إِنَّ الحَمْدَ للهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا وَسَيِّئاتِ أَعْمالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًا مُرْشِدًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إَِلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَُه، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنِ اتَّبَعَ سُنَّتَهُ وَاقْتَفَى أَثَرَهُ بِإِحْسانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ عِبادَ اللهِ؛ تَقْوَى اللهِ هِيَ وَصِيَّةُ اللهِ لِلأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾النساءَ:131، وَلا عَجَبَ أَنْ تَكُونَ هِذِهِ الوَصِيَّةُ هِيَ وَصِيَّةُ اللهِ تَعالَى لِلخَلْقِ أَجْمَعِينَ أَوَّلهِمْ وَآخِرِهِمْ، إِنْسِهِمْ وَجِنِّهِمْ، فَقَدْ أَوْصَىَ اللهُ تَعَالَى بِذَلِكَ أَشْرافَ النَّاسِ وَعُمُومَ الخَلْقِ، فَقالَ تَعالَى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾البقرة:21، فَطَرِيقُ تَحْقِيقِ التَّقْوَى تَحْقِيقُ العِبادَةِ للهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَلمْ يَجْعَلِ اللهُ هَذِهِ الوَصِيَّةَ لِلأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ إِلَّا أَنَّها ثَمَرَةُ تَحْقِيقِ الغايَةِ مِنَ الخَلْقِ.
فَإِنَّ اللهَ تَعالَى خَلَقَ الخَلْقَ لِغايَةٍ عُظْمَى، وَمَقْصِدٍ أَسْمَى قالَ اللهُ تَعالَى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾الذاريات:56، وقال سبحانه: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾الطلاق:12، فاللهُ خَلَقَنا لِنَعْرِفَهُ جَلَّ في عُلاهُ، وَلِنُحَقِّقَ لَهُ العِبادَةَ، فَهَذِهِ هِيَ الغايَةُ مِنَ الخَلْقِ، فالمُرادُ بِخَلْقِنا تَعَرُّفُنا عَلَى رَبِّنا جَلَّ في عُلاهُ، وَتَحْقِيقُ حَقِّهِ بِعِبادَتِهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، ثَُمَّ إِنَّ هَذا لَيْس سُدَىً، وَلا عَبَثاً، وَلَيْسَ شَيْئًا لا نِهايةَ لَهُ، بَلْ إِنَّ لَهُ عاقِبَةً وَغايَةً، وَهِيَ الغايَةُ المُرادَةُ بِالخَلْقِ، فَاللهُ أَرادَ مِنَّا عِبادَتَهُ، وَأَرادَ بِنا المُحاسَبَةَ وَالجَزاءَ عَلَى ذَلِكَ، فالمُرادُ بِنا هُوَ الجزَاءُ بِالعَدْلِ، وَالجزاءُ بِالفَضْلِ، وَالجزاءُ بِالثَّوابِ وَالعِقابِ، قالَ اللهُ تَعالَى: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى﴾النجم:31، وقال سبحانه: ﴿إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى﴾طه:15، فالله لم يخلق الناس عبسًا ولا سُدى، ﴿أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾القيامة:36، ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا﴾المؤمنون:115.
