×
العربية english francais русский Deutsch فارسى اندونيسي اردو

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأعضاء الكرام ! اكتمل اليوم نصاب استقبال الفتاوى.

وغدا إن شاء الله تعالى في تمام السادسة صباحا يتم استقبال الفتاوى الجديدة.

ويمكنكم البحث في قسم الفتوى عما تريد الجواب عنه أو الاتصال المباشر

على الشيخ أ.د خالد المصلح على هذا الرقم 00966505147004

من الساعة العاشرة صباحا إلى الواحدة ظهرا 

بارك الله فيكم

إدارة موقع أ.د خالد المصلح

خطب المصلح / خطب مطبوعة / خطبة: وفاة النبي صلى الله عليه وسلم

مشاركة هذه الفقرة WhatsApp Messenger LinkedIn Facebook Twitter Pinterest AddThis

الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله.   أما بعد.   الحمد لله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم، لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، حكم سبحانه بالموت على جميع الأنام، فكل ذي روح لا بد وأن يذوق طعم السام ﴿كل نفس ذائقة الموت)+++ سورة الأنبياء: 35--- وإن طال بها المقام. أحمده سبحانه، فقد قال: ﴿كل من عليها فان)+++ سورة الرحمن: 26---. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، المتفرد بالبقاء والكمال دون نقصان، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، سيد ولد آدم، خير من  صلى وصام، بعثه الله بالهدى والفرقان. أيها المؤمنون. اتقوا الله حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، واشكروا الله تعالى على نعمه الكثيرة، التي من أجلها وأعظمها بعثة النبي  صلى الله عليه  وسلم ، وإرساله إليكم؛ ليخرجكم من الظلمات إلى النور، فإن الله تعالى قد أرسله بالهدى ودين الحق، بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا، أنعم به على أهل الأرض نعمة، لا يستطيعون لها شكورا، فإنه  صلى الله عليه  وسلم  بلغ وأنذر، وقام لله قومة لم يقمها أحد من الناس قبله، ولن يقومها أحد بعده، فما زال  صلى الله عليه  وسلم  منذ قال له الله تعالى: ﴿قم فأنذر)+++ سورة المدثر: 2--- قائما بأمر الله، يبلغ الرسالة، ويؤدي الأمانة، وينصح الأمة، فأتم الله به النعمة، فأشرقت برسالته الأرض بعد ظلماتها، وتألفت به القلوب بعد شتاتها، وامتلأت به الدنيا نورا وابتهاجا، ودخل الناس في دين الله أفواجا، فلما أكمل الله به الدين، وأتم به النعمة على عباده المؤمنين، استأثر به جل وعلا، ونقله إلى الرفيق الأعلى، والمحل الأسنى. أيها المؤمنون. إن حياة النبي  صلى الله عليه  وسلم كلها، من أولها إلى آخر لحظة فيها من أعظم دلائل صدقه، وعلامات نبوته، فهي تقتضي تصديقه ضرورة، وتشهد بأنه رسول الله حقا. أيها المؤمنون. إن خطبة اليوم عن نبأ عظيم، وخطب جليل، بل هو من أعظم الأحداث التي مرت بأمة الإسلام، إنه نبأ وفاة النبي  صلى الله عليه  وسلم ، ذلك النبأ الذي أذهل العقول وطير الألباب، ففي سنة إحدى عشرة من الهجرة النبوية، دهى المدينة خطب، لا عزاء له، ففي أواخر صفر في تلك السنة بدىء برسول الله  صلى الله عليه  وسلم ، وكان أول ذلك صداع، ألم برأسه  صلى الله عليه  وسلم ، ثم حرارة متقدة، كانوا يجدون سورتها -؛أي: شدتها- فوق العصابة، التي عصب بها رأسه، وثقل برسول الله  صلى الله عليه  وسلم المرض، فجعل يسأل أزواجه: أين أنا غدا؟ أين أنا غدا؟ ففهمن مراده، فأذن له  صلى الله عليه  وسلم  أن يكون حيث شاء، فانتقل  صلى الله عليه  وسلم  إلى بيت عائشة رضي الله عنها، معصوب الرأس، تخط رجلاه في الأرض، واشتدت وطأة المرض على رسول الله  صلى الله عليه  وسلم في بيت عائشة رضي الله عنها، فقال  صلى الله عليه  وسلم : «أهريقوا علي سبع قرب، لم تحلل أوكيتهن لعلي أعهد إلى الناس»+++ أخرجه البخاري (195) من حديث عائشة رضي الله عنها.---، ففعلن رضي الله عنهن، ثم خرج إلى الناس ف صلى بهم وخطبهم، وكان ذلك يوم الأربعاء، قبل خمسة أيام من وفاته، وكان مما قال في خطبته تلك: «إن عبدا خيره الله بين الدنيا وبين ما عند الله، فاختار ما عند الله» ، فبكى أبو بكر  رضي الله عنه ، فعجب الصحابة لبكائه، قال الراوي: فكان المخير رسول الله  صلى الله عليه  وسلم ، وكان أبو بكر  رضي الله عنه أعلمنا. فقال رسول الله  صلى الله عليه  وسلم : «لا تبك يا أبا بكر، إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقى في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر»+++ أخرجه البخاري (3691)، ومسلم (2382) من حديث أبي سعيد الخدري  رضي الله عنه ---، وكان مما قاله في خطبته تلك: «أوصيكم بالأنصار فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم»+++ أخرجه البخاري (3588)، ومسلم (2510) من حديث أنس  رضي الله عنه --- ،ثم عاد النبي  صلى الله عليه  وسلم إلى بيته بعد خطبته تلك، وفي يوم الخميس اشتد برسول الله  صلى الله عليه  وسلم وجعه، فقال: «ائتوني أكتب لكم كتابا، لا تضلوا بعده أبدا»، فاختلفوا عنده في المجيء بالكتاب، فقال: «دعوني، فالذي أنا فيه خير مما تدعونني إليه»+++ أخرجه البخاري (114)، ومسلم (1637) من حديث ابن عباس  رضي الله عنه .---. ومع شدة مرضه كان يخرج يصلي بالناس، حتى كان ذلك اليوم، ف صلى بهم المغرب، وعند العشاء زاد عليه الوجع، فلم يستطع الخروج إلى المسجد، فأرسل إلى أبي بكر  رضي الله عنه أن يصلي بالناس، فصلى بهم أبو بكر ما بقي من الصلوات في حياة النبي  صلى الله عليه  وسلم ، وفي أثناء تلك الأيام العصيبة وجد  صلى الله عليه  وسلم من نفسه خفة، فخرج بين رجلين لصلاة الظهر، وأبو بكر يصلي بالناس، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر، فأومأ إليه النبي  صلى الله عليه  وسلم ألا تأخر، فجلس جنب أبي بكر، فجعل أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله صلى الله عليه  وسلم ، والناس يصلون بصلاة أبي بكر، والنبي  صلى الله عليه  وسلم قاعد، واستمر المرض بالنبي  صلى الله عليه  وسلم . وفي فجر يوم الاثنين، الثاني عشر من ربيع الأول، عام أحد عشر من الهجرة أقبل المؤمنون إلى مسجد رسول الله  صلى الله عليه  وسلم ، واصطفوا لصلاتهم خلف أبي بكر رضي الله عنه، فبينا هم كذلك رفع رسول الله  صلى الله عليه  وسلم الستر المضروب على منزل عائشة رضي الله عنها، وبرز للناس، فكاد المسلمون يفتتنون في صلاتهم؛ ابتهاجا برؤيته  صلى الله عليه  وسلم ، فأخذوا يفسحون له مكانا، فأشار بيده أن اثبتوا على صلاتكم، وتبسم  صلى الله عليه  وسلم فرحا بهم، قال أنس  رضي الله عنه : ما رأيت رسول الله أحسن هيئة منه في تلك الساعة، ثم رجع وأرخى الستر، وانصرف الناس، وهم يظنون أن رسول الله  صلى الله عليه  وسلم قد أفاق من وجعه وبرأ، إلا أن الأمر كان بخلاف ذلك، حيث لم يأت على النبي  صلى الله عليه  وسلم وقت صلاة أخرى، بل اشتد المرض عليه، ونزل به في صباح يوم الاثنين، فطفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك: «لعنة الله على اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما صنعوا»+++ أخرجه البخاري (1265)، ومسلم (529) من حديث عائشة رضي الله عنها--- ،فكانت هذه إحدى وصاياه عند موته، وكان يقول: « اللهم أعني على سكرات الموت»+++ أخرجه الحاكم (3731) وصححه.