إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِل له، ومَن يُضلل فلن تجد له وليًّا مُرشدًا.
وأشهد أن لا إله إلا الله إله الأولين والآخرين، رب العالمين لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهد أن مُحمدًا عبد الله ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومَن اتبع سنته واقتفى أثره بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون، فتقوى الله تجلب كل خيرٍ وتدفع عنكم كل شر، بها تدركون سعادة الدُنيا وفوز الآخرة، اللهم اجعلنا من عبادك المُتقين، وحزبك المُفلحين، وأوليائك الصالحين يا رب العالمين.
جاء رجلٌ إلى عُمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه -، فقال: يا أمير المؤمنين آيةٌ نزلت عليكم معشر المُسلمين، لو نزلت علينا معشر يهود لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا.
قال: أيُّ آيةٍ تلك؟
فقال: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا﴾المائدة:3.
فقال عُمر الفاروق - رضي الله تعالى عنه -: أما والله إني لأعلم أين نزلت، ومتى نزلت، نزلت على رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يوم الجُمعة وهو واقفٌ بعرفة.
هذه الآية الكريمة التي نزلت في ختم رسالة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - آيةٌ ينبغي لكل مؤمنٍ أن يقف معها، فإنها آيةٌ ذكر الله تعالى فيها كمال دينه، ورضاه - جل وعلا - على عباده فيما شرع لهم، والكمال والرضا يقتديان القبول والتسليم، وأنه ليس فوق هذا التشريع وهذا الدين دينٌ من الأديان، ليس فوق هذا الشرع شرعٌ، ولا فوق هذا الصراط صراطٌ يُوصِل إلى الله - عزَّ وجل -.
فأكمل الأديان وأرضاها للملك الديَّان هو ما جاء به خاتم النبيين مُحمدٌ - صلَّى الله عليه وسلَّم -؛ ولهذا أمر الله تعالى أهل الإيمان بلزوم ما جاء عن سيد الأنام - صلوات الله وسلامه عليه -؛ قال الله تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾الأنعام:153، وقال سبحانه: ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾الأعراف:3، وقال سبحانه: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾النساء:80.
وأمر الله تعالى بقبول كل ما جاء به الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم -، قَبول الأخبار بالتصديق، وقَبول الأحكام بالإذعان والانقياد، ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾الحشر:7؛ ولذلك حقٌّ على كل مؤمن يؤمن بالله ورسوله أن يلزم ما جاء به - صلَّى الله عليه وسلَّم -، وألَّا يخرج عن هديه لا في سرٍّ ولا علن، لا في عقدٍ ولا عمل، بل هو على طريقه - صلَّى الله عليه وسلَّم -؛ فإنَّ طريقه هو المُوصِل إلى كل سعادةٍ في الدنيا وفوزٍ في الآخرة؛ ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ﴾الأحزاب:21.
وحذَّر الله من مخالفة ما جاء به النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في العقائد والأعمال، فقال سبحانه: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾النور:63، وجعل الخروج عن سبيله ومُشاقة منهجه سببًا من أسباب العقوبة بالنار، فقال - جل وعلا -: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾النساء:115.
عباد الله؛ عليكم بمعرفة ما كان عليه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذا أردتم النجاة، عليكم بلزوم طريقه إذا أردتم السلامة، عليكم بالاحتفاء بهديه، والذب عن سنته إذا أردتم الجنة والدرجات العُلى؛ فإنَّ الله سدَّ الطُرُق المُوصلة إليه إلا طريقًا واحدًا هو ما كان عليه - صلَّى الله عليه وسلَّم -، ولذلك لا تُفتح الجنة إلا بشفاعته، ولا تُفتح إلا له، قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «أنا أول شفيعٍ في الجنة، فيأتي باب الجنة فيستأذن فيقول الخازن: مَن؟ فيقول: مُحمد، فيقول الخازن: بك أُمِرت لا أفتح لأحدٍ قبلك».
فمن أراد دخول الجنة فليلزم هديه وسنته وعمله، وما كان عليه - صلَّى الله عليه وسلَّم -، وليُعرِض عن كل ما عدا ذلك، فإن كل طريقٍ غير طريقه لا يُوصِل إلَّا إلى ضلالة.
اللهم اهدنا فيمن هديت، اسلُك بنا سبيل سيد المُرسلين - صلَّى الله عليه وسلَّم -، ألزمنا سُنته، وتبِّعنا آثاره، واحشرنا في زمرته، واجمعنا به في مُستقر رحمتك، أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
***
الحمد لله حمد الشاكرين، أحمده حق حمده، لا أُحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن مُحمدًا عبد الله ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومَن تبع سنته واقتفى أثره بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، اتقوا الله تعالى حق التقوى، وقوموا بما أمركم الله تعالى به، والزموا ما أمركم الله تعالى بلزومه من نهج رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -، فقد بيَّن لكم الدقيق والجليل من أمر الدين، فلم يبقَ شيءٌ إلا وقد وضَّحه، وبذلك شَهِدَ الله له بكمال التبليغ، ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا﴾المائدة:3.