جَمِيعُ الخَلْقِ عَلَى اخْتِلافِ عُصُورِهِمْ وَأَمْصارِهِمْ وَأَحْوالهِمْ إِلَى اللهِ صائِرُونَ، فَالخَلْقُ كُلُّهُمْ مَرْجِعُهُمْ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- فَأَيُّ طَرِيقٍ سَلَكُوهُ، وَأَيُّ سَبِيلٍ وَلَجُوهُ فَإِنَّهُ يُؤَدِّي بِهِمْ إِلَى غايَةٍ وَاحِدَةٍ، وَنِهايَةٍ مُتَفَّقّةً، يَقُولُ اللهُ -جَلَّ وَعَلا-: ﴿يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ﴾الانْشِقاق:6، وَقالَ -جَلَّ وَعضَلا-: ﴿وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾آلِ عِمْرانَ:28، وَقالَ سُبْحانَهُ: ﴿إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ﴾الغاشية:25-26، وقالَ جَلَّ في عُلاهُ: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ﴾الأنعام:60-62، لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، كُلُّنا سّنُُرَدُّ إِلَى مَوْلانا الحَقِّ، ﴿ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ﴾الأنعام:62 لِلجَزاءِ إِثابَةً عَلَى الصَّالحِ وَمُعاقَبَةً عَلَى السَّيِّءِ، يَقُولُ اللهُ -جَلَّ وَعَلا-: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى﴾النَّجْم:39-40، نَعَمْ كُلُّنا إِلَى اللهِ صائِرٌ، ﴿وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ﴾يُونُس:46، فَأَيُّ سَبِيلٍ سَلَكْتَهُ، وَأَيُّ طَرِيقٍ وَلَجْتَهُ، وَأَيُّ مَدْخَلٍ دَخَلْتَهُ فَإِلَى اللهِ مَرْجِعُكَ وَمُنْتَهاكَ، ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾مريم:93، ما مِنَّا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيَلْقَى اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَيَنْتَهِي المآلُ إِلَيْهِ لِيَجْزِيَهُ عَلَى إِحْسانِهِ إِحْسانًا، وَعَلَى إِساءَتِهِ عَدْلًا، فَهُوَ -جَلَّ وَعَلا- الَّذِي يَتَقَلَّبُ عِبادُهُ بَيْنَ عَدْلِهِ وَفَضْلِهِ، ﴿لا ظُلْمَ الْيَوْمَ﴾غافر:17، ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا﴾يونس:44، ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾فصلت:46، ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾النحل:118.
إِنَّ غايَةَ الخَلْقِ التَّعَرُّفُ عَلَى اللهِ وَعِبادَتِهِ، وَمُنْتَهاهُ جَزاءُ العِبادِ عَلَى ذَلِكَ، ﴿وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا﴾مريم:95، تَخْرُجُ مِنْ هَذِهِ الدُّنْيا لَيْسَ مَعَكَ شَيْءٌ، تَخْرُجُ كَما جِئْتَ لَيْسَ مَعَكَ مالٌ وَلا جاهٌ، وَلا أَمْلاكٌ، وَلا حَشَمٌ، وَلا أَعْوانٌ، وَلا أَنْصارُ، بِلْ كُلُّ ذَلِكَ تَرَكْتَهُ خَلْفَ ظَهْرِكَ، كَما قالَ -جَلَّ وَعَلا-: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾الأنعام:94 عَلَى صِفَتِكُمْ الَّتي خُلِقْتُمْ عَلَيْها ذَلِكَ اليَوْمَ يَوْمَ خَرَجْتُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا، هَذا المَجِيئُ مَجِيءٌ عَظِيمٌ، مَجِيءٌ تَطِيرُ لَهُ الأَلْبابُ، وَتَذْهَلُ فِيهِ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ، تُوضَعُ فِيهِ مَوازِينُ القِسْطِ لِلحِسابِ في يَوْمٍ عَظيمٍ وَكَرْبٍ شَدِيدٍ يُسْأَلَ فِيهِ الإِنْسانُ عَنْ كُلِّ دَقِيقٍ وَجَلِيلٍ، ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ﴾المؤمنون:101، لا تَأْتِي يَوْمَ القِيامَةِ مِمَّا مَعَكَ في الدُّنْيا إِلَّا بِعَمَلِكَ وَنَسَبِكِ لَكِنَّ نَسَبَكَ لَنْ يَنْفَعُكَ، بَلْ كَما قالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾عَبَسَ:34-37، فَأَثْبَتَ أُبُوَّةً وَبُنُوَّةً، وَسائِرُ الصِّلاتِ الَّتي تَكُونُ بَيْنَ القَراباتِ، لَكَنَّ ذَلكَ لا يَنْفَعُ شَيْئًا، قالَ اللهُ تَعالَى: ﴿فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ﴾المؤمنون:101، لا يَنْفَعُكَ إِلَّا عَمَلُكَ، ﴿لَنْ تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾الممتحنة:3.
