المذيع: أهلًا ومرحبًا بكم مستمعينا الكرام في هذه الحلقة المباشرة من برنامجكم" الدين والحياة"، شيخ خالد عندما يتحدث الإنسان في مثل هذا الموضوع المهم، لعل من المناسب أن يُطرح سؤال معين حول ما يكثر السؤال عنه في مثل هذا الموضوع، وهو أن كثيرًا من الناس يقولون: إنَّهم يحاولون أن يتخلصوا من ذنوبهم لكنهم أحيانًا يفشلون، أو يعجزون عن ذلك، في حين أيضًا في الطرف الآخر هناك من يحاول أن يتخلص من هذه الذنوب، فيقعون فيها تارة، ويقلعون عنها تارة، ويعودون إليها من جديد، لماذا نتحدث عن التخلص من الذنوب شيخ خالد؟
الشيخ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، تحية لك أخي عبد الله، وللإخوة والأخوات المستمعين والمستمعات، الحمد لله رب العالمين، وأصلِّي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد.
فالحديث عن الذنوب والتخلص منها حديث لصيق بالإنسان؛ وذلك أن بني آدم لا بد لهم من ذنوب، يحتاجون معها إلى العمل على الاستعتاب، والاستغفار، والتوبة إلى العزيز الغفار؛ ولهذا من الضروري أن يدرك الإنسان أن الذنب لا بد أن يقع من الإنسان بالجِبِلَّة والفطرة؛ وهذا ليس معناه تسويغ الخطأ، ولا معناه الركون إلى الزلل، ولا معناه الاستكثار من الذنب، بل الأمر على خلاف هذا؛ إذ إن الأمر ينبغي أن يكون كما جاءت النصوص مبينة؛ أن الذنوب كما هي قد فُطر عليها الناس وجُبلوا، إلَّا أن المطلوب منهم أن يعملوا على التخفف منها، وإذهاب آثارها، وإزالة ما يمكن أن يعلق منها؛ ولهذا من الضروري أن يعملوا على الاستغفار، والتوبة، والأخذ بأسباب حط الخطايا والسيئات.
النبي –صلى الله عليه وعلى آله وسلم - أخبر في مواضع عديدة بكثرة ذنوب بني آدم، لكنه لم يأتِ بهذا الخبر على نحو يستسلم فيه الإنسان للخطأ، ففي صحيح الإمام مسلم من حديث أبي أيوب - رضي الله تعالى عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو أنَّكم لم تكُنْ لكم ذنوبٌ يَغفِرُها اللهُ لكم؛ لَجاءَ اللهُ بقومٍ لهم ذنوبٌ يَغفِرُها لهم».[صحيح مسلم:ح2748/10]
وفي رواية مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: «والذي نفسِي بيدِه، لو لم تُذنِبُوا لَذَهَبَ اللهُ بكم ولَجاءَ بقومٍ يُذنِبون فيَستغفرون فيَغْفِرُ اللهُ لهم».[صحيح مسلم:ح2749/11]
وفيما رواه الترمذي وغيره من حديث قتادة، عن أنس بن مالك - رضي الله تعالى عنه - قال - صلى الله عليه وسلم -: «كُلُّ ابنِ آدمَ خَطَّاء، وخيرُ الخطائين التَّوَّابون«[سنن الترمذي:ح2499، وأحمد في مسنده:ح13049، وحسنه الألباني في المشكاة:ح2341]
نظرة عاجلة في هذه الأحاديث والنصوص النبوية؛ تبين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر بأمرٍ فطري جبلي في مسيرة الإنسان وحياته، وهي كثرة خطئه، لكنه لم يخبر بذلك على وجه يسوغ فيه الخطأ، ولا وجه يبرر استمرار الزلل، بل ذكر ما ينبغي أن يكون عليه الإنسان في معالجة هذا الوصف، وهذا الخلل من التوبة والاستغفار، وقد قال النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -: «كلُّ ابنِ آدمَ خطَّاءٌ»؛ يعني كثير الخطأ، فهو يخطئ كثيرًا، ويذِلُّ كثيرًا، لكن مع هذا الخطأ والزلل فهو مطلوب منه أن يكثر من التوبة لذلك، قال: «وخير الخطَّائين التوَّابون».
تأمل أخي الكريم، أختي الكريمة، تأملوا هذا النص النبوي الذي قابل فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - كثرة الخطأ في صيغة المبالغة (خطَّاء) بكثرة التوبة بصيغة المبالغة (تواب)؛ وهذا يدل على أنه يحتاج الإنسان في معالجة كثرة أخطائه إلى أن يكثر من التوبة حتى يقابل هذا بذاك، ويكون هذا سببًا للتخفف من الخطايا والسيئات.
إذن نحن نتحدث عن الذنوب والتخلص منها؛ لأنه أمرٌ جِبِليٌّ في وصف الإنسان، ومسيرته الحياتية، فالشيطان له بالمرصاد، وأصحاب السوء يزينون له الشر، ونفسه الأمارة بالسوء بين جنبيه تحضه على المخالفة، وإلى اتباع الشهوات والملذات. وكل هذه البلايا، كل هذه الخطايا، كل هذه المعوقات لا بد أن يقع الإنسان في حبائلها في بعض مسيره، فإن نجا من الشيطان لم ينجُ من أصحاب السوء الذين يزينون له السوء والشر، وإن نجا من أصحاب السوء فقد لا ينجو من نفسٍ تأمره بالخطأ وتزين له الانحراف والزلل، وإن نجا من هذا وذاك فقد لا ينجو من غفلة تطبق على قلبه، وتدعوه إلى أن يواقع الخطأ وتزينه له، وإن نجا من هذا وذاك، فقد لا ينجو من مبررات يقع فيها الإنسان ليبرر خطأه من انتهاك عرض، أو انتهاك حرمة مال، أو غير ذلك من الأسباب التي تفضي بالإنسان إلى مخالفة أمر الله - عزَّ وجلَّ - ، والوقوع فيما يغضبه - سبحانه وبحمده - ؛ كل هذه المعوقات، كل هذه الخطايا، كل هذه المصائب التي يُصطاد بها الإنسان ليقع في الخطأ يحتاج معها إلى أن يتوب إلى الله - عزَّ وجلَّ - ، إلى أن يُحدِث ما يخفف هذه الذنوب والخطايا.