--- من شدة ما نزل به، وكان  صلى الله عليه  وسلم يردد وهو في تلك الحال: « الصلاة، وما ملكت أيمانكم» ، قال أنس: ( حتى جعل يغرغر بها في صدره، وما يفيض بها لسانه )+++ أخرجه أحمد (12190)، وابن ماجه (2697) من حديث أنس  رضي الله عنه --- ، وكان مما أوصى به عند موته: «أن أخرجوا المشركين من جزيرة العرب»+++ أخرجه البخاري (3053)، ومسلم (4319) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.---، فلما ثقل رسول الله  صلى الله عليه  وسلم جعل يتغشاه الكرب، فقالت فاطمة رضي الله عنها لما رأت ما نزل بأبيها: وا كرب أبتاه، فقال  صلى الله عليه  وسلم : « ليس على أبيك كرب بعد اليوم»+++ أخرجه البخاري 4193، من حديث أنس  رضي الله عنه ---، فلما ارتفع ضحى ذلك اليوم نزل برسول الله  صلى الله عليه  وسلم ، فأسندته عائشة رضي الله عنها إلى صدرها، قالت رضي الله عنها: إن من نعم الله علي أن رسول الله  صلى الله عليه  وسلم توفي في بيتي، وفي يومي، وبين سحري ونحري، وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته؛ وذلك أن عبد الرحمن بن أبي بكر دخل وبيده سواك يستاك به، فنظر إليه رسول الله  صلى الله عليه  وسلم ، قالت عائشة رضي الله عنها: فعلمت أنه يريده، فأخذته فقضمته وطيبته، ثم دفعته إليه، تقول عائشة رضي الله عنها: فاستن به أحسن ما كان استنانا، فما عدا أن فرغ من السواك، حتى رفع يده أو إصبعه، ثم قال: «في الرفيق الأعلى، في الرفيق الأعلى، في الرفيق الأعلى، ثم قضى رسول الله  صلى الله عليه  وسلم »+++ أخرجه البخاري (4438)، ومسلم (2444).---. وتسرب النبأ العظيم، وأظلمت على أهل المدينة أرجاؤها وآفاقها، كيف لا؟ وقد انطفأ ضياؤها، وخبأ سراجها، قال أنس  رضي الله عنه : فما رأيت يوما قط، أحسن ولا أضوأ من يوم دخل علينا فيه رسول الله  صلى الله عليه  وسلم ، وما رأيت يوما كان أقبح ولا أظلم من يوم مات فيه رسول الله  صلى الله عليه  وسلم ، فضجت المدينة بالبكاء، وكان موته  صلى الله عليه  وسلم  قاصمة الظهر، ومصيبة العمر، فاشتدت الرزية بموته، وعظم الخطب، وجل الأمر، وأصيب المسلمون بنبيهم  صلى الله عليه  وسلم ، فمنهم من دهش فخولط، ومنهم من أقعد فلم يطق القيام، ومنهم من اعتقل لسانه فلم يطق الكلام، وقام عمر رضي الله عنه في الناس، وأنكر موته، وماج الناس واضطربوا، وكان أبو بكر في أطراف المدينة، فلما بلغه الخبر أقبل إلى المسجد، فدخل وعمر يكلم الناس، فلم يلتفت إليه حتى دخل على رسول الله  صلى الله عليه  وسلم في بيت عائشة رضي الله عنها، فوجده مسجى ببرد حبرة، فكشف عن وجهه وأكب عليه يقبله، ثم بكى، وقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، والله لا يجمع الله عليك موتتين أبدا، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها، فإنا لله وإنا إليه راجعون. ثم إنه خرج رضي الله