قوله تعالى :{ ولا يزالون مختلفين (118) إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم } .
اختلف العلماء في المشار إليه بقوله :" ذلك" ، فقيل : إلا من رحم ربك وللرحمة خلقهم .
والتحقيق : أن المشار إليه هو اختلافهم إلى سقي وسعيد ، المذكور في قوله :{ ولا يزالون مختلفين (118) إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم } ولذلك الاختلاف خلقهم ، فخلق فريقا للجنة وفريقا للسعير، كما نص عليه بقوله تعالى :{ ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس..} الآية .
وأخرج الشيخان في صحيحهما ، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه : " ثم يبعث الله إليك الملك فيؤمر بأربع كلمات : فيكتب رزقه ، وأجله وعمله ، وشقي أم سعيد " .
وروى مسلم من حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ " ياعائشة ، إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم ، وخلق النار وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم " .
وفي صحيح مسلم ، من حديث عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إن الله قدر مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ، وكان عرشه على الماء" .
وفي الصحيحين من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " كل ميسر لما خلق له" .
وإذا تقرر أن قوله تعالى {ولذلك خلقهم} معناه : أنهم خلقهم لسعادة بعض وشقاوة بعض ،كما قال :{ ولقد ذرأنا } الآية ، وقال :{ {هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن (2) سورة التغابن } فلا يخفى ظهور التعارض بين هذه الآيات ، مع قوله تعالى :{ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (56) سورة الذاريات } .
والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه :
الأول ـ ونقله ابن جرير عن زيد بن أسلم وسفيان ـ : أن معنى الآية : { إلا ليعبدون أي : يعبدي السعداء منهم ويعصيني الأشقياء . فالحكمة المقصودة من إيجاد الخلق ـ التي هي عبادة الله ـ حاصلة بفعل السعداء منهم ، كما أشار له قوله تعالى :{ يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين } .
وغاية ما يلزم على هذا القول ، أنه أطلق المجموع وأراد بعضهم ،وقد بينا أمثال ذلك من الآيات التي أطلق فيها المجموع مرادا بعضه ، في سورة الأنفال .
الوجه الثاني ـ هو ما رواه ابن جرير عن ابن عباس ، واختاره ابن جرير : أن معنى قوله :{إلا ليعبدون} أي : إلا ليقروا إلي بالعبودية طوعا أو كرها ؛ لأن المؤمن يطيع باختياره ، والكفار مذعن منقاد لقضاء ربه جبرا عليه .
الوجه الثالث ـ ويظهر لي أنه هو الحق ؛ لدلالة القرآن عليه ـ : أن الإرادة في قوله :{ولذلك خلقهم} إرادة كونية قدرية ، والإدارية في قوله :{وماخلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} إرادة شرعية دينية . فبين في قوله :{ولذلك خلقهم }وقوله :{ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس} ؛ أنه أراد بإرادته الكونية القدرية صيرورة قوم إلى السعادة ، وآخرين إلى الشقاوة وبين بقوله :{ إلا ليعبدون } أنه يريد العبادة بإرادته الشرعية الدينية من الجن والإنس ، فيوفق من شاء بإرادته الكونية فيعبده ، ويخذل من شاء فيمتنع من العبادة .
ووجه دلالة القرآن على هذا : أنه تعالى بينه بقوله :{وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله} فعمم الإرادة الشرعية بقوله :{إلا ليطاع} ، وبين التخصيص في الطاعة بالإرادة الكونية بقوله :{ بإذن الله} فالدعوة عامة ،والتوفيق خاص .
وتحقيق النسبة بين الإرادة الكونية القدرية والإرادة الشرعية الدينية ، أنه بالنسبة إلى وجود المراد وعدم وجوده ، فالإرادة الكونية أعم مطلقا ؛ لأن كل مراد شرعا يتحقق وجوده في الخارج إذا أريد كونا وقدرا ، كإيمان أبي بكر . وليس يوجد ما لم يرد كونا وقدرا ولو أريد شرعا ، كإيمان أبي لهب . فكل مراد شرعي حصل فبالإرادة الكونية ، وليس كل مراد كوني حصل مرادا في الشرع .
وأما بالنسبة إلى تعلق الإرادتين بعبادة الإنس والجن لله تعالى ، فالإرادة الشرعية أعم مطلقا ، والإرادة الكونية أخص مطلقا ؛ لأن كل فرد من أفراد الجن والإنس أراد الله منه العبادة شرعا لم يردها من كلهم كونا وقدرا فتعم الإرادة الشريعة عبادة جميع الثقلين ، وتختص الإرادة الكونية بعبادة السعداء منهم ، كما قدمنا من أن الدعوة عامة ، والتوفيق خاص كما بينه تعالى بقوله :{ والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } فصرح بأنه يدعو الكل ، ويهدي من شاء منهم .
وليست النسبة بين الإرادة الشرعية والقدرية العموم والخصوص من وجه ؛ بل هي العموم والخصوص المطلق ،كما بينا ، إلا أن إحداهما أعم مطلقا من الأخرى باعتبار ، والثانية أعم مطلقا باعتبار آخر ، كما بينا والعلم عند الله تعالى .
(سورة يوسف)
قوله تعالى :{ وجاء بكم من البدو..} الآية .
هذه الآية يدل ظاهرها على أن بعض الأنبياء ربما بعث من البادية . وقد جاء في موضع آخر ما يدل على خلاف ذلك ، وهو قوله تعالى :{ وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى } .
وأجبي عن هذا بأجوبة :
منها : أن يعقوب نبئ من الحضر ، ثم انتقل بعد ذلك إلى البادية .
ومنها : أن المراد بالبدو نزول موضع اسمه " بدا" هو المذكور في قوله جميل أو كثير :
وأنت الذي حبب شغبا إلى بدا إلي وأوطاني بلاد سواهما
حللت بهذا مرة ثم مرة بهذا فطاب الواديان كلاهما
وهذا القول مروي عن ابن عباس . ولا يخفى بعد هذا القول ، كما نبه عليه الألوسي في تفسيره .
ومنها : أن البدو الذي جاءوا منه مستند للحضر ، فهو في حكمه والله تعالى أعلم .
(سورة الرعد)
قوله تعالى :{ إنما أنت منذر ولكل قوم هاد ...} .
هذه الآية الكريمة فيها التصريح بأن لكل قوم هاديا . وقد جاء في آيات أخر ما يدل على أن بعض الأقوام لم يكن لهم هاد ، سواء فسرنا الهدى بمعناه الخاص أو بمعناه العام .
فمن الآيات الدالة على أن بعض الناس لم يكن لهم هاد بالمعنى الخاص ؛ قوله تعالى :{ وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك } فهؤلاء المضلون لم يهديهم هاد الهدى الخاص ، الذي هو التوفيق لما يرضي الله . ونظيرها قوله :{ ولكن أكثر الناس لا يؤمنون } ، وقوله :{ وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين } وقوله :{ إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين } إلى غير ذلك من الآيات .
ومن الآيات الدالة على أن بعض الأقوام لم يكن لهم هاد بالمعنى العام ، الذي هو إبانة الطريق ، قوله تعالى :{ {لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم (6) سورة يس } بناء على التحقيق من أن " ما " نافية لا موصولة ، وقوله تعالى :{ يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل..} الآية .
فالذين ماتوا في هذه الفترة ، لم يكن لهم هاد بالمعنى الأعم أيضا .
والجواب عن هذا من أربعة أوجه .
الأول : أن معنى قوله : { ولكل قوم هاد } أي داع يدعوهم ويرشدهم ، إما إلى خير الأنبياء ، وإما إلى شر كالشياطين . أي وأنت يا رسول الله منذر هاد إلى كل خير . وهذا القول مروي عن ابن عباس ، من طريق علي بن أبي طلحة ، وقد جاء في القرآن استعمال الهدى في الإرشاد إلى الشر أيضا ، كقوله تعالى :{كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير } وقوله تعالى :{فاهدوهم إلى صراط الجحيم} ، وقوله تعالى :{ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم} كما جاء في القرآن أيضا إطلاق الإمام على الداعي إلى الشر ، في قوله :{وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار .. } الآية .
الثاني : أن معنى الآية : أنت يامحمد - صلى الله عليه وسلم - منذر ، وأنا هادي كل قوم ويروى هذا عن ابن عباس من طريق العوفي ، وعن محمد وسعيد بن جبير والضحاك وغير واحد . قاله ابن كثير .
وعلى هذا القول ، فقوله :{ ولكل قوم هاد }، يعني به نفسه جل وعلا . ونظيره في القرآن قوله تعالى :{ ولا ينبئك مثل خبير } يعني نفسه ، كما قاله قتادة . ونظيره من كلام العرب قول قتادة بن سلمة الحنفي :
ولئن بقيت لأرحلن بغزوة تحوي الغنائم أو يموت كريم
يعني : نفسه .
وسيأتي تحرير هذا المبحث إن شاء الله في سورة القارعة . وتحرير المعنى على هذا القول : أنت يا محمد منذر ، وأنا هادي كل قوم سبقت لهم السعادة والهدى في علمي ؛ لدلالة آيات كثيرة على أنه يتعالى هدى قوما وأضل آخرين ، على وفق ما سبق به العلم الأزلي ، كقوله تعالى :{ إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل } .
الثالث : أن معنى : {ولكل قوم هاد} أي : قائد ، والقائد : الإمام والإمام : العمل . قاله أبو العالية ، كما نقله عنه ابن كثير .
وعلى هذا القول ، فالمعنى : ولكل قوم عمل يهديهم إلى ما هم صائرون إليه من خير وشر . ويدل لمعنى هذا الوجه قوله تعالى :{هنالك تتلو كل نفس ما أسلفت} على قراءة من قرأها بتاءين مثناتين ، بمعنى : تتبع كل نفس ما أسلف من خير وشر .
وأما على القول بأن معنى : " تتلو" : تقرأ في كتاب عملها ما قدمت من خير وشر ، فلا دليل في الآية . ويدل له أيضا حديث : " لتتبع كل أمة ما كانت تعبد . فيتبع من كان يعبد الشمس : الشمس ، ويتبع من كان يعبد القمر القمر ، ويتبع من كان يعبد الطواغيت : الطواغيت" الحديث .