﴾ [آل عمران: 63]، وعلمه بالمفسدين - جلَّ وعلا - في هذه الآية هو فيما يتعلق بفساد الاعتقاد؛ لأن الله - تعالى - قال: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [آل عمران: 62]، ثم بعد ذلك قال: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾؛ يعني عما جاءت به هذه الأخبار من الدلالة على عبادة الله وحده لا شريك له، وإقامة حقه ﴿فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ﴾[آل عمران:63]؛ وهذا تهديد لأهل الفساد أن يحيق بهم ما يكون من أسباب الهلاك في الدنيا والآخرة.
وبيَّن - جلَّ وعلا - كرهه للمفسدين فيما يتعلق بأمر الناس في معاشهم، فقال –تعالى -: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ﴾ [القصص: 77]؛ وهذا خطاب لقارون الذي فتح عليه في الأموال وأصنافها ما فتح، قال الله - تعالى -: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ ، ثم يحذر أصحاب الأموال من الفساد فيقول: ﴿وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ [القصص: 77]
وقد أخبر الله - تعالى - في كتابه عن عواقب وخواتيم أهل الفساد التي تحذر من هذا المسلك، وتنهى عن التورط فيه، فمن ذلك على سبيل المثال فيما يتعلق بأذية الخلق، والتعدي على حقوقهم؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ﴾، استكبر على الخلق في الأرض ﴿وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [القصص: 4]
ويقول - جلَّ وعلا -: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾ [النمل: 14]
وبيَّن - جلَّ وعلا - أنَّه لا يصلح عمل المفسدين مهما كان المفسد يسعى إلى استقامة حاله بما يقارفه من الفساد، سواء كان الفساد فيما يتعلق بحق الله، أو فيما يتعلق بحق الخلق، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [يونس: 81]
فكل مفسد مهما حقق بفساده من نتائج ومكاسب، فإن الله -تعالى- لا يصلح عمله، بل لا بد من عاقبة وخيمة تكون له في الدنيا، وتكون له في الآخرة، فيكون ما جمعه من مال، وما تورط فيه من فساد اعتدى فيه على حقوق الخلق، أو على حقوق الخالق وبالًا عليه، وإليك هذا المثال الذي ذكره الله - تعالى - في أعظم المفسدين على مر التاريخ؛ فرعون، قال: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا﴾ [الأعراف: 103]؛ أي لم ينفعلوا، ولم ينتفعوا من الآيات التي نهتهم عن الفساد، والبراهين التي أمرتهم بالعدل، قال -جلَّ وعلا-: ﴿فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾ [الأعراف: 103]؛ أي: انظر كيف انتهى أمرهم، وصار حالهم، وكيف كانت خاتمتهم.
ويذكر الله - تعالى - كذلك لسوء الخاتمة للمفسدين في أمر الأموال في قصة شعيب، يقول - تعالى -: ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف: 85]؛ وهذا أصل الإصلاح، وأصل كل فلاح في الدنيا والآخرة؛ إقامة حق الله، ﴿قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ [الأعراف: 85]
بعد ذلك يقول فيما يتم به صلاح حال الإنسان بعد صلاح حاله فيما بينه وبين ربه، يقول - جلَّ وعلا -: ﴿فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ﴾ [الأعراف: 85]؛ فكل هذا فساد مال اقتصادي ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾[الأعراف: 85]؛ فجعل كل ما تقدم من صلاح مالي، ومحاربة الفساد بنقص المكاييل والموازين، وبخس الناس حقوقهم، والإفساد في أموال الناس؛ جعل ذلك من خصال الإيمان، فقال -تعالى-: ﴿ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾[الأعراف: 85]، ثم قال -تعالى-: ﴿وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا﴾[الأعراف: 86]، ثم يقول: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ﴾[الأعراف: 86]؛ أي: منَّ عليكم بما أوجب كثرتكم من وفرة الأموال، وسلامة الأبدان، وصحتها، وكثرة الأبناء، وكذلك الظهور على الأعداء، قال: ﴿إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ﴾[الأعراف: 86]، ثم يذكر الله - تعالى - بعواقب المعتدين، قال: ﴿وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾[الأعراف: 86]؛ هذا يبيِّن أنَّ الصلاح الذي جاءت به الشريعة هو محاربة للفساد في كل صوره فيما يتعلق بصلة الإنسان بربه، وفيما يتعلق بصلته بالخلق؛ كلا هذين النوعين من الفساد مما جاءت الشريعة بمحاربته.
ولذلك لا يستقيم أمر الناس إلَّا بصلاح حالهم فيما يتعلق بحق الله، وفيما يتعلق بحق الخلق، وفيما يتعلق بأمر الدين، وفيما يتعلق بأمر الدنيا؛ كلاهما مما جاءت الشريعة بإصلاحه والدعوة إلى محاصرة كل ما يكون من أوجه الفساد.