أَيُّها المؤْمِنُونَ عِبادَ اللهِ, إِنَّهُ مَوْقِفٌ عَظيمٌ، لا يُغْنِي فِيهِ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، لَنْ يَنْفَعُكَ قَراباتٌ، وَلا جاهٌ وَلا مالٌ، لا يَنْفَعُكَ إِلَّا عَمَلُكَ، سَيِّدُ الوَرَى يَقُومُ خَطِيبًا بَيْنَ قَراباتِهِ وَأَهْلِهِ، فَيَقُولُ: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ - أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا - اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ»، يَعْنِي أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ «لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتِ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا»البخاري(2753), ومسلم(206)، فَهَكَذا هِيَ حالُ سَيِّدِ الوَرَى أَعْظَمُ النَّاسِ جاهًا عِنْدَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- لا يَمْلِكُ لأَحَدٍ يَوْمَ القِيامَةِ نَفْعًا وَلا ضَرًا، لأَخَصِّ النَّاسِ وَأَقْرَبِهِمْ مِنْهُ.
لا يَنْفَعُكَ إِلَّا عَمَلُكَ، أَنْتَ مُرتهِنٌ بِهِ، ما تَسْعاهُ لَيْلًا وَنَهارًا، ما تَكْسِبُهُ سِرًا وَإِعْلانًا كُلُّ ذَلِكَ في كِتابٍ، لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً، ﴿إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾الجاثية:29، قالَ جَلَّ في عُلاهُ: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾المدثر:38.
عِبادَ اللهِ, ذَلِكَ اليَوْمُ يَوْمٌ عَظيِمٌ، يُنادِي فِيهِ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَيَسْأَلُ اثْنَيْنِ مِنَ النَّاسِ: يَسْأَلُ المُرْسَلِينَ، وَيَسْأَلُ مَنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ كَما قالَ جَلَّ في عُلاهُ: ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ﴾الأعراف:6، فالسُّؤالُ مَوُجَّهٌ إِلَى اثْنَيْنِ: إِلَى الرُّسُلِ الَّذينَ جاءُوا مِنَ اللهِ بِالبَلاغِ وَالهِداياتِ وَالدِّلالَةِ عَلَى الطَّرِيقِ المُسْتَقِيمِ، وَالسُّؤالُ الآخَرُ لجِمِيعِ الخَلْقِ الَّذِينَ بَلَغَتْهُمُ الرِّسالَةُ ما الَّذي صَنَعْتُمُوهُ, ما الَّذِي سَيُسْأَلُهُ النَّاسُ يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ؟ سَيَسْأَلُ اللهَ تَعالَى الرُّسَلَ فَيَقُولُ: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ﴾المائدة:109، فَيَقُولُونَ لا عِلْمَ لَنا، لا يَعْلَمُونَ مَنْ أَجابَهُمْ مِمَّنْ لمْ يُجِبْهُمْ، وَالسُّؤالُ الآخَرُ لي وَلَكَ، وَلِكُلِّ مَنْ بَلَغَتْهُ الرِّسالَةُ، ﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ﴾القصص:65، بِأَيِّ شَيْءٍ قابَلْتُمْ دَعْوَةَ الرُّسُلِ، بِأَيِّ شَيْءٍ قابَلْتُمْ الأَوامِرَ وَالنَّواهِيَ، بِأَيِّ شَيْءٍ قابَلْتُمْ ما جاءَتْ بِهِ هِداياتُهُمْ، بِماذا أُجْبْتُمْ ما في القُرْآنِ مِنَ الأَمْرِ وَالنَّهْيِ، يَقُولُ اللهُ تَعالَى: ﴿وَإِنَّهُ﴾الزخرف:44 أَيْ القُرْآنُ ﴿لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ﴾الزخرف:44، عَنْ أَيِّ شَيْءٍ؟ عَمَّا فِيهِ مِنَ الهَداياتِ، عَمَّا فِيهِ مِنَ الأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَماذا صَنَعْنا وَكَيْفَ فَعَلْنا.
إِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلا- لَنْ يَتْرُكَ أَحَدًا مِنْ سُؤالٍ يَوْمَ القِيامَةِ، فَالجَمِيعُ مَسْؤُولٌ، قالَ اللهُ تَعالَى في مُحْكَمِ كِتابِهِ: ﴿وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ﴾الإسْراءُ:36 كُلُّ الآلاتِ وَالطَّاقاتِ وَالقُدُراتِ الَّتي مَنَحَكَ اللهُ إِيَّاها سَتُسْأَلُ عَنْها، ﴿وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾الإسراء:36، إِنَّكَ سَتُسْأَلُ عَنْ سَمْعِكَ، وَعَنْ بَصَرِكَ، وَعَنْ قُوَّتِكَ، وَعَنْ كُلِّ أَحْوالِكَ، عَنْ قَوْلِكَ، وَعَمَلِكَ، عَنْ سِرِّكَ وَإِعْلانِكَ، ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾الحجر:92، قَسَمٌ يُقْسِمُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنَّهُ لَنْ يَتْرُكَ أَحَدًا مِنْ سُؤالٍ.
عن ماذا يُسأل الناس؟ ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾الحجر:92-93، فسيسألك الله تعالى عن كل دقيقٍ وجليل، قال-صلَّى الله عليه وسلَّم-: «وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ»البخاري(5550), وَمُسْلِمٌ(1679)، ما مِنَّا إِلَّا مَسْؤُولٌ، وَهَذا السُّؤالُ لَيْسَ سُؤالَ اسْتِعْلامٍ وَاسْتِفْهامٍ، لَيْسَ سُؤالَ مَنْ لا يَعْرِفُ وَلا يَعْلَمُ، وَلا يُحِيطُ بِما يَكُونُ مِنَ العِبادَ، بَلْ هُوَ سُؤالُ العَلِيمِ الخَبْيرِ، ﴿أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾الملك:14، سَيَسْأَلُكَ اللهُ تَعالَى عَنِ العَهْدِ الَّذي أَخَذَهُ عَلَيْكَ بِعبادَتِهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَعَنْ سائِرِ العُهُودِ وَالعُقُودِ الَّتي تَكُونُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الخَلْقِ، يَقُولُ اللهُ تَعالَى: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾الإسراء:34.
إِنَّكَ سَتُسْأَلُ عَنِ النَّعيمِ الَّذي تَعِيشُ فِيهِ، ثَوْبُكَ، طَعامُكَ، شَرابُكَ، مَرْكَبُكَ، مَسْكَنُكُ، كُلُّ نَعِيمٍ تَنَعَّمْتَ بِهِ سَتُسْأَلُ عَنْهُ، ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾التكاثر:8، نَعَمْ لتُسْألُنَّ، سَيَسْأَلُكَ اللهُ عَنْ هَذا النَّعِيمِ الَّذي تَنَعَّمْتَ بِهِ أَأَطَعْتَ اللهَ فِيهِ وَصَرَفْتَهُ فِيما يُحِبُّ وَيَرْضَى، أَمِ اسْتَعْمَلْتَهُ فِيما يُغْضِبُهُ، أَأَثْنَيْتَ عَلَيْهِ وَشَكَرْتَهُ بِقَلْبِكَ وَلِسانِكَ أَمْ أَضَفْتَهُ إِلَى غَيْرِهِ كَما قال -جَلَّ وَعَلا-: ﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ﴾الواقعة:82، سَتُسْأَلُ عَنِ النَّعِيمِ.
وَلا يَظُنُّ ظانٌّ أَنَّ النَّعِيمَ هُوَ قُصُورٌ فارِهَةٌ فَقَطْ، وَمَراكِبُ جَمِيلَةٌ، وَبُيوتٌ مُشَيَّدَةٌ، وَفُرُشٌ وَثِيرَةٌ بَلْ حَتَّى أَقَلَّ ما يُكُونُ مِنَ النَّعِيمُ سَتُسْألُ عَنْهُ، خَرَجَ رَسُولُ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جائِعًا ذاتَ يَوْمٍ، فَلَقِيَ في الطَّرِيقِ أَبا بَكْر، فَقالَ: «ما أَخْرَجَكَ يا أَبا بَكْرٍ»، قالَ: أَخْرَجَني الجُوعُ يا رَسُولَ اللهِ، فَقالَ: «لَقَدْ أَخْرَجَنِي الَّذي أَخْرَجَكَ»، ثُمَّ لَقِيَ عُمَرُ، فَقالَ: «ما أَخْرَجَكَ يا عُمَرُ»، فَقالَ: أَخْرَجَني الجُوعُ يا رَسُولَ اللهِ، فَقالَ: « أَخْرَجَني الَّذي أَخْرَجَكَ»، فَذَهَبَ الثَّلاثَةُ رَسُولُ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ إِلَى بُسْتانٍ لأَحَدِ الأَنْصارِ، فَأَضافَهُمْ في قِصَّةٍ مَعْرُوفَةٍ في السِّيرَةِ وَفي دَوَاوينِ السُنَّة، أَكَلَ الجَمِيعُ بِشَيْءٍ يَسيرٍ مِنَ الرُطَبِ، وَالبُسْرِ، وَالتَّمْرِ، فَقَدْ جاءَهُمْ بِعَرَقٍ فِيهِ تِمْرٌ، وَرُطَبٌ، وَبُسْرٌ، فَبَعْدَ أَنْ أَصابُوا ما أَصابُوا مِنْ ذَلِكَ، وَقامُوا وَقَدْ خَرَجُوا بِما يَحْتاجُونَهُ مِنْ طَعامٍ، وَكانُوا قَدْ خَرَجُوا جَوْعَى، فَقالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا النَّعِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»مسلم(2038).
سَفَرُنا ما الَّذي يُقَدَّمُ فِيها، أَطْعِمَتُنا ما هِيَ أَلْوانُها وَأَصْنافُها، أَلْبِسَتُنا كَيْفَ هِيَ؟ أَأَصابَكُمْ يَوْمًا جُوعٌ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ تَطْلُبُونَ ما يَسُدُّ جَوْعَتَكُمْ؟ أَكْثَرُنا لمْ يُصِبْهُ ذَلِكَ، وَقَدْ أَصابَ سَيِّدَ الوَرَى، وَيَقُولُ مُذَكِّرًا لأَصْحابِهِ ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾التكاثر:8.
أَقُولُ هَذا القَوْلَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لي وَلَكُمْ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
إِنَّ الحَمْدَ للهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا وَسَيِّئاتِ أَعْمالِنا، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنِ اتَّبَعَ سُنَّتَهُ وَاقْتَفَىَ أَثَرَهُ بِإِحْسانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ, أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ عِبادَ اللهَ، اتَّقُوا اللهَ تَعالَى حَقَّ التَّقْوَى، وَاحْفَظُوا اللهَ في غَيْبِكُمْ وَشَهادَتِكُمْ، وَسِرِّكُمْ وَإِعْلانِكُمْ؛ فَإِنَّكُمْ سَتُسْأَلُونَ عَنْ كُلِّ أَحْوالِكُمْ دَقِيقِها وَجَلِيلِها، ما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَسَيُكَلِّمُهُ اللهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمانُ، وَاللهُ تَعالَى يَسْأَلُ العَبْدَ عَنْ إِنْعامِهِ، وَإِحْسانِهِ، فَيُؤْتَى بِالرَّجُلِ الكافِرِ يَوْمَ القِيامَةِ، فَيِقُولُ لَهُ اللهُ جَلَّ في عُلاهُ: «أَلَمْ أُكْرِمْكَ، وَأُسَوِّدْكَ، وَأُزَوِّجْكَ، وَأُسَخِّرْ لَكَ الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ، وَأَذَرْكَ تَرْأَسُ وَتَرْبَعُ؟»، فَيَقُولُ: «بَلَى يا رَبُّ»، فَيَقُولُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- هَذِهِ النِعَمُ سَأَلَهُ عَنْها حَقُّها أَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ وَلا شَرِيكَ لَهُ، فَيَأْتِي السُّؤالُ: «أَفَظَنَنْتَ أَنَّكَ مُلَاقِيَّ؟»أَيْ سَتَرْجِعُ إِلَيَّ وَأُحاسِبُكَ؟ فَيَقُولُ: لا يا رَبُّ، فَيَقُولُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: «اليَوْمَ أَنْساكَ كَما نَسِيتَنِي»مُسْلِمٌ (2968)، اليَوْمَ أَتْرُكُكَ في نارِ جَهَنَّمَ، في العَذابِ الأَلِيمِ كَما تَرَكْتَ أَمْرِي يَوْمَ العَمَلِ وَالسَّعْيِ، وَما يَكُونُ في الدُّنْيا مِنْ تكالِيفَ.