عنه والناس على الحال التي وصفنا، فرقي المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فمن كان يعبد محمدا ،فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله، فإن الله حي لا يموت، قال الله تعالى: ﴿وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا)+++ سورة آل عمران: 144---، فلما سمع الناس ذلك من أبي بكر علموا أن رسول الله  صلى الله عليه  وسلم قد مات، قال ابن عباس رضي الله عنهما: فما أسمع بشرا من الناس إلا يتلوها، ثم غسل رسول الله  صلى الله عليه  وسلم ، وكفن وصلي عليه، ودفن يوم الثلاثاء في مكانه الذي توفي فيه، لقوله  صلى الله عليه  وسلم : «ما قبض نبي، إلا دفن حيث قبض»+++ رواه البزار (3) من حديث أبي بكر  رضي الله عنه ---. وصدق الله ومن أصدق من الله قيلا: ﴿إنك ميت وإنهم ميتون﴾+++ سورة الزمر: 30---. الخطبة الثانية: أما بعد. فمازال الناس بعد وفاة النبي  صلى الله عليه  وسلم  في أمر مريج، حتى جاد الله بالصديق المؤيد المنصور رضي الله عنه، فبعد أن تحقق من وفاته خرج رضي الله عنه إلى المسجد، وعمر يكلم الناس، فقال أبو بكر: اجلس يا عمر، فأبى رضي الله عنه، فقال: اجلس فأبى، فتشهد أبو بكر رضي الله عنه، فأقبل الناس إليه وتركوا عمر، فقال أبو بكر: أما بعد، فمن كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال الله تعالى: ﴿وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا﴾+++ سورة آل عمران  144 --- ،فكأن الناس لم يعلموا من شدة ما أصابهم أن الله أنزل هذه الآية، حتى تلاها أبو بكر رضي الله عنه، فتلقاه من الناس كلهم، قال ابن عباس: فما أسمع بشرا من الناس إلا يتلوها، قال عمر: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها، فعقرت حتى ما تقلني رجلاي، وحتى أني أهويت إلى الأرض، وعرفت حين تلاها أن رسول الله  صلى الله عليه  وسلم قد مات، فما لبث الصحابة رضي الله عنهم أن اجتمعوا على أبي بكر رضي الله عنه، وبايعوه بالخلافة قبل أن يدفنوا رسول الله  صلى الله عليه  وسلم ، وفي يوم الثلاثاء اليوم التالي لموته  صلى الله عليه  وسلم غسل وكفن وصلي عليه، ثم دفن في مكانه الذي توفي فيه، فجزاه الله عنا خير ما جزى نبيا عن أمته. جزى الله عنا كل خير محمدا       فقد كان مهديا وقد كان هاديا أيها المؤمنون. هذا نبأ وفاة نبيكم  صلى الله عليه  وسلم ، وفيه من العبر والعظات الشيء الكثير، من أبرزها: ما قاله الغزالي رحمه الله: "فما بالنا لا نتعظ بمصرع محمد  صلى الله عليه  وسلم سيد المرسلين، وإمام المتقين، وحبيب رب العالمين، لعلنا نظن أننا مخلدون، أو نتوهم أنا مع سوء أفعالنا عند الله مكرمون، هيهات هيهات"+++ إحياء علوم الدين 7/174---. فأعدوا عباد الله عدة الرحيل قبل فوات الأوان، فإن الآجال تنزل بلا استئذان، وتحل بلا إعلان، فأكثروا عباد الله من ذكر هادم اللذات، فليس بعد موت نبينا محمد  صلى خالد، ولا في البقاء مطمع، بل الأمر كما قال الله تعالى: ﴿كل نفس ذائقة الموت﴾+++ سورة الأنبياء: 35---. ومن الفوائد الظاهرة في هذا النبأ: شدة حرص النبي  صلى الله عليه  وسلم على أمته، حتى وهو في آخر لحظات حياته، يوصي وينصح يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، فما أصدق ما قاله الله تعالى فيه: ﴿لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم)+++ سورة