عباد الله؛ إن الطُرق التي ابتُدعت وخرجت عن سبيله كثيرة، ولا سبيل لحصرها ولا معرفتها على وجه الإحاطة، فطُرق الابتداع والخروج عن سنة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لا حصر لها ولا عد، والشأن كل الشأن في معرفة الحق ولزومه، والإعراض عن كل ما يخرج عن سبيله؛ فإن ذلك هو المُوصل إلى سعادة الدُنيا وفوز الآخرة.
وقد كان الناس في صدر الرسالة على نحوٍ من الهداية والاستقامة ليس لديهم مُحدثات ولا عندهم ما يصرفهم عمَّا كان عليه عمل النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -، بقي الناس على هذا مُدَّةً وبُرهةً، فما زال الشيطان بهم يستزلهم في الدقيق والجليل، ويدعوهم إلى الانحراف والخروج حتى حدثت البِدع، وتنوعت الطُرق، وأحدث الناس في دين الله ما ليس منه، وكل إحداثٍ في الدين نقص، فليس ثمَّة في الدين من الحوادث والبدع ما يُكمله؛ لأن الدين قد كمُل وفرغ الله تعالى من تبليغ الناس دينهم، ودلالتهم على ما فيه صلاحهم، ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا﴾المائدة:3.
فالزموا ما جاء عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -؛ فإنكم مسؤولون عن إجابته لا عن إجابة غيره؛ فإن الناس يوم القيامة يُسألون فيُقال لهم: ﴿مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ﴾القصص:65، فهيِّئ لهذا السؤال جوابًا، هيِّئ لهذا السؤال جوابًا تنجُ به بين يدي الله - عزَّ وجل -؛ فإن الإجابة للرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم -.
ولا يغرَّنكم كثرة الضالين، فقد قال الله تعالى: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾الأنعام:116، وقال - جل وعلا -: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾يوسف:103، وقال - جل وعلا -: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ﴾الشعراء:8، فلا يغرَّنكم كثرة البدع وأهلها؛ فإن الشأن في لزوم ما كان عليه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم – وأصحابه؛ النجاة في ذلك، والسعادة في ذلك، والاستقامة في ذلك، والهُدى والفلاح والنجاح والصلاح، وانشراح الصدر، وطمأنينة القلب في لزوم ما كان عليه سيد الخلق - صلَّى الله عليه وسلَّم -، فالزموا هديه وليكن إمامًا لكم في الدقيق والجليل، صلوا كما رأيتموه يصلي، صلوا كما علمتم وعرفتم كيف صلاته - صلَّى الله عليه وسلَّم -، صوموا كما صام، زكوا كما زكَّى، خذوا عنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - أعمال عباداتكم كلها؛ فإنه -صلَّى الله عليه وسلَّم - لم يترك خيرًا إلا دلَّكم عليه، ولا شرًّا إلا حذَّركم منه.
أيها المؤمنون؛ «كل مُحدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة»، هكذا قال سيد الورى - صلَّى الله عليه وسلَّم -، ولا يُسوِّغ البدع ما يكون من دعوى محبة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -، ولا يُسوِّغ البِدع ما يزعمه أصحابُها من أنها ترجمةٌ لمحبتهم للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -، فالمحبة الحقيقية هي في لزوم هديه، في الذب عن سنته، في تعظيم شريعته، ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾آل عمران:31.
اللهم آمنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمتنا ووُلاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم وفِّق وُلاة أمرنا إلى ما تُحب وترضى، وفِّق ولاة أمور المُسلمين إلى تحكيم كتابك والعمل بسنتك، اجعلهم رحمةً لرعاياهم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم مَن أراد هذه البلاد وبلاد المُسلمين بسوءٍ أو شر فاجعل تدبيره تدميره، ورد كيده في نحره، اللهم عليك بأهل الفساد والشر والاعتداء، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجزونك، اللهم خيِّب سعيهم، ورد كيدهم في نحرهم واكْفِ المُسلمين شرهم ومكرهم يا ذا الجلال والإكرام.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
اللهم إنَّا نسألك من فضلك أن ترزقنا الاستقامة في السر والعلن، وأن تُتبع لنا الخيرات في الظاهر والباطن.
ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلًّا للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوفٌ رحيم.
اللهم صلِّ على مُحمد وعلى آل مُحمد؛ كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم؛ إنك حميدٌ مجيد.