إذن نحن نحتاج للحديث عن الذنوب والتخلص منها؛ لأننا نحتاج إلى معرفة كيف نسلم من آثار الأخطاء؟ كيف نخفف أخطاءنا؟ عندنا عملان:
العمل الأول: هو التخفف من الخطايا والسيئات.
العمل الثاني: هو كيف نقوم بمحاصرة آثار الخطأ، والتخفف من ضرره؛ كل هذه أشياء تجعلنا بحاجة إلى أن ننظر في هذا الموضوع ونتحدث عنه.
إذن عملنا الآن هو ألا نقول: لن نخطئ، فليس لدينا عصمة من الخطأ؛ يعني إن سلمنا من خطأ فلا نسلم من خطأ آخر؛ يعني مثلًا الآن الشهوات وأسباب الخطأ متنوعة، فمنها: ما يتعلق بالفرج، منها ما يتعلق بالبطن، منها ما يتعلق بالمال، منها ما يتعلق بحقوق الخلق، منها ما يتعلق بحقوق الله - عزَّ وجل -، قد يقع الإنسان في خطأ يتعلق بالشهوة؛ زنا مثلًا، أو نظر محرم، أو قد يقع في ذنب يتعلق بالمال؛ من اختلاس، أو سرقة، أو فساد في مالٍ عام، أو خاص، قد يقع في خطأ يتعلق بحقوق الخلق وما إلى ذلك، كيف يتخلص الإنسان من هذا؟ كيف يسلم من أن تحاصره هذه الذنوب والخطايا؟ كل هذا يحتاج إلى معالجة الإنسان لنفسه والخروج من الشر الذي يحيط به بسبب ذنبه، ومخالفته لأمر الله عزَّ وجلَّ.
المذيع: أحسن الله إليكم، وبارك الله فيكم، فعلًا هو الحديث الذي نتحدث عنه ربما من محاور مهمة لتجليته وتوضيحه، هو الحديث عن محاصرة الأسباب التي يمكن أن توقع الإنسان في مثل هذه الذنوب، وبالتالي الحديث عن الوقاية خير من الحديث عن العلاج، أو هو أولى من أن يكون هناك الحديث عن العلاج لهذه التبعات، نحن متواصلون معكم مستمعينا الكرام في هذه الحلقة المباشرة من برنامجكم" الدين والحياة"، وبالتالي حديثنا أيضًا متواصل ومستمر عن موضوع اليوم عن التخلص من الذنوب، مع فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور: خالد بن عبد الله المصلح.
بعد هذا الفاصل مستمعينا الكرام سوف أيضًا نواصل حلقتنا في بقية المحاور التي تخص هذا الموضوع، سعداء دائمًا وأبدًا بالتواصل معكم، وسوف نستعرض - إن شاء الله - ما وصلنا من استفسارات ومشاركات حول هذا الموضوع من خلال هذا البرنامج، أهلًا وسهلًا بكم.
حياكم الله من جديد مستمعينا الكرام إلى هذه الحلقة المباشرة من برنامجكم"الدين والحياة"، حديثنا مستمر في هذه الحلقة عن التخلص من الذنوب مع ضيفنا فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور: خالد بن عبد الله المصلح.
شيخ خالد، تحدثتم في مقدمة جميلة حول هذا الموضوع، وحول ما يكون من أحوال الناس فيما يتعلق بوقوعهم في الذنوب، إضافة إلى ما يتعلق أيضًا بعزمهم على التخلص من هذه الذنوب، أو المراحل المختلفة التي يمر بها هؤلاء الناس، وكذلك أيضًا مستويات الناس في مسألة: عزمهم على التخلص من الذنوب، لكن من المهم ما تفضلتم بالإشارة إليه قبل هذا الفاصل الحديث عن محاصرة الأسباب الموقعة والتي تجعل الإنسان يتوغل في هذه الذنوب، أو يتورط فيها، كيف يمكن للإنسان ابتداءً أن يبتعد عن هذه الذنوب، ولا يقع في شراكها؟
الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وأصلِّي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، مثلما ذكرنا قبل قليل الموضوع جدير بالعناية والاهتمام؛ لأجل التخفيف من هذه الجِبِلة التي توقع الناس في شؤم وبلاء وخطر لا منتهى له، لعلنا أولًا نتدرج في الموضوع فيما يتعلق بالتخلص من الذنوب على مراحل؛ المرحلة الأولى: قبل المواقعة؛ وهي الوقاية، والمرحلة الثانية: أثناء الخطأ والمواقعة، والمرحلة الثالثة: بعد وقوع الخطأ، كيف يسلم الإنسان من شؤم هذه الذنوب؟
نبدأ بالمرحلة الأولى: كيف يقي الإنسان نفسه من الذنب؟
هناك عدد من الأمور التي إذا استحضرها الإنسان كان موجبًا أن يتخفف من الذنوب، وأن يتخلص من كثرتها؛ أول هذا: هو معرفة شؤم الذنب؛ معناه: أنه يعرف ما الذي سيحصله من الذنوب؟ وماذا ستكون نهاية الذنب؟ الذنب بالتأكيد أنه لذيذ، وفيه ما يشوق إليه، ويجلب الإنسان إلى مواقعته، لكن إدراك الإنسان أن هذه اللذائذ عواقبها وخيمة، وشؤمها خطير في الدنيا والآخرة يحول بينه وبين مواقعتها؛ ولهذا لو قُدم لك إناء فيه عسل، وتعلم أن في هذا العسل سمًّا، هل تقدِم على أكله؟ العاقل بالتأكيد لا يقدم على أكله، لماذا؟ لأنه يعرف أن هذه اللذة التي يدركها، والطعم الحلو الذي يجده بسبب أكله للعسل ستكون عاقبته الهلاك، أو التلف بسبب ما فيه من سم، الذنب كذلك، الذنب لذيذ بحكم أن فيه لذةً ينالها الإنسان فيما يشتهيه ويحبه، وعندما يواقع هذا الذنب سيتلذذ به بالتأكيد؛ من زنا، أو أكل مال حرام، لكن هذه اللذة تتلاشى وتضمحل أمام ما في هذا الخطأ من شؤم.