التوبة: 128---. ومن فوائده: شدة اعتناء النبي  صلى الله عليه  وسلم بأمر التوحيد، وذلك يتضح من أن النبي  صلى الله عليه  وسلم افتتح دعوته بالدعوة إلى عبادة الله وحده سبحانه، واختتم حياته بالتحذير من الشرك وتعظيم غير الله، فإن من آخر وصاياه قوله  صلى الله عليه  وسلم : «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»+++ أخرجه البخاري (1265)، ومسلم (529) من حديث عائشة رضي الله عنها --- . ومن فوائد هذا النبأ: عظم شأن الصلاة وخطرها، فإن النبي  صلى الله عليه  وسلم  كرر الأمر بها، وحث على الاهتمام بها وهو يعاني سكرات الموت، فالله الله بالصلاة يا عباد الله، فإنها عمود الإسلام، ولا إسلام لمن لا صلاة له. ومن فوائد هذا النبأ: خطورة بقاء الكفار من المشركين واليهود والنصارى في جزيرة العرب، فإن النبي  صلى الله عليه  وسلم أوصى بإخراجهم في آخر حياته، وما ذلك إلا لخطر بقائهم في هذه الجزيرة، فإن هذه الجزيرة جزيرة الإسلام وحصنه الحصين. ومن فوائد هذا الحدث العظيم: عظم منزلة أبي بكر  رضي الله عنه ، فقد نصر الله به الدين، وثبت به المؤمنين، وليس في الناس بعد الأنبياء خير منه، فهو أعمق الصحابة رضي الله عنهم إيمانا، وأثبتهم يقينا وأعلمهم بالله ورسوله  صلى الله عليه  وسلم وأحزمهم في دين الله، وأطوعهم لله ورسوله،  رضي الله عنه ، وجزاه عنا وعن المسلمين خير الجزاء.

المشاهدات:71506

الخطبة الأولى:

إن الحمد لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.  
أما بعد.  
الحمدُ لله الذي لا إله إلا هو الحيُّ القيومُ، لا معقِّبَ لحكمِه، ولا رادَّ لقضائِه، حكمَ سبحانه بالموتِ على جميعِ الأنامِ، فكلُّ ذي روحٍ لا بد وأن يذوقَ طعمَ السَّامِ ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) سورة الأنبياء: 35 وإن طالَ بها المقامُ.
أحمدُه سبحانه، فقد قال: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ) سورة الرحمن: 26.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، المتفرد بالبقاءِ والكمالِ دون نقصان، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، سيد ولد آدم، خير من  صلى وصام، بعثه الله بالهدى والفرقان.
أيها المؤمنون.
اتقوا الله حق تقاتِه، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، واشكروا اللهَ تعالى على نعمِه الكثيرةِ، التي من أجَلِّها وأعظمِها بعثةُ النبيِّ  صلى الله عليه  وسلم ، وإرسالُه إليكم؛ ليخرجكم من الظلماتِ إلى النورِ، فإن الله تعالى قد أرسله بالهدى ودينِ الحقِ، بين يدي الساعةِ بشيراً ونذيراً، أنعمَ به على أهلِ الأرضِ نعمةً، لا يستطيعون لها شكوراً، فإنه  صلى الله عليه  وسلم  بلَّغَ وأنذرَ، وقامَ للهِ قومةً لم يقمْها أحدٌ من الناسِ قبلَه، ولن يقومَها أحدٌ بعدَه، فما زالَ  صلى الله عليه  وسلم  منذُ قال له الله تعالى: ﴿قُمْ فَأَنْذِرْ) سورة المدثر: 2 قائماً بأمرِ اللهِ، يبلِّغ الرسالةَ، ويؤدِّي الأمانةَ، وينصح الأمةَ، فأتمَّ الله به النعمةَ، فأشرقت برسالتِه الأرضُ بعد ظلماتِها، وتألَّفت به القلوبُ بعد شتاتِها، وامتلأت به الدنيا نوراً وابتهاجاً، ودخلَ الناسُ في دينِ اللهِ أفواجاً، فلما أكملَ اللهُ به الدِّينَ، وأتمَّ به النعمةَ على عبادِه المؤمنين، استأثرَ به جلَّ وعلا، ونقلَه إلى الرفيقِ الأعلى، والمحلِّ الأسنى.