نَعَمْ إِنَّنا سَنُسْأَلُ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- عَنْ كُلِّ ما يَكُونُ مِنْ أَحْوالِنا، وَقَدْ جاءَ الحَدِيثُ بِالخَبَرِ عَنْ أَرْبَعَةِ أَسْئِلَةٍ، يَقُولُ النَّبِيُّ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لَنْ تَزُولَ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ»الترمذي(2417), وَقالَ: حَسَنٌ صَحيحٌ، وَهَذا أَوْسَعُ سُؤالٍ يَشْمَلُ كُلَّ ما يَكُونُ في حَياتِكَ، وَعُمُرِك الَّذي سَتُسْأَلُ عَنْهُ هُوَ مِنْ جَرَيان قَلَمِ التَّكْلِيفِ مِنَ البُلُوغِ إِلَى المماتِ سَتُسْأَلُ عَنْ كُلِّ دَقِيقٍ وَجَلِيلٍ، وَأَنا أَقُولُ لِنَفْسِي وَلَكُمْ: لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَسْأَلَ أَنْفُسَنا عَنِ البارِحِ ماذا صَنَعْنا؟ فَهَلْ عِنْدَنا جَوابٌ نُسَرُّ بِهِ، وَهَلْ عِنْدَنا ما يَكُونُ مُبَيِّضًا لِصَحائِفِنا، مُبَيِّضًا لِوُجُوهِنا يَوْمَ العَرْضِ عَلَى اللهِ -عز وجل-، بحاجة إلى أن نُكثر من الاستغفار، وإلى أن نستذكر أننا سنُوقَف لِلسُّؤالِ، وَأَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- لَنْ يَتْرُكَ دَقِيقًا وَلا جَلِيلًا إِلَّا وَقَدْ أَحْصاهُ، وَعَلَيْهِ يَجْرِي الحِسابُ بِالجَزاءِ وَالثَّوابِ، وَالعَطاءِ وَالعِقابِ، فَكُنْ عَلَى حَذَرٍ مِنْ لحَظاتِ عُمُرِكَ؛ فَسَتُسْأَلُ عَنْ كُلِّ ما فِيهِ، «لن تَزُولَ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (مِنَ المَوْقِفِ) حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ وَعَنْ عِلْمِهِ فِيما عَمِلَ فِيهِ»التِّرْمِذِيُّ(2417), وَقالَ: حَسَنٌ صَحيحٌ، كُلُّ ما تَعَلَّمْتَهُ ماذا صَنَعْتَ بِهِ، فَأَنْتَ مَسْؤُولٌ عَنْ عُلُومِكَ، وَالعِلْمُ هُنا لا يَقْتَصِرُ فَقَطْ عَلَى العُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، بَلْ كُلُّ عِلْمٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ عَمَلٌ، سَيَسْأَلُكَ اللهُ أَخْرَجَنا مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِنا لا نَعْلَمُ شَيْئًا، وَجَعَلَ لَنا السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالأَفْئِدَةَ العُقُولَ الَّتي نُدْرِكُ بِها لأَجْلَ أَنْ نُحَقِّقَ طَاعَتَهُ، فَهَلْ حَقَّقْنا ذَلِكَ أَوْ لا؟ ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾النحل:78، أَيْ رَجاءَ وَلأَجِلْ أَنْ تَشْكُرُوهُ، وَشُكْرُهُ بِعِبادَتِهِ، وَهَذِهِ هِيَ الَّتي تَخَلَّفَتْ في حالِ كَثِيرٍ مِنَ الخَلْقِ كَما قالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلا-: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾سبأ:13.
ستُسألُ يومَ القيامَةِ عنْ مالِكَ منْ أَينَ اكتسبتَهُ وفيمَ أنفقتَهُ، وَسلِ اليوْمَ نَفْسَكَ عمَّا في رصيدِكَ، وعمَّا في جيبِكَ، وَعمَّا في يدِكَ، وعنْ مَسْكَنِكَ، وعَنْ أَمْلاكِكَ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبْتَها، وَفِيما صَرَفْتَها، أَعِدَّ لهذا السُّؤالِ جَوابًا؛ فَإِنَّكَ سَتُسْأَلُ عَنْهُ إِنْ كانَ كَسْبًا طَيِّبًا فَذَاكَ نِعْمَةُ اللهِ عَلَيْكَ، فَاصْرِفْهُ فِيما يُحِبُّ وَيَرْضَى، فَنِعِمَّ المالُ الصَّالِحُ لِلعَبْدِ الصَّالِحِ، وَإِنْ كانَ قَدْ جاءَكَ مِنْ طَرِيقٍ مُحرَّمٍ فَبادِرْ إِلَى الخَلاصِ مِنْهُ إِنْ كانَ لمُعيَّنٍ فرُدَّ الحَقَّ إِلَى أَهْلِهِ؛ فَإِنَّ الجَزاءَ يَوْمَ القِيامَةِ بِالحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ، وَإِنْ كانَ مِنْ طُرقٍ لا حَقَّ فِيها لمُعيَّنٍ، أَوْ جَاءَكَ بِرِضًا مِنْهُ كَمالِ الرِّبا، أَوْ مالٍ مُيَسِّرٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَأَخْرِجْهُ تَخَلُّصًا، وَتُبْ إِلَى اللهِ مِنْ ذَلِكَ؛ فَالتَّوْبَةُ تَهْدِمُ ما كانَ قَبْلَها.
سَيَسْأَلُكَ اللهُ -جَلَّ وَعَلا- عَنْ شَبابِكَ فِيما أَمْضَيْتَهُ؛ فَإِنَّ الشَّبابَ زَهْرَةُ العُمُرِ، وَهُوَ وَقْتُ اكْتِمالِ القُوَى فَمَنْ حَفِظَهُ وَصَرَفَهُ فِيما يُحِبُّ رَبَّهُ وَيَرْضَى كانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِنَجاتِهِ، وَلا تَنْسَى: «سبعةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ وَمِنْهُمْ شابٌ نَشَأَ في طاعَةِ اللهِ»البخاري(660), وَمُسْلِمٌ(1031)، وَفي رِوايَةٍ لِلحَدِيِثِ: « وَعَنْ جَسَمهِ فِيمَا أَبْلاهُ»أَخْرَجَهُ الدَّارِامِيُّ(554)بِإِسْنادٍ حَسَنٍ،أَعْطاكَ اللهُ قُوَّةً في بَدَنِكَ مِنْ سَمْعٍ وَبَصَرٍ، وَسائِرِ ما مَنَّ بِهِ عَلَيْكَ مِنَ القُدُراتِ، سَيَسْأَلُكَ اللهُ عَنِ ذَلِكَ كَيْفَ اسْتَعْمَلْتَهُ، وَهَلْ شَكَرْتَ اللهَ عَلَيْهِ، فَإِذا كُنْتَ كَذَلِكَ فاحْمَدِ اللهَ وَاسْتَزِدْ مِنَ الخَيْرِ فَإِنَّ الحَيَّ لا تُؤْمَنُ عَلَيْهِ فِتْنَةٌ.
الَّلهُمَّ اسْتَعْمِلْنا في طاعَتِكَ، وَاصْرِفْ عَنَّا مَعْصِيَتَكَ، أَعِنَّا عَلَى ما تُحِبُّ وَتَرْضَىَ يا ذا الجَلالِ وَالإِكْرامِ، وَاصْرِفْ عَنَّا السُّوءَ وَالفَحْشاءَ، الَّلهُمُّ اجْعَلْنا مِمَّنْ يَرِدُ الموْقِفَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ، وَاجْعَلْنا مِنْ أَهْلِ الأَمْنِ يَوْمَ الفَزَعِ العَظِيمِ، الَّلهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ جَمالَ الحالِ، وَحُسْنَ المآلِ والمُنْقَلَبِ يا ذا الجلالِ وَالإِكْرامِ.
رَبَّنا آتِنا في الدُّنْيا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ، رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسِرِينَ، الَّلهُمَّ آمِنَّا في أَوْطانِنا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنا وَوُلاةَ أُمُورِنا، وَاجْعَلْ وِلايَتَنا فِيمَنْ خافَكَ وَاتَّقاكَ وَاتَّبَعَ رِضاكَ يا رَبَّ العالمينَ.