ولهذا من الضروري أن يعلم المؤمن أنَّ الفساد نقصٌ في الدين، وفساد في الدنيا، وعسرة في الآخرة.
وبهذا يتبيَّن لنا أنَّ الفساد الذي حرمته الشرائع لا يختصر على جانب من جوانب المال، أو جوانب الحياة، إنما يشمل كل ما يكون من شأن الإنسان في صلته بالله - عزَّ وجلَّ - وفي صلته بالخلق.
ويختصر هذا ما ذكره الله - تعالى - في قصة شعيب؛ لأن شعيبًا -عليه السلام - جاء فدعا الناس إلى إصلاح المكاييل والموازين، وعدم بخس الأموال فيما ذكره الله - تعالى - في الآيات التي ذكرنا شيئًا منها في سورة الأعراف، وفي سورة هود جاء البيان المكتمل لدعوة شعيب لشمولها؛ صلاح المعاش، وصلاح المعاد، وصلاح الدنيا، وصلاح الدين، يقول الله - تعالى -: ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [هود: 84]؛ وهذا أصل كل صلاح في الدنيا والآخرة، ثم يقول: ﴿وَلَا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ﴾ [هود: 84]؛ يعني الله رزقكم، وأعطاكم، فلماذا تتورطون في فساد نقص المكاييل والموازين؟! وهذا موجب للعقوبة؛ ولذلك يقول: ﴿وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ﴾ [هود: 84]، ثم يعود ويذكر بما يجب عليهم تجاه أمرهم الاقتصادي، ويقول: ﴿وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ﴾ [هود: 85، 86].
فماذا كان رد الملأ المستكبرين، المفسدين، الذين يقتاتون ببخس المكاييل، وهضم حقوق الناس ﴿قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا﴾ [هود: 87]؛ فذكروا أولًا ما يتعلق بحق الله، فأنكروا أن يعبدوا الله وحده لا شريك له، ﴿أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ﴾ [هود: 87] يعني دينك يمنعنا أن نفعل في أموالنا ما نشاء من الإجحاف، وأخذ ما نريد، والتصرف كيفما نحب.
قالوا له مستهزئين: ﴿إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ﴾[هود: 87]؛ فكيف يكون هذا منك أن تمنعنا من أن نعبد غير الله، أو نتصرف في أموالنا كما يحلو لنا، فرد عليهم جوابًا محكمًا يبيّن عظيم ما جاءت به الرسالات من إصلاح أمر الدنيا ومحاربة المفسدين، قال: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي﴾[هود: 88]؛ يعني جاءتني شريعة وهدى ووحي من الله يدلني على الخير ﴿وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا﴾[هود: 88]؛ فأنا لم آمركم بذلك ولم أحارب الفساد لأجل أن لي مصلحةً من هذا، أو لأجل أنِّي أريد أن آخذ بعض ما في أيديكم، إنما ذاك عن حسن قصدٍ، وإرادة خير لكم؛ ولهذا يقول: ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ [هود: 88]
فخلاصة هذه النصوص، وهذا القصص القرآني العظيم: أنَّ الشريعة جاءت بإصلاح ما بين الناس وبين الله - عزَّ وجلَّ -، فمنعت من الفساد كله؛ من الشرك، والنفاق، والمعاصي، وفي إصلاح ما بين الناس في علاقاتهم في أداء الحقوق؛ ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ [النساء: 58].
وجاءت بجانب مهم من جوانب الإصلاح الذي لا يتحقق صلاح معاش الناس إلَّا به؛ وهو الجانب المالي، بحفظ الأموال، ورعايتها، وصيانتها من الفساد، فإن ذلك من حقوق الإصلاح العاجلة التي بها يصلح معاش الناس ومعادهم.
المذيع: أحسن الله إليكم، بارك الله فيكم شيخنا، ونرحب بكل المستمعين والمستمعات الذين يستمعون إلينا في هذه الحلقة، وموضوعنا عن: منهج الإسلام في محاربة الفساد، يمكنكم الاستبيان والتواصل معنا على الرقم: 0126477117
والرقم الثاني: 0126493028
رقم الواتساب: 0500422121
وكذلك بالتغريد على هاشتاج البرنامج: الدين والحياة على تويتر.
أستأذنك شيخ خالد في فاصل قصير، وبعده نعود لمواصلة هذه الحلقة وموضوعنا اليوم: منهج الإسلام في محاربة الفساد، وأنتم كذلك مستمعينا الكرام فاصل قصير نعود بعده إليكم بمواصلة هذه الحلقة فتفضلوا بالبقاء معنا.