أيها المؤمنون.
إن حياةَ النبيِّ  صلى الله عليه  وسلم كلَّها، من أوَّلها إلى آخرِ لحظةٍ فيها من أعظمِ دلائلِ صِدقِه، وعلاماتِ نبوَّتِه، فهي تقتضي تصديقَه ضرورةً، وتشهدُ بأنه رسولُ اللهِ حقًّا.
أيها المؤمنون.
إن خطبةَ اليومِ عن نبأٍ عظيم، وخطبٍ جليل، بل هو من أعظمِ الأحداثِ التي مرَّت بأمة الإسلامِ، إنه نبأُ وفاةِ النبي  صلى الله عليه  وسلم ، ذلك النبأ الذي أذهلَ العقولَ وطيرَ الألبابَ، ففي سنة إحدى عشرة من الهجرة النبوية، دهى المدينةَ خطبٌ، لا عزاءَ له، ففي أواخرِ صفر في تلك السنة بُدىء برسولِ الله  صلى الله عليه  وسلم ، وكان أوَّلَ ذلك صُداعٌ، ألمَّ برأسِه  صلى الله عليه  وسلم ، ثم حرارةٌ متَّقِدةٌ، كانوا يجدون سَوْرتها -؛أي: شدتها- فوقَ العصابةِ، التي عصبَ بها رأسَه، وثقلَ برسولِ الله  صلى الله عليه  وسلم المرضُ، فجعلَ يسألُ أزواجَه: أين أنا غداً؟ أين أنا غداً؟ ففهمْن مُرادَه، فأذِنَّ له  صلى الله عليه  وسلم  أن يكونَ حيثُ شاءَ، فانتقل  صلى الله عليه  وسلم  إلى بيتِ عائشةَ رضي الله عنها، معصوب الرأسِ، تخطُّ رجلاه في الأرضِ، واشتدَّت وطأةُ المرضِ على رسولِ الله  صلى الله عليه  وسلم في بيتِ عائشةَ رضي الله عنها، فقال  صلى الله عليه  وسلم : «أهريقوا علي سبعَ قربٍ، لم تُحللْ أوْكِيتُهُن لعلِّي أعهدُ إلى الناسِ» أخرجه البخاري (195) من حديث عائشة رضي الله عنها.، ففعلن رضي الله عنهن، ثم خرج إلى الناسِ ف صلى بهم وخطبهم، وكان ذلك يومَ الأربعاء، قبل خمسة أيامٍ من وفاتِه، وكان مما قال في خطبتِه تلك: «إن عبداً خيَّره اللهُ بين الدنيا وبين ما عندَ الله، فاختارَ ما عند الله» ، فبكى أبو بكر  رضي الله عنه ، فعجبَ الصحابةُ لبكائِه، قال الراوي: فكان المُخيَّرَ رسولُ الله  صلى الله عليه  وسلم ، وكان أبو بكر  رضي الله عنه أعلمَنا.
فقال رسول الله  صلى الله عليه  وسلم : «لا تبكِ يا أبا بكر، إن أمنَّ الناسِ عليَّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام ومودتُه، لا يبقى في المسجد باب إلا سُدَّ إلا باب أبي بكر» أخرجه البخاري (3691)، ومسلم (2382) من حديث أبي سعيد الخدري  رضي الله عنه ، وكان مما قاله في خطبتِه تلك: «أوصيكم بالأنصارِ فاقبلوا من محسنِهم وتجاوزوا عن مسيئِهم» أخرجه البخاري (3588)، ومسلم (2510) من حديث أنس  رضي الله عنه ،ثم عاد النبي  صلى الله عليه  وسلم إلى بيتِه بعد خطبتِه تلك، وفي يوم الخميس اشتدَّ برسولِ اللهِ  صلى الله عليه  وسلم وجعُه، فقال: «ائتوني أكتبْ لكم كتاباً، لا تضلُّوا بعدَه أبداً»، فاختلفوا عنده في المجيءِ بالكتابِ، فقال: «دعوني، فالذي أنا فيه خيرٌ مما تدعونني إليه» أخرجه البخاري (114)، ومسلم (1637) من حديث ابن عباس  رضي الله عنه ..