وأضرب لذلك مثلًا ذكره الله في الكتاب الحكيم، يقول الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾ [النور: 30]، ثم يقول: ﴿ذَلِكَ﴾ أي: الامتناع عن النظر المحرم، وكذلك حفظ الفرج ﴿أَزْكَى لَهُمْ﴾ يعني: أطيب لقلوبهم ﴿إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾ [النور: 30]
﴿أَزْكَى لَهُمْ﴾؛ هو أكيد عندما يحجب بصره عما حرم الله - تعالى - أكيد سيجد أنه فاته شيء من اللذة بالتأكيد، لكن لذة غض البصر، وما يدركه من زكاء قلبه أعظم من لذة النظر المحرم الذي وقع فيه؛ ولهذا من الضروري أن يدرك الإنسان أن المعاصي مهما كانت لذيذة فإن الذنوب سمّ وشؤم، وسيجني ثمارها ويدركه شؤم هذه الذنوب في المعاش قبل المعاد، فإن للمعصية شؤمًا على الإنسان في حياته قبل آخرته؛ وهذا من رحمة الله؛ أن يذيقه الله - تعالى - بعض عقوبة ذنبه في الدنيا قبل الآخرة ليتوب، وليتخفف، ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا﴾ [الروم: 41]؛ فإدراك الإنسان لهذه المعاني قبل مواقعته للخطأ والسيئة سيكون حاجزًا ومانعًا عن أن يقدم عليها.
أيضًا إدراك الإنسان أنَّ هذه المعاصي لها أسباب تقود إليها، ويعالج هذه الأسباب، ويبعد عنها، فإن ذلك من موجبات سلامته، فمن أسباب مواقعة الخطأ: البيئة التي يعيش فيها الإنسان، قد يعيش الإنسان في بيئة تجعل الخطأ عاديًّا، فمن البيئات ما يكون فيه من الشر والفساد ما يجعل الإنسان يقارف السيئة على أنها أمر عادي، ويرى أنها أمر عادي ولا يكون هذا مانعًا من مواقعة الخطأ.
فمن المهم حتى لو كانت البيئة فاسدة أن يتفطن الإنسان لهذا الأمر بمحاولة البعد عن البيئة الفاسدة الموقعة للسوء.
البيئة الفاسدة قد تكون مجتمعًا، البيئة الفاسدة قد تكون شخصًا وصاحبًا، البيئة الفاسدة قد تكون جهازًا يصاحب الإنسان يوصله إلى الفساد، لاسيما اليوم أجهزة التواصل قربت البعيد؛ يعني أصبح الشر يُوصَل إليه لا بخطو الأقدام، إنما بلمس الأصابع التي يصل بها إلى كثير من الفساد الذي كان بعيدًا عنه؛ فلهذا من المهم أن يعيَ الإنسان هذه الأمور، وأن يتجنب أسباب الفساد.
وأنا أذكر لذلك قصةً أَخبر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - في أعظم الخطايا والسيئات؛ وهي القتل، فقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بما جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث أبي سعيد؛ في قصة عن الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفسًا، فسأل عن أعلم أهل الأرض؟ فدُلَّ على راهب، فأتاه فقال: هل لي من توبة؟ فقال الراهب، وهو عابد، ما عنده علم، قال: لا، فكمل به المائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدُل على عالم، فسأله عن ذنبه، وهل له من توبة؟ فقال له العالم: مَن يحُول بينك وبين التوبة، لكن ما توقف؛ العالم لم يتوقف عند فتح باب التوبة، إنما أشار ونبه إلى ما تتحقق به التوبة؛ صيانة النفس عن مواقعة الخطأ والزلل، فقال: انطلق إلى أرض كذا وكذا؛ فإن بها ناسًا يعبدون الله، فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء.[صحيح مسلم:ح2766/46]
البيئة قد تحمل الإنسان على مواقعة الخطأ، ولو كان قتلًا؛ لأن هذا ما شكا ذنبًا يتعلق بذنوب معتادة، وإنما بذنب من أعظم الذنوب؛ وهو قتل النفس بغير حق، مع هذا تأثر بالبيئة، وكانت البيئة حاملة له على هذا؛ فقال له: انطلق إلى أرض كذا وكذا؛ فإن بها أناسًا يعبدون الله، فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك؛ فإنها أرض سوء.