من جديد نرحب بكم ونحييكم، ونتواصل معكم في هذه الحلقة المباشرة من برنامجكم: الدين والحياة مع ضيفنا فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور: خالد بن عبد الله المصلح.
عندما تحدثنا شيخ خالد عن هذا الموضوع أتينا لنقدم جميلات أتيتم فيها بالعديد من النصوص الشرعية التي توضح مفهوم هذا المصطلح من خلال الشريعة، وكذلك أيضًا جلينا كثيرًا من النقاط التي تحتاج إلى توضيح في هذا الجانب، وربما إذا كان بالإمكان أن نتحدث أيضًا عن بعض الصور التي يكون فيها هذا الفساد متمثلًا في عدد من الصور، لعله من المناسب أن نسرد هذه الصور، لكن بعد أن نأخذ بعض الاتصالات، وبعد ذلك أيضًا نأتي إلى هذه الصور، وما يتعلق أيضًا بما جاء في هذه الصور من آيات تحرمها، وتحذر المسلمين من التعامل بها.
شيخ خالد، الاتصال الأول معنا من الأخ: عبد العزيز الشريف، تفضل عبد العزيز.
سائل: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، حياكم الله.
المذيع: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
سائل: أحييك، وأحيي فضيلة الشيخ، بارك الله فيك، بالنسبة إلى الفساد والمفسدين: النبي - صلى الله عليه وآله سلم - كان يتعامل معهم معاملة الستر؛ بمعنى أنهم ما يفضحون على الملأ؛ ولهذا النبي -صلى الله عليه وسلم - يقول: «ما بال أقوام».[في غير ما موقف ورد صنيعه هذاr، ومنه قوله:«مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي صَلاَتِهِمْ»: صحيح البخاري:ح750]
الآن في التواصل الاجتماعي نجد التشديد بالأقوال، وبالناس وبذكر أسمائهم، ما هو دور الإسلام في هذا الأمر، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ما بال أقوام؟»؛ يعني ما يفضح الأسماء، ولأن الاسم ما له دعوة، المهم أنَّ هذا غضب عليه في قضية الإفساد، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يعمم؛ ولهذا نرجوا من الشيخ أن ينصح الناس، أن ينصح بجانب التواصل الاجتماعي، عدم التشهير بالآخرين، عدم الاعتداء على حرماتهم في بيوتهم مع أولادهم، هذا والله لا يرضاه الإسلام، وليس على هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
السؤال الثاني: النبي - صلى الله عليه وسلم - بيَّن أن الأخذ من الغنيمة غلول، المال العام هذا، هل لكل أحد أن يأخذ منه؟ وهل من أخذ من المال العام يسمى غلولًا، وجزاكم الله خيرًا، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المذيع: شكرًا لك، لعل السؤال الثاني للأخ: عبد العزيز يا شيخ خالد يأتي في إطار ما كنا نتحدث فيه، أو كنا سنتحدث عنه في هذه الدقائق، وخاصة وأن هناك كثيرًا من الصور التي ورد التحذير منها في الشريعة المطهرة، ومنها: استغلال الوظيفة، أو السلطة، وكذلك أيضًا تعطيل الأحكام، أو الاختلاس، أو الرشوة، أو كذلك أيضًا المحاباة، أو المجاملات التي تخالف الأنظمة، وكذلك أيضًا عدم احترام وقت العمل بالإضافة إلى ضعف الإنجاز، والالتزام بالأمانة وخيانتها؛ يعني كثير من الصور التي وردت يا شيخ خالد في الشريعة المطهرة مما يكون واضحًا أمام المسلم ولا يجعل له أي عذر في سلوك أي مسلك من هذه المسالك الخبيثة التي حُذِّرنا من السلوك فيها والتعامل بها.
الشيخ: يا أخي، في بادئ الأمر الفساد المتعلق بالمال له جانبان: جانب يتعلق بالفساد في المال الخاص، وجانب يتعلق بالفساد في المال العام.
المتعلق بالمال الخاص: هو شامل لكل مخالفة من المخالفات التي نهى عنها الشارع، سواء كان ذلك بإضاعة الأموال، سواء كان ذلك بكسبها من طرق حرام، سواء كان ذلك بحجزها ومنع المستحقين لها من أهل الاستحقاق؛ من يجب عليه أن ينفق عليهم؛ كل هذه صور مما يتعلق بالفساد في المال الخاص.
والشريعة نهت عن هذا وبيَّنت خطورته، وعلى سبيل المثال في منع ما يجب من زكاة المال في الأموال التي تجب فيها الزكاة، قال الله - تعالى-:
﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ﴾ [التوبة:34، 35].
هذا فيما يتعلق بصورة من صور ما جاء في الشريعة، فيما يتعلق بالفساد في المال الخاص، أما الفساد في المال العام فالنصوص فيه كثيرة.
أولًا: ما هي مظاهر الفساد في المال العام؟ الفساد في المال العام، لقد ذكرت في سياق حديثك قبل قليل عدة صور؛ أربع صور من صور الفساد في المال العام: المحسوبيات، استغلال الممتلكات العامة في غير ما جُعلت له، استغلال النفوذ لتحصيل منافع، سواء كانت المنافع مالية، أو كانت المنافع معنوية، سواء كان في خدمات، أو كان في سلع، عدم الالتزام بمقتضيات الوظيفة من الحقوق، سواء فيما يتعلق بمواعيد الدوام، أو أداء المهام المناطة به، طلب تقاضي مال زائد على المال الذي يأخذه الإنسان لأداء المهمة التي أنيطت به، وهذا سواء أخذ تحت مسمى مكافأة، أو مسمى إكرامية، أو مسمى رشوة، أو بأي اسم من الأسماء التي تسمى.
أيضًا من أوجه الفساد العام: ألا يختار الإنسان في المشاريع وفي الأعمال ما هو من مصلحة العمل، سواء كان ذلك في التوظيف، أو كان ذلك في إرساء المشاريع، أو كان ذلك في سائر ما يتعلق من التصرف في المال العام.
التصرف في المال العام ينبغي أن يكون مبنيًّا على مصلحة المال، لا على تشهي ورغبة المسؤول؛ ولهذا من المهم أن يُفهم هذا المعنى حتى يعرف ما الذي يدخل في الفساد مما لا يدخل، وفي كثير من الأحيان ترد أسئلة من بعض المستفتين عن بعض صور المعاملات، أو بعض صور التصرفات في الوظائف، وفي المال العام، الجواب عنها ليس عند المفتين حقيقة؛ لأن المفتي يجيب جوابًا عامًّا، إنما الجواب عنها بالرجوع إلى النظام؛ لأن النظام بمثابة العقد الذي بين الإنسان وبين الجهة التي يعمل عندها، وهي جهة لها تنظيمات، وتعطي صلاحيات، فكل من تجاوز هذه الصلاحيات، أو خرج عنها بوجه من الوجوه بما يخالفها دون أن يكون له صلاحية التصرف، فإنه عند ذلك يكون قد وقع في صورة من صور الفساد؛ ولهذا بعض الناس على سبيل المثال حتى نطبق هذا على أرض الواقع يسأل: إن مديري منحني انتدابًا، وأنا لم أخرج في انتدابٍ، إنما منحني إياه؛ لأن بند الانتدابات فيه وفرة، وبالتالي المسؤول لا يرغب في إرجاعه إلى الجهة الصارفة المانحة للمال في وزارة المالية، أو أي جهة أخرى، إنما يريد أن يستنفذ هذا بصرفه في أي وجه من الأوجه قبل رجوعه حتى يفيد الموظفين، فيسأل: هل يجوز، أو لا يجوز؟ الجواب عن هذا اسأل نزاهة؛ وهي الجهة المسؤولة عن تحديد ما هو فساد مما ليس فسادًا، هي الجهة التي تجيبك عن مثل هذه الأسئلة؛ لأن كل ما عدته نزاهة، أو الجهات الرقابية، أو النظام فسادًا فإنه يتطلب ويقتضي أن يبتعد عنه الإنسان، وأن يتجنبه، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد شدد في أمر الفساد فنهى عنه نهيًا مؤكدًا في نصوص عديدة.
فالتحذير مثلًا من الغلول هو تحذير من كل أكل للمال العام بغير حق، وقد قال النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -: «لا يَقبَلُ اللهُ صَدَقَةً من غلولٍ»[صحيح مسلم:ح224]. وهذا بيان أن هذا المال الذي يكتسبه الإنسان لا ينفعه حتى فيما إذا صرفه في أوجه البر والخير؛ لأن بعض الناس يقول: أنا آخذ وأنفع وأستنفع كما يقول بعض الناس، ونقول له: هذا ليس نفعًا مقبولًا، ولا تصرفًا مأذونًا فيه، بل إن ذلك شؤم عليك في الدنيا والآخرة.
وقد جاء في الصحيحين في حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام في أصحابه، انظر هذاك اليوم الذي فيه الناس على قلة ذات اليد، وليس عندهم من الأموال ما عندنا، إنما أموال محدودة ومقدرة؛ يعني يظهر الأمر في الأمثلة التي ذكرها النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذ قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم، فذكر الغلول فعظمه؛ يعني بيَّن خطورته، وعظم أمره؛ أي شؤم التهاون فيه سواء في أمر الدنيا، أو في أمر الآخرة، ثم قال: «لا أُلفِينَّ أحدَكُم يجيء يومَ القيامةِ على رقبتِه بعيرٌ له رُغاء، يقول: يا رسولَ الله، أغِثني، فيقول: لا أملِكُ لك شيئًا، قد أبلغتُك، لا أُلفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرسٌ له حَمْحَمة، فيقول: يا رسول الله أغِثني، فأقول: لا أملِكُ لك شيئًا». هذه الأمثلة، حتى قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا أُلفِينَّ أحدَكم يجيءُ يومَ القيامةِ على رقبتِه شاةٌ لها ثُغاء، يقول: يا رسولَ اللهِ أغِثني» ويتدرج - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - في ذكر أنواع الأموال الشائعة في زمانه، ولو دقَّت فيقول: «لا أُلفين أحدَكم يجيءُ يومَ القيامةِ على رقبتِه رِقاعٌ تَخفِقُ»؛ يعني: قمصان أو ثياب، أو نحو ذلك، «فيقول: يا رسولَ اللهِ أغِثني»[صحيح البخاري:ح3073]؛ وهذا التحذير النبوي يبيِّن خطورة المال العام، وأنَّ المال العام دقيقه وجليله يجب على كل من تولى شأنًا في المال العام، أو كان تحت تصرفه شيءٌ من المال العام أن يحذر الله - جلَّ وعلا -، فإن خفي عن الناس فإنَّه لا يخفى عن الله عزَّ وجلَّ.
وثانيًا: أن يحذر ما يمكن أن يجرى عليه من فضائح في الدنيا بالعقوبات التي تجري عليه بسبب ما يكون من عقوبات، ومن العقوبات ما أشار إليه الأخ: التحذير العام، ومنه أيضًا التشهير، والأخ عبد العزيز ذكر أنَّ بعض الناس يتحدث بأسماء بعض من تورط في الفساد، وأن هذا خلاف المنهج النبوي الذي ذكره في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما بال أقوام»
النبي - صلى الله عليه وسلم - في المعالجة كان له مسلكان:
المسلك الأساس والأصل: هو التحذير من الخطأ بغض النظر عن فاعله «ما بال أقوام؟»، لكن قد تقتضي المصلحة في حوادث معينة ووقائع معينة أن يسمى صاحب الخطأ لإصلاح خطئه، لكن ذلك فيما إذا كان الخطأ محققًا، وقد صدرت التسمية من جهة مسؤولة، أما إذا كانت خرفًا، وتخمينًا، ورميًا بالظنون، ورجمًا بالغيب؛ فهذا بالتأكيد غير مقبول.
جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث عبد الله بن عباس أنه قال: لما كان يوم خيبر أقبل نفر من صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم - فقالوا: فلان شهيد؛ يعني يعدون من مات من أصحابهم في تلك الواقعة يوم خيبر. فلان شهيد، فلان شهيد، والنبي - صلى الله عليه وسلم - ساكت حتى مروا على رجل فقالوا: فلان شهيد، فسموه، فقال رسول الله - صلى الله عيه وسلم -: «كلَّا»، توقف النبي - صلى الله عليه وسلم - فتعقب أصحابه فقال: «كلَّا»؛ أي ليس شهيدًا «إنِّي رأيتُه في النارِ في بُردةٍ غَلَّها، أو عباءةٍ غَلَّها»[114/182] الله أكبر، النبي - صلى الله عليه وسلم - حذر من هذا الفعل بتسمية الشخص نفسه بقوله: «كلَّا إنِّي رأيتُه»، فهو يتكلم عن شخص معين في النار، وما هو سبب عقوبته بالنار؟ أنه غلَّ بردة، أو عباءة، على قِلَّتها وضآلتها، كانت موجبة لدخوله النار.
وفي الحديث الآخر: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر عن رجل كان يعمل بالمجاهدة في سبيل الله، حتى قتل فيما يظهر للصحابة أنَّه قتل في سبيل الله، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الشَّملةَ التي غلَّها» شملة؛ وهي قطعة من القماش يسيرة «تَشتعِلُ عليه في قبرِهِ»[صحيح البخاري:ح4234]؛ وهذا يدل على خطورة الأمر، وأنَّ الواجب على كل من وليَ أمرًا من أمور الناس في الأموال العامة أن يأتي بكل ما يجب عليه من نصحٍ، وحفظٍ، وصيانة، فيكون حفظه للمال العام أشد من حفظه لماله.
وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في تعقيبه على حادثتين:
الحادثة الأولى: حادثة الرجل الذي بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمل من الأعمال، فلما جاء العامل وقد فرغ من عمله قال: "يا رسولَ اللهِ هذا لكم". هذا الذي جئت به لكم، "وهذا أُهدي إليَّ". يعني هذا أعطيته، ميز الرجل بين الذي له هدية، والذي حصل من سعيه وكسبه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - معقبًا على هذا: «ألا قعدتَ في بيتِ أبيك وأمِّك فنظرتَ أيُهدَى لك أم لا!» ثم قال - صلى الله عليه وسلم - عشيةً بعد الصلاة، تشهَّد وأثنى، النبي قوَّم الرجل، وبيَّن خطأ كلامه، لكن للبيان العام تشهد، وحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: «ما بالُ العاملِ نَستعمِلُه» أي في عمل من أعماله، «فيَأْتِينَا فيقولُ: هذا من عَمَلِكم، وهذا أُهدِيَ إليَّ، أفلا قعَد في بيتِ أبيه وأمه فنظر هل يُهدى له أم لا!» ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: «فوالذي نفسِي بيدهِ، لا يَغُلُّ أحدُكم شيئًا إلَّا جاء به يومَ القيامةِ يحمِلُه على عُنُقِه، إنْ كان بَعيرًا جاء به له رُغاءٌ، وإن كان بقرةً جاء بها ولها خوارٌ، وإن كانت شاةً جاء بها تعير، فقد بلغتُ».[صحيح البخاري:ح2597] الحديث في البخاري، وهو يبيِّن أنَّ كلَّ من اكتسب شيئًا من المال أو الخدمات بسبب ولايته، بسبب وظيفته، بسب عمله، من غير جهة العمل، فهو غلول؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في هذه القاعدة الجلية الواضحة: «ألا قعدتَ في بيتِ أبيك وأمكَ فنظرتَ أَيُهدَى إليكَ أم لا».
وينبغي لكل من تولى مالًا من أموال الناس أن يجتهد في تنقية نفسه من أن يتورط في أخذ شيء ولو كان دقيقًا، وإليك هذا الحديث الذي رواه الإمام مسلم من حديث عَدِي بن عَميرة الكِندي، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ»؛ يعني من الأعمال العامة، «فَكَتَمَنَا مِخْيَطًا»، مخيط؛ يعني الذي تُرتق به الشقوق «فكَتَمَنَا مِخْيَطًا» إبرة «فكتمنا مِخيطًا فما فوقَه»؛ يعني فما دونه، أو أعلى منه «كانَ غُلُولًا يَأتِي به يومَ القِيامَةِ»[صحيح البخاري:ح1833/30]؛ ولهذا ينبغي للمؤمن أن يتحرَّى في الدقيق والجليل فيما يتعلق بالمال العام.
وبعض الناس يتهاون، يقول: ما أخذت شيئًا، أخذت فقط شيئًا بسيطًا، ويستخف بما أخذ، ومن أخذ القليل غدًا سيأخذ الكثير؛ لأن الذي أخذ القليل فهذا هو طاقته وهذا قدرته، فلو تمكن أن يأخذ أكثر من هذا لأخذ، لكنه لم يستطع إلَّا هذا، فلذلك أخذ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «مَنِ استعملناهُ مِنكم على عَمَلٍ فكَتَمَنا مِخْيَطًا فما فوقَهُ، كان غُلُولًا يأتي به يومَ القِيَامةِ».
ولهذا من الضروري أن يتحرى الإنسان في المال العام؛ في مال الدولة، وبعض الناس يظن أن مال الدولة مال كلأ؛ مباح، وأنه يغرف من بحر، وأنه قد يوجد لنفسه أنواعًا من التبريرات الكثيرة التي يبرر بها خطأه، وخروجه عن الهدى والطريق القويم؛ الصراط المستقيم.
أقول: يا أخي، مال الدولة ينبغي أن نكون فيه أشد احتياطًا من أموالنا؛ من الأموال الخاصة؛ لأن الاعتداء على أموال الدولة اعتداء على الأمة كلها؛ ولهذا جاءت الأحاديث في تغليظ الاعتداء على المال العام بمثل قوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث: «مَنِ استعملناهُ منكم على عملٍ فكَتَمَنا مِخْيَطًا فما فوقَه؛ كان غُلولًا يأتي به يومَ القيامةِ».[تقدم]
المذيع: أحسن الله إليكم، بارك الله فيكم، نتواصل معكم مستمعينا الكرام في هذه الحلقة المباشرة من برنامجكم: الدين والحياة.
حديثنا مستمر عن موضوع حلقتنا في هذا اليوم عن "منهج الإسلام في محاربة الفساد"، فاصل قصير نعود بعده لمواصلة هذه الحلقة من برنامجكم: "الدين والحياة".
فتفضلوا بالبقاء معنا.
من جديد نحييكم، ونرحب بكم مستمعينا الكرام في هذه الحلقة المباشرة من برنامجكم: "الدين والحياة"، وحديثنا مستمر عن منهج الإسلام في محاربة الفساد، مع ضيفنا فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور: خالد بن عبد الله المصلح.
شيخ خالد: في هذه الأيام، ولعله مما يتزامن مع حديثنا في هذه الحلقة عن محاربة الفساد، ومنهج الإسلام في هذا الشأن، خطوة نوعية استهدفت اجتثاث الفساد من جذوره، ومحاربة الفاسدين، وكل من يضر بالبلد، ويتجاوز على المال العام في هذه الخطوة النوعية المتميزة أمر خادم الحرمين الشريفين الملك: سلمان بن عبد العزيز، أمر -حفظه الله - بتشكيل لجنة عليا برئاسة سمو ولي العهد لحصر المخالفات والجرائم، والأشخاص والكيانات ذات العلاقة في قضايا الفساد العام، إضافة إلى التحقيق، وإصدار أوامر القبض، والمنع من السفر، وغير ذلك من الصلاحيات التي مُنحت لهذه اللجنة العليا، ولعله من المناسب أيضًا والحديث عن منهج الإسلام في محاربة الفساد أن نعلق على هذا الأمر الملكي الكريم الذي يأتي في سياق ما جاءت به نصوص الشريعة في محاربة الفساد وقطعه من جذوره.
الشيخ: الحمد لله على ما يسر الله - تعالى - ، ووفق إليه خادم الحرمين الشريفين من هذه الخطوة الجليلة المباركة التي تنبثق من نظام هذا البلد المبارك الذي يقوم على الكتاب والسنة، ويهتدي بسنة سيد الثقلين نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن هذا الأمر الملكي الكريم بتشكيل لجنة عليا برئاسة سمو ولي العهد، وعضوية رئيس هيئة الرقابة والتحقيق، ورئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد من المهمات التي يقتضيها الوقت ومحاربة الفساد ليست وليدة الساعة، لكن تشكيل هذه اللجنة وصدور هذا الأمر الكريم من ولي الأمر خادم الحرمين الشريفين - وفقه الله - بتشكيل هذه اللجنة برئاسة ولي العهد الأمين - وفقه الله - هو في الحقيقة تنظيم وتفعيل لكل المؤسسات التي تُعنَى بمحاربة الفساد ومحاصرته، تفعيل ملموس، تفعيل تتطلبه المرحلة التي نعيشها، يتطلبه المستقبل الذي نأمل أن نصل إليه، وأن نوصل وطننا المبارك وأبناء هذا الوطن إليه من خلال الخطط والمشاريع المطروحة.
إنَّه لا يمكن أن تتهيأ بيئة إنتاجية، بيئة استثمارية سليمة، دون وجود مثل هذه الخطوات الحازمة، والقرارات الصريحة الواضحة التي تحفظ البيئة الاستثمارية لهذه البلاد.
لا شك أن التوقيت مهم، وصدور هذا الأمر يشعر المواطنين، وجميع من يعيش على ثرى هذه البلاد المباركة أن قيادتنا الرشيدة - سددها الله - لا يشغلها شأن عن شأن، فإنها مشغولة بشؤون عدة فيما يتعلق بالأخطار التي تهدد البلد خارجيًّا، أمس كان ثمة الصاروخ البالستي الذي أطلقه الآثمون: الحوثيون على عاصمتنا الرياض - حفظها الله - وحفظ سائر أجزاء بلادنا، في الوقت نفسه مع كون هذه الهجمة الحوثية البائسة صُدت بيقظة، وبتوفيق الله - تعالى - ، ثم يقظة رجال الدفاع الجوي الذين تصدوا لهذا الصاروخ العبثي الذي يثبت فشلهم، ويبيِّن ظلامية فكرهم، وإصرارهم على الخطأ، في أثناء هذا الحدث الذي شغل الناس، تأتي هذه القرارات الحازمة؛ يعني لك أن تتخيل أن مثل هذا، لماذا لم يؤجل القرار؟ لأننا نعيش على جبهات إصلاحية وجهادية عديدة، فنحن نشتغل بالإصلاح الداخل بما يصدره ولي الأمر من قرارات مع يقظتنا لكل من يتربص لبلادنا من الخارج، أو من الداخل من الأعداء.
وهذا بالتأكيد يبين أن الدولة - وفقها الله - بقيادة خادم الحرمين الشريفين، وولي عهده الأمير: محمد بن سلمان، وسائر أركان هذه الدولة المباركة يقومون بما يجب عليهم من حفظ هذه البلاد المباركة، وصيانة ثراها، وتأمين ساكنيها، والسعي في مصلحتها، وتحقيق مستقبل زاهر لشعبها؛ وهذا مما يشرح الصدر ويفرحه؛ ولهذا أصبح ما جرى من حدث إطلاق صاروخ الحوثيين في الليلة البارحة حدثًا هامشيًّا أمام هذا الإصلاح الكبير الذي يسَّر الله -تعالى- صدور أوامره من جهة خادم الحرمين الملك: سلمان - وفقه الله - ، والجهد الدائم الذي يقوم عليه ولي العهد في تحقيق رؤية خادم الحرمين الشريفين - وفقه الله - في محاربة الفساد، وقطع دابره.
بالتأكيد إنَّ هذه الأعمال الجليلة، وهذه الأعمال المباركة تشرح الصدر، وتسر الخاطر، ويبتهج لها كلُّ ناصح ومحب لهذا البلد، ولا يجد غضاضة منها إلَّا العدو، أو المفسد، أما المحب، بل حتى الصديق، بل حتى المراقب الأمين يفرح بمثل هذه القرارات؛ لأنها تصب في مصلحة الوطن والمواطن.
المذيع: أيضًا مما جاء في هذا الأمر الكريم: أنَّ هذه البلاد المباركة تسعى بكافة أجهزتها لاجتثاث هذا الفساد من جذوره، وفي هذا الأمر، وبالنصِّ تحديدًا قال خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله -: حرصنا منذ تولينا المسؤولية على تتبع هذه الأمور انطلاقًا من مسؤوليتنا تجاه الوطن والمواطن، وأداء للأمانة التي تحملناها بخدمة هذه البلاد، ورعاية مصالح المواطنين في جميع المجالات، واستشعارًا منَّا لخطورة الفساد، وآثاره السيئة على الدولة سياسيًّا، وأمنيًّا، واقتصاديًّا، واجتماعيًّا.
الشيخ: بالتأكيد؛ ولهذا من كلماته - حفظه الله - وأيده: نهتدي في محاربة الفساد بقوله -تعالى-: ﴿وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ [القصص: 77]
ويؤكد في كلماته المباركات أنَّ هذه الخطوات تنبثق من روح الشريعة، ومن أحكامها الرصينة التي تحقق مصلحة الوطن والمواطن، وتحقق مصلحة عموم الخلق فيما يتعلق بمعاشهم، وفيما يتعلق بمعادهم، بالتأكيد إننا في غاية السرور لهذه القرارات الرشيدة، وهذا التفعيل المباشر لهذه القرارات بما يحقق ما تكلم به ولي العهد الأمير: محمد بن سلمان - وفقه الله - قبل برهة من الزمن عندما قال: لم ينجُ من الفساد أحد تورط فيه لا أمير، ولا وزير، ولا صغير، ولا كبير، وبهذا الميزان القسط العدل الذي يُجرى فيه النظام على كل أحد دون تمييز لا شك أن آثاره سنشاهدها في صلاح حالنا، وصلاح مآلنا، وسعادتنا، وفتح أبواب الرزق، فإنَّ الله - تعالى - يقول -جلَّ في علاه- في محكم كتابه: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ [الأعراف: 96]
فنرجوا الله - عزَّ وجلَّ – الكريم المنان أن يجعل عاقبة هذه القرارات خيرًا لبلادنا ولوطننا المبارك، وأن يوفق ولي أمرنا الملك سلمان، وولي عهده الأمير محمد بن سلمان لِما فيه خير العباد والبلاد، وأن يجعلهم مفاتيح للخير مغاليق للشر، ونحن بلسان واحد نقول: سمعًا وطاعةً، نحن معكم في كل ما وُفقتم إليه من قراراتٍ يعود نفعها على الوطن والمواطن، وأنا أنبه إلى قضية مهمة: هناك من يسعى إلى التشويش على هذه القرارات، والتشغيب عليها بافتراء وكذب، وتخمينات وتحليلات في غاية البعد عن الواقع، والحقيقة لا يسندها مُبرِّر، فيقتضي الإعراض عن مثل هذه الاعتراضات، أو هذه التشويشات التي هي كما قلت: لا تكون إلَّا من عدو، أو من مفسد، أما المصلح المحب لهذا الوطن، والصديق الناصح، والحر الذي يريد النفع لا شك أنَّه لا يمكن أن يتكلم في مثل هذه القرارات إلَّا بالثناء، والحمد لله على ما يسر.
المذيع: جزاكم الله خيرًا، شكر الله لكم، وبارك فيكم وفي علمكم، وجزاكم خيرًا على ما تفضلتم به في هذا اللقاء.