ومع شدِّةِ مرضِه كان يخرجُ يصلي بالناسِ، حتى كان ذلك اليومُ، ف صلى بهم المغربَ، وعند العشاءِ زاد عليه الوجعُ، فلم يستطع الخروجَ إلى المسجدِ، فأرسل إلى أبي بكر  رضي الله عنه أن يصلي بالناس، فصلى بهم أبو بكر ما بقيَ من الصلواتِ في حياةِ النبيِّ  صلى الله عليه  وسلم ، وفي أثناء تلك الأيام العصيبة وجدَ  صلى الله عليه  وسلم من نفسِه خِفة، فخرجَ بين رجلين لصلاةِ الظهر، وأبو بكر يصلي بالناس، فلما رآه أبو بكر ذهبَ ليتأخَّر، فأومأَ إليه النبيُّ  صلى الله عليه  وسلم ألا تأخَّرَ، فجلس جنبَ أبي بكر، فجعل أبو بكر يصلي بصلاةِ رسولِ الله صلى الله عليه  وسلم ، والناسُ يصلون بصلاةِ أبي بكر، والنبيُّ  صلى الله عليه  وسلم قاعدٌ، واستمر المرضُ بالنبي  صلى الله عليه  وسلم .
وفي فجرِ يومِ الاثنين، الثاني عشر من ربيع الأولِ، عام أحدِ عشرٍ من الهجرةِ أقبل المؤمنون إلى مسجدِ رسولِ الله  صلى الله عليه  وسلم ، واصطفوا لصلاتهم خلفَ أبي بكر رضي الله عنه، فبيْنَا هم كذلك رفع رسولُ الله  صلى الله عليه  وسلم السِّترَ المضروبَ على منزلِ عائشةَ رضي الله عنها، وبرزَ للناسِ، فكاد المسلمون يفتتنون في صلاتِهم؛ ابتهاجاً برؤيتِه  صلى الله عليه  وسلم ، فأخذوا يُفسِّحون له مكاناً، فأشار بيده أن اثبتوا على صلاتِكم، وتبسَّم  صلى الله عليه  وسلم فرحاً بهم، قال أنس  رضي الله عنه : ما رأيت رسولَ الله أحسنَ هيئةً منه في تلك الساعة، ثم رجعَ وأرخى السِّترَ، وانصرفَ الناسُ، وهم يظنون أن رسولَ اللهِ  صلى الله عليه  وسلم قد أفاقَ من وجعِه وبرأَ، إلا أن الأمرَ كان بخلافِ ذلك، حيث لم يأتِ على النبيِّ  صلى الله عليه  وسلم وقتُ صلاةٍ أخرى، بل اشتدَّ المرضُ عليه، ونزلَ به في صباح يوم الاثنين، فطفِقَ يطرحُ خميصةً له على وجهِه، فإذا اغتمَّ كشفَها عن وجهِهِ، فقال وهو كذلك: «لعنةُ الله على اليهودِ والنصارى؛ اتخذوا قبورَ أنبيائِهم مساجدَ، يحذِّرُ ما صَنعوا» أخرجه البخاري (1265)، ومسلم (529) من حديث عائشة رضي الله عنها ،فكانت هذه إحدى وصاياه عندَ موتِه، وكان يقولُ: « اللهمَّ أعنِّي على سَكَراتِ الموتِ» أخرجه الحاكم (3731) وصححه. من شدةِ ما نزلَ به، وكان  صلى الله عليه  وسلم يردِّدُ وهو في تلك الحالِ: « الصلاةَ، وما ملكت أيمانُكم» ، قال أنسٌ: ( حتى جعلَ يغرغرُ بها في صدرِهِ، وما يفيضُ بها لسانُه ) أخرجه أحمد (12190)، وابن ماجه (2697) من حديث أنس  رضي الله عنه ، وكان مما أوصى به عند موتِه: «أن أخرِجُوا المشركين من جزيرةِ العرب» أخرجه البخاري (3053)، ومسلم (4319) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.