أحيانًا مثلما ذكر البيئة لا تنحصر في مجتمع، قد يكون المجتمع طيبًا، قد تكون الأسرة أسرة نظيفة وخيِّرة، لكن هناك صاحب يزين لك الشر، أو هناك وسيلة تدفعك إلى الشر وتقربك إليه، عند ذلك يقال لك: اترك هذه الوسيلة، اترك هذا الصاحب؛ إنه صاحب سوء، وهو جهاز سوء يوصلك إلى الشر والفساد، والإنسان على نفسه بصير ورقيب.
هذا الذي قتل مائة نفس لم تقرَّ نفسه مع مواصلة الخطأ، لم تقر نفسه على ما كان من خطأ، بل طلب النجدة من هذه السيئات التي أحاطت به، كذلك صاحب الذنب ينبغي أن يطلب النجدة بالخروج مما يقع فيه من السيئات.
إذن نحن نحتاج إلى أن نعرف أن البيئة ضمان لعدم مواقعة الخطأ قبل وقوعه، فاحرص على البيئة النظيفة، احرص على الصاحب الطيب، احرص على أن تبعد نفسك عن أسباب الوقوع في الأخطاء؛ فإنك إذا فعلت ذلك وُقيت الخطأ، مع كل هذه الاحتياطات قد تغلبك نفسك، وتقع في الخطأ، فماذا تفعل إذا وقعت في الخطأ؟ لا تستسلم للخطأ، الاستسلام للخطأ هلاك، الاستسلام للخطأ معناه أنك تغرق فيما قد لا تستطيع الخلاص منه، بادر إلى التوبة، بادر إلى الخروج من هذه الأزمة، وهذه الورطة التي ورَّطت نفسك فيها، ولا تقل: هذا صغير، هذا كبير، هذا لن يراه أحد، هذا لن يؤثر فيّ، فمداخل الشيطان التي تسوغ لك الاستمرار، فالأخطاء كثيرة، أغلق على الشيطان أبوابه، ولا فرق في ذلك بين كبير وصغير في حق العزيز الغفار الجبار الملك، المتكبر - سبحانه وبحمده -، فإن النظر إلى مقام الله يوجب عدم مخالفته؛ لا في دقيق، ولا جليل، لا في صغير، ولا في كبير، فبادر إلى انتشال نفسك، ولا تستسلم لخطأ صغير، أو كبير؛ ولذلك يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إيَّاكُمْ ومُحَقّراتِ الذُّنُوب»؛ اخشوا، واحذروا، وتجنبوا الذنوب الحقيرة في أعينكم التي لا ترونها شيئًا، وقد تألفونها وتصبح سجيةً وعادةً عندكم «إيَّاكُمْ ومُحَقّراتِ الذُّنُوب؛ فإنهنَّ يجتمعن على الرجلِ فيُهلِكنه».[أخرجه أحمد في مسنده:ح3818، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح(مجمع الزوائد:17459)]
ومحقرات الذنوب ليس معناه أن الذنب صغير، قد يكون الذنب صغيرًا، وقد يكون الذنب كبيرًا، لكن لكثرة من يواقعه أصبح حقيرًا؛ الغيبة على سبيل المثال هي في نظر كثير من الناس من محقرات الذنوب، مع أن الإجماع منعقِد على أن الغيبة من كبائر الذنوب، الزنا على سبيل المثال في بعض المجتمعات؛ هذا عيب، لكنه محتقر لا يراه بعض الناس شيئًا كبيرًا؛ لظهور الزنا وفشوه؛ كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - في علامات آخر الزمان، ولكنه عند الله عظيم، وإن كان في أعين الناس قليلًا؛ كما قال الله - تعالى -: ﴿وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾[النور: 15]، الشاهد ليس فيما تعتقده، أو تراه أنت، الشاهد فيما جاءت به النصوص من بيان مراتب الذنوب ومنازلها، وخطورتها، وشؤمها، وعظيم خطرها.
إذن، إذا وقعت في ذنب فلا تستسلم له، احذر أن تستسلم للذنب، استسلامك للذنب معناه أنك ستهلك، وستتسع دائرة الخطأ، لا تظن أن الخطر سيبقى محصورًا فيما تمارسه من خطأ، لا، الشيطان لن يرضى منك بهذا، اليوم يرضى منك بالصغير، وغدًا سيستدرجك للكبير، اليوم يوقعك في فعل المحرم، وغدًا سيدعوك إلى ترك الواجب، وهلمَّ جرًّا حتى تكون كمن قال الله - تعالى - فيهم: ﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ﴾ [المجادلة: 19]، انظر إلى التعبير القرآني الدقيق في بيان تسلط الشيطان، ومحاصرته للإنسان: ﴿اسْتَحْوَذَ﴾، الاستحواذ على الشيء هو التملك، وعلى وجه لا يمكن للشيء أن ينفك منه، فهو استحواذ بمعنى تمام التسلط، وتمام السيطرة، وتمام التمكن في تصريفك، وإيقاعك في المهالك؛ بهذا أخي لا تستسلم للخطأ حتى ولو كنت تقارفه، حتى لو كنت تواقعه، استشعر بالخطأ، وأنَّك على خطأ، وأنَّك بحاجة وضرورة إلى تركه، شتان بين من يقع في الخطأ ويقول: ربِّ اغفر لي، يا رب نجِّني، ربِّ لا تؤاخذني وأنا بهذه الحال، ربِّ تب علي، وبين من يواقع الخطأ وهو يرقص في قلبه، ومسرورٌ في نفسه أن حاز هذا الذنب، وأن وقع فيه، شتان بين هذا وذاك، هذا يوشك أن يهلك لاستسلامه وفرحه بالخطأ، وهذا يوشك أن يمنَّ الله عليه بالنجاة فيفيق، ويتوب إليه، ويرجع، ويستعتب.
من الضروري أن نعي هذه المعاني أثناء مواقعتنا للأخطاء، ولا تستسلم، بل بادر إلى التوبة والاستغفار مباشرة، لا تقل: غدًا ولا بعد غد، «خَير الخطَّائين التَّوَّابون»[تقدم]؛ فقابل كل خطأ بتوبة، ومن الناس من يقول: أخطئ، طيب أنا أخطأت، لكنِّي ما أضمن أني ما أرجع، اتركني أُؤَخر التوبة بعض الوقت حتى أشبع من الذنب، أشبع من الخطأ، ثم بعد ذلك أستغفر، من يضمن يستغفر؟ لا يا أخي، لا يا حبيبي، لا يا قرة العين، الأمر خطير، وقد لا تدرك أن تقول: أستغفر الله، قد لا تدرك أن تتوب إلى الله - عزَّ وجلَّ -، ما عندنا ضمان، لا ندري متى نرحل، النفَس يدخل وقد لا يخرج، أو يخرج وقد لا يدخل، فبالتالي نبادر إلى التوبة.
وإليك هذا النموذج الذي ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - في قصة رجل فيما رواه الإمام مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنَّ رجلًا ألمَّ بذنب؛ وقع في خطأ، فقال: «ربِّ إنِّي أذنبت ذنبًا فاغفره لي»، مباشرةً لَما أصاب الذنب لم يستسلم له، ولم يركن إليه، بل قال: اللهم اغفر لي ذنبي، كما في بعض الروايات، مباشرة، ثم يقول الله - تعالى - لهذا التواب الذي أذنب ذنبًا، وبادر في طلب الاستعتاب، قال: «أذنبَ عبدي ذنبًا فعلِم أنَّ له ربًّا يغفِر الذنبَ، ويأخُذ بالذنبِ، فغفَر اللهُ -تعالى- له، قال: اغفروا لعبدي»، لكن العبد وقع في خطأ، إما الأول، وإما ذنب آخر، قال: «ربَّ أذنبتُ ذنبًا، أو أصبتُ ذنبًا فاغفِرْه لي»، فقال الله تعالى: «علِم عبدي أنَّ له ربًّا يغفِرُ الذنبَ ويأخُذ به، غفرتُ لعبدي»؛ هذا فضل ومنَّة، وكرم منه -جلَّ في علاه-.
عاد إلى ذنب إما الأول، وإما غيره، ورجع إلى ربه، لم يمل من التوبة، بل كلما أحدث ذنبًا رجع إلى ربِّه، يقول: ربِّ أصبت ذنبًا، أو أذنبت ذنبًا فاغفره لي، الله لا يمل حتى تملوا، يقول الله تعالى: «علِم عبدي أنَّ له ربًّا يغفِرُ الذنبَ ويأخُذُ به، غَفَرتُ لعبدِي، ثم يقولُ: فلْيعمَلْ ما شاء»[صحيح البخاري:ح7507]، وفي بعض الروايات: «فاعمَلْ ما شئتَ؛ فقد غفرتُ لك». يعني ما دمت على هذه الحال، هذا المقصود بالحديث، ما دمت أنَّك تذنب، وتستغفر، وتستعتب، وتشعر بحرارة الذنب، وعِظم المخالفة؛ فيؤرقك هذا ويطرحك بين يدي ربك منيبًا، تائبًا، مستغفرًا، راجيًا رحمته، خائفًا من عقابه، فالله لا يخيب من أقبل عليه بالاستغفار والتوبة، ورجا ما عنده من رحمة، وبر، وحسن عطائه، الله كريم، «يبسُطُ يدَهُ بالليلِ ليتوبَ مسيءُ النهارِ، ويبسُطُ يدَه بالنهارِ ليتوبَ مسيءُ الليلِ حتى تطلُعَ الشمسُ من مَغرِبِها»[صحيح مسلم:ح2759/31] كما في صحيح الإمام مسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه.
إخواني، هذا ما ينبغي أن نكون عليه عندما نقع في الذنب ونتلبس به؛ أن نشعر بخطورة ما نحن فيه، أن نخاف أن يقبضنا الله - تعالى - على هذه الحال، وهذه المعاني القلبية تجعل الإنسان يبادر إلى التوبة؛ يعني أنت لما تقع في خطأ وأنت في أثناء الخطأ تخاف أن الله يقبضك على هذه الحال؛ أليس هذا حاملًا لك على أن تصوب حالك، وتصحح مسارك، وتعود إلى ربِّك، بلى والله، الذي يستشعر هذا المعنى حال مواقعته للذنب، وأنَّه قد يقبض الله - تعالى - روحه وهو على هذه الحال، فيُبعَث على حال المعصية، ويختم له بالإساءة؛ لا شك أنَّ ذلك سيحمله على المصارعة، والمبادرة إلى التوبة، والاستغفار؛ هذا مما يكون في أثناء الذنب.
أيضًا في أثناء الذنب قد يصاحبك شخص يزينه لك، نحن قلنا: توقي أصحاب السوء، لكن أيضًا عندما تقع قد تكون محاطًا بمن يزين لك المعصية، بمن يخففها في نفسك: يا أخي، ما هي مشكلة، وترى فيه ناس أكثر منك يفعلون، وهذا ما يضر، وما إلى ذلك، وبعدها نتوب، وما إلى ذلك مما يمارسه البعض. سيكون هذا دافعًا للاستمرار؛ وهذا معناه أنَّك تحتاج إلى أن تبعد عن صاحب السوء.
من هو صاحب السوء؟ هو كل من يدعوك إلى معصية الله، يزين لك الاستمرار في مخالفة أمر الله، يقعدك عن طاعة الله؛ فإنه صاحب سوء، أنقذ نفسك منه.
أمَّا المرحلة الثالثة من مراحل التخلص من الذنوب فهي ما بعد مواقعتها.
المذيع: لعلنا نتطرق إليه بعد أن نأخذ هذا الفاصل فضيلة الشيخ، مستمعينا الكرام، نتواصل معكم في هذه الحلقة المباشرة من برنامجكم"الدين والحياة"، وحديثنا مستمر عن التخلص من الذنوب، ويمكنكم مشاركتنا على هاشتاج برنامج "الدين والحياة"، وعبر الوسائل التي سوف نعلن عنها للتواصل مع هذا البرنامج، فاصل قصير، ثم نعود بعده لمواصلة هذه الحلقة، تفضلوا بالبقاء معنا.
من جديد، أهلًا ومرحبًا بكم مستمعينا الكرام إلى هذه الحلقة المباشرة من برنامجكم "الدين والحياة"، وحديثنا مستمر عن التخلص من الذنوب مع ضيفنا فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور: خالد بن عبد الله المصلح، حياك الله من جديد شيخ خالد، وقد تحدثنا في هذه الحلقة عن مقدمة حول هذا الموضوع، إضافة إلى الحالات التي يكون عليها الإنسان المسلم قبل الذنب وأثناء مواقعته، ولعلنا قبل أن نتحدث عن النقطة الثالثة، وهي الحالة التي يكون عليها المسلم بعد اقتراف الذنب، نأخذ بعضًا من الاتصالات والأسئلة، ثم نواصل - إن شاء الله - هذا الحديث، معنا اتصال أول من الشيماء.
السائلة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المذيع: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
السائلة: علاج البعد عن الذنوب أتحدث عنه في خمس نقاط:
أولًا: املأ بحب الله حياتك تهن عليك الدنيا كلها.
ثانيًا: استشعر حلاوة ولذة وطعم أسماء الله الحسنى بدوام القراءة فيها.
ثالثًا: اعلم أنَّه لا صغير مع إصرار، ولا كبير مع استغفار.
رابعًا: اصحب الصالحين ليدلوك على طاعة ربِّ العالمين.
خامسًا: حدد لنفسك هدفًا، وهو الفردوس الأعلى، والنظر إلى وجه الله صباحًا ومساءً، واعمل لها بإخلاص، فسوف تشعر بحلاوة ولذة ما بعدها لذة.
أسأل الله العظيم ربَّ العرش العظيم أن يمنَّ عليكم بالفرحة والسعادة في الدارين يا ربَّ العالمين.
المذيع: جزاكِ الله خيرًا أخت الشيماء، شكرًا على هذه المداخلة، وهذه النقاط المهمة التي ذكرتها في هذا الاتصال، شكرًا لك شيماء، وإلى أيضًا الاتصال الثاني من المستمع: أبو أحمد المترفي.
السائل: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المذيع: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
السائل: أول شيء نشكركم على هذا البرنامج، ونسأل الله - عزَّ وجلَّ - أن يجعله في ميزان حسناتكم، والمشاركة هي أن الإنسان يسوِّف ويقول: سوف، سوف، سوف، وكان أول هلاك بني إسرائيل التسويف، حتى هلكوا، ولكن كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «خيرُ الخطَّائين التَّوَّابون»[سبق]؛ فالإنسان كل ذنب يرجع إلى التوبة، وبإذن الله - عزَّ وجلَّ - الله - عزَّ وجلَّ - إذا علم من الإنسان الصدق، وعلم حقيقة قلبه أنَّه الإقلاع عن الذنب، بإذن الله - عزَّ وجلَّ - أنَّ الله - عزَّ وجلَّ - يحول بينه وبين هذه المعصية، ولا يسول له الشيطان حتى لو أنَّه وقع في الذنب مائة مرة. هذا والله أعلم وأحكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
المذيع: شكر الله لك أخي أبو أحمد على هذه المداخلة.
شيخ خالد، قبل أن نعلق على المداخلتين لعلنا نتحدث عن النقطة الثالثة التي كنتم تطرقتم بالإشارة إليها قبل أن نأخذ هذا الفاصل الأخير: عن حال المسلم بعد اقتراف الذنب كيف يكون؟ وكيف يمكن له أن يجد طريقًا لأن يتخلص، أو أن يتبرأ، أو أن يستعتب بعد اقتراف الذنب؟
الشيخ: هو يا أخي الكريم إذا وقع الإنسان في ذنب فينبغي له أن يبادر إلى التوبة إلى الله –تعالى - منه، حتى لو كان ذلك بعيدًا في الزمن؛ يعني الذنب الذي ينبغي أن نتوب منه كل ما كان من خطأ وذنب؛ ولهذا الأدعية النبوية في سؤال الله - عزَّ وجلَّ - مغفرةَ الذنوب لا تقتصر على ذنب قريب، أو بعيد، وإنما تشمل كلَّ ما يكون من الذنوب، فكان - صلى الله عليه وسلم - ما ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة يقول في سجوده: «اللهمَّ اغفِرْ لي ذنبي كلَّه؛ دِقَّه وجُلَّه، أوَّلَه وآخِرَه، علانِيَتَه وسِرَّه».[صحيح البخاري:ح483/216]
وهذا يتطلب من الإنسان أن يطلب العفو والمغفرة من الله، والتوبة، ليس فقط من الخطأ الحاضر الذي وقع فيه، بل من كل ذنب قارفه، ووقع فيه، قريب أو بعيد، صغير أو كبير، علمه أو لم يعلمه؛ ولهذا يستغفر الإنسان من الذنب الذي يعلمه، ومن الذنب الذي لا يعلمه، فإن طلب التوبة لا يقتصر فقط على ما يعلم من الذنوب، بل حتى على ما لا يعلمه من الذنوب مما قارفه ووقع فيه. والأدعية في هذا محفوظة عنه - صلى الله عليه وسلم - الشاملة لطلب المغفرة للذنب كله؛ علمته أو لم أعلمه؛ ولهذا ينبغي للإنسان أن يستحضر ذلك في خطاياه؛ وأن يستغفر من كل ذنب، ومن الذنب الذي يعلمه ويعيِّنه على وجه الخصوص.
فإذا وقع الإنسان في الذنب فليبادر إلى التوبة، والتوبة مدارها على الندم، والندم ما هو باعثه؟ لماذا يندم الإنسان على الخطأ؟ يندم على الخطأ لعلمه بأنه خالف الله - عزَّ وجلَّ - ، لعلمه بقدر الله وعظمته وقدرته - جلَّ وعلا - ، لعلمه بشؤم ما يمكن أن يترتب على هذا الذنب من آثار في العقوبة العاجلة والآجلة، من بواعث الندم: أن الإنسان إذا أخطأ فإنه يتعثر في سيره إلى الله - عزَّ وجلَّ - فيندم على ما فاته من خير الذي كان ينبغي أن يشغل نفسه به، كل هذه تبعث الندم في نفس الإنسان على ما كان من خطأ، وإذا استشعر الإنسان ندمه على الخطأ كان ذلك حاملًا له على التوبة؛ ولذلك جاء في الحديث «النَّدَمُ توبةٌ»[سنن ابن ماجه:ح4252، ومسند أحمد:ح3568، وصححه الألباني في صحيح الجامع:ح6802]؛ لأن الباعث عليها، المنشط لها، هو رُوحها التي متى وُجدت ساقت بقية الأسباب من الإخلاص لله - عزَّ وجلَّ - ، من الإقلاع عن المعصية، من العزم على عدم العودة، وإذا كانت خطيئة، أو ذنبًا يتعلق بحقوق الخلق ردَّها إليه، وبادر إلى رد المظالم إلى أهلها؛ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما جاء في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه -: «مَن كانت له مَظلِمَةٌ لأخيهِ من عِرضِه أو شيء فلْيَتَحَلَّلْه منه اليومَ قبل ألَّا يكونَ دينارٌ ولا درهمٌ، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدْرِ مَظلِمتِه» يعني في القيامة «وإن لم تكن له حسنات أُخذ من سيئاتِ صاحبِه فحمل عليه».[صحيح البخاري:ح2449] وهذا يدل على ضرورة المبادرة إلى التحلل من المعاصي والسيئات. من كانت عنده أيها الإخوة والأخوات مظلمة لأخيه في عرض، أو مال، أو نفس، أو غير ذلك فليتحلل منها اليوم؛ فإنه ليس ثمة دينار ولا درهم، إنما يؤخذ من حسناتك لمن ظلمت، فإن لم تكن لك حسنات أخذ من سيئات المظلوم فطرحت عليك؛ كل هذا يجعل الإنسان يبادر إلى إبراء ذمته من حقوق الخلق بردها، وإبراء ذمته من حقوق الله - عزَّ وجلَّ - بالتوبة والاستغفار، «والتائبُ مِنَ الذنبِ كمَن لا ذنبَ له»[سنن ابن ماجه:ح4250، والدعاء للطبراني:ح1807، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب:ح3145]، ولكن ينبغي أن يحرِصَ الإنسانُ على إتباعِ السيئاتِ الحسنةَ؛ ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - فيما جاء في حديث معاذ وأبي ذر: «اتقِ اللهَ حيثما كنتَ، وأتبِعِ السيئةَ الحسنةَ تَمحُها، وخالِقِ الناسَ بخُلُقٍ حسنٍ»[سنن الترمذي:ح1987، وقال:هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ]؛ فمع التوبة يحتاج الإنسان إلى أن يحدث صالحًا يعوِّض ما كان من خطأ ويثبت الحق والهدى الذي مُنَّ به عليه؛ يعني يثبت التوبة التي هداها الله - تعالى - إليه، فإن التوبة تثبت في الصالح من العمل، قال الله - تعالى -: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾ [طه: 82].
﴿تَابَ﴾؛ هذا فيما يتعلق بالإقلاع عن الذنب والندم عليه والإخلاص لله - عزَّ وجلَّ - ورد المظالم، ﴿وَآمَنَ﴾ صلح قلبه، ﴿وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ صلح ظاهره؛ صلح في الظاهر والباطن، ﴿ثُمَّ اهْتَدَى﴾ أي أدام صالح الأعمال ليمحو ما كان من سيئها، والله - عزَّ وجلَّ - يقول: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ [هود: 114] أي يزيلها.
واعلم أن إذهاب السيئات على أنواع: الحسنة تقيك السيئة، والحسنة تغفرها إذا وقعت فيها، وتزيل آثارها إذا تورطت فيها، «وأَتبِعِ السيئةَ الحسنةَ تَمْحُها».[تقدم]
جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يا رسول الله، إنِّي أصبتُ امرأةً في بعض طرق المدينة، فأصبتُ منها ما دون أن أمَسَّها، وما أشبه ذلك إلَّا أن يأتي الرجل امرأته»؛ يعني الجماع، ما جامعها، ما زنا بها «وها أنا ذا فاقضِ فيَّ ما شئتَ»، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ [هود: 114]، قال الرجل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: لي خاصة يا رسول الله؛ هذه الآية لي خاصة؟ قال: «بل للأُمَّةِ عامَّةً».[صحيح البخاري:ح4687]
فالحسنة تمحو السيئة «وأتبعِ السيئةَ الحسنةَ تَمحُها».
والحسنة ليست مقصورة على مال تبذله، الحسنة هي كل عمل صالح فيما يتعلق بالخلق في الإحسان إليهم، حتى الحيوان، النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر عن رجل أزال غصنًا من طريق المسلمين، فشكر الله له فغفر له[أخرج حديثه البخاري في صحيحه:ح652 أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ rقَالَ: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ فَأَخَّرَهُ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ»]، وأخبر عن بَغِيٍّ سقت كلبًا رحمةً به لما رأته يلهث من شدة العطش، فغفر الله لها.[أخرج حديثها مسلم في صحيحه:ح2245/154«أَنَّ امْرَأَةً بَغِيًّا رَأَتْ كَلْبًا فِي يَوْمٍ حَارٍّ يُطِيفُ بِبِئْرٍ، قَدْ أَدْلَعَ لِسَانَهُ مِنَ الْعَطَشِ، فَنَزَعَتْ لَهُ بِمُوقِهَا فَغُفِرَ لَهَا»]
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة فيما يتعلق بمغفرة الذنوب بسبب صالح أعمالنا.
مما ينبغي أن نحرص عليه للتخلص من الذنب: الإلحاح على الله في الحفظ بالدعاء، وسؤال الله - عزَّ وجلَّ - الثبات على الحق والهدى، النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في دعائه: «اللهمَّ يا مقلِّبَ القلوبِ ثبِّتْ قلبي على دينِكَ»[سنن الترمذي:ح2140, وقال:هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ]؛ فكان يدعو الله - عزَّ وجلَّ - ويلِح عليه بالدعاء أن يثبته على الحق، ومن التثبيت على الحق ألا يعود إلى السيئة.
من أسباب السلامة: التخلص من الذنوب بعد مواقعتها، والبعد عن كل من يردك إلى السيئة، بعض الناس يأتي ويشكو سيئة من السيئات، ويقول: أنا كيف أتخلص من هذه السيئة؟ وهو قد ورَّط نفسه بأن أحاطها بالأسباب الموقعة بالسيئة، أنت إذا عرفت أن هناك مرضًا انتشر في بلد، فتجنب هذا البلد، لا تأتِ إلى موضع المرض وتقول: كيف أسلم منه؟! فإن التعرض لأسباب العدوى توقعك فيه، ونحن الآن لو علمنا أن في بلد من البلدان انتشر وباء معدٍ تجد أن الناس ينأون بأنفسهم عن الذهاب إلى هذا المكان، وإذا اضطروا إلى الذهاب تجدهم يتخذون التدابير التي تظهر لهم السلامة من كمامات، وأسباب السلامة ونحو ذلك لتقليل احتمالية العدوى وانتقال المرض. السيئات أعظم مرض يمكن أن يصيب الإنسان؛ لأنه يصيبه في قلبه، ويصيبه في دينه، ويصيبه في صلته بربه، ويفسد عليه دنياه وآخرته، لو أصيب الإنسان بمرض من أمراض الدنيا كان له فيه أجر، وكان هذا سببًا لأن يناله أذى في دنياه، لكن قد تصلح آخرته بذلك، ولن تتضرر آخرته بما أصابه من مرض في الدنيا إذا صبر واحتسب، فكيف بهذه الأمراض التي هي من المهلكات التي تحبط على الإنسان معاشه ومعاده!
إذن نحن نحتاج إلى استحضار هذه المعاني في التخلص من الذنوب بعد مواقعتها، وأن نلجأ إلى الله - عزَّ وجلَّ - بالتوبة، والاستغفار، والدعاء، والعمل الصالح، والصحبة الطيبة، واستحضار أن المضي في الخطأ يوقع الإنسان في هلاك الله؛ كل هذه المعاني مما ينبغي أن يستحضرها الإنسان ليسلم من المعاصي وشؤمها إذا وقعت، ندعوا الله أن يتوب عليه وعليكم.
آخر ما أذكره فيما يتعلق بالتخلص من المعاصي هو الحرص على أسباب المغفرة، وما أكثر أسباب المغفرة لعلنا نخصص حلقة نستعرض فيها النصوص النبوية التي ذكر فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - المغفرة على أعمال كثيرة؛ الأذان: إجابته وقول: لا إله إلَّا الله، وحده لا شريك له، وسؤال الوسيلة مما يحط الله - تعالى - به عن الإنسان الذنوب والخطايا، ركعتان يحسن وضوءهما ويكون حاضر القلب فيهما كفيلتان بأن تحط عنه الخطايا، وغير ذلك من أحاديث كثيرة. أسأل الله أن ييسر لي ولكم.
المذيع: لعلنا نخصص حلقة -بإذن الله- للحديث عن مكفرات الذنوب، وعن الأعمال التي تيسر للإنسان مغفرة الذنب، وتجعل الإنسان من الذين يتوبون دون أن يعودوا إلى هذه الذنوب، شكرًا جزيلًا لكم فضيلة الشيخ، بارك الله فيكم وفي علمكم.
الشيخ: بارك الله فيكم، ونسأل الله أن يقبل منا وإياكم، ويتوب علينا وعليكم، ويحفظ بلادنا وولاتنا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.