، فلما ثقُلَ رسولِ الله  صلى الله عليه  وسلم جعَلَ يتغشَّاه الكربُ، فقالت فاطمةُ رضي الله عنها لما رأت ما نزلَ بأبيها: وا كربَ أبتاه، فقال  صلى الله عليه  وسلم : « ليس على أبيك كربٌ بعدَ اليومِ» أخرجه البخاري 4193، من حديث أنس  رضي الله عنه ، فلما ارتفع ضحى ذلك اليومِ نزلَ برسولِ اللهِ  صلى الله عليه  وسلم ، فأسندته عائشةُ رضي الله عنها إلى صدرِها، قالت رضي الله عنها: إن من نعمِ اللهِ عليَّ أن رسولَ الله  صلى الله عليه  وسلم توفي في بيتي، وفي يومي، وبين سحري ونحري، وأن اللهَ جمع بين ريقي وريقِه عند موته؛ وذلك أن عبد الرحمن بن أبي بكر دخل وبيدِه سواكٌ يستاك به، فنظرَ إليه رسولُ الله  صلى الله عليه  وسلم ، قالت عائشةُ رضي الله عنها: فعلمت أنه يريدُه، فأخذتُه فقضمتُه وطيبتُه، ثم دفعتُه إليه، تقول عائشةُ رضي الله عنها: فاستنَّ به أحسنَ ما كان استناناً، فما عدا أن فرغَ من السواك، حتى رفَعَ يدَه أو إصبعَه، ثم قال: «في الرِّفيق الأعلى، في الرِّفيق الأعلى، في الرِّفيق الأعلى، ثم قضى رسولُ اللهِ  صلى الله عليه  وسلم » أخرجه البخاري (4438)، ومسلم (2444)..
وتسرَّب النبأُ العظيمُ، وأظلمت على أهلِ المدينةِ أرجاؤُها وآفاقُها، كيف لا؟ وقد انطفأ ضياؤُها، وخبأَ سراجُها، قال أنس  رضي الله عنه : فما رأيتُ يوماً قط، أحسنَ ولا أضوأَ من يومٍ دخلَ علينا فيه رسولُ الله  صلى الله عليه  وسلم ، وما رأيتُ يوماً كان أقبحَ ولا أظلمَ من يومٍ ماتَ فيه رسولُ اللهِ  صلى الله عليه  وسلم ، فضجَّت المدينةُ بالبكاءِ، وكان موتُه  صلى الله عليه  وسلم  قاصمةَ الظهرِ، ومصيبةَ العمرِ، فاشتدت الرزيةُ بموتِه، وعظُمَ الخطبُ، وجلَّ الأمرُ، وأصيب المسلمون بنبيِّهم  صلى الله عليه  وسلم ، فمنهم من دهشَ فخولط، ومنهم من أُقعدَ فلم يُطِق القيامَ، ومنهم من اعتُقل لسانُه فلم يطق الكلامَ، وقام عمر رضي الله عنه في الناس، وأنكر موتَه، وماجَ الناسُ واضطربوا، وكان أبو بكر في أطرافِ المدينةِ، فلما بلغه الخبر أقبل إلى المسجدِ، فدخل وعمرُ يكلم الناسَ، فلم يلتفت إليه حتى دخلَ على رسولِ الله  صلى الله عليه  وسلم في بيتِ عائشةَ رضي الله عنها، فوجدَه مُسجًّى ببُردٍ حَبِرة، فكشف عن وجهِه وأكبَّ عليه يقبله، ثم بكى، وقال: بأبي أنت وأمي يا رسولَ اللهِ، واللهِ لا يجمعُ اللهُ عليك موتتين أبداً، أما الموتة التي كتبت عليك فقد مُتَّها، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ثم إنه خرجَ رضي الله عنه والناسُ على الحالِ التي وصفْنا، فرقي المنبرَ فحمِدَ اللهَ وأثنى عليه، ثم قال: أما بعدُ، فمن كان يعبدُ محمداً ،فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد اللهَ، فإن اللهَ حيٌّ لا يموت، قال الله تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً) سورة آل عمران: 144، فلما سمِعَ الناسُ ذلك من أبي بكرٍ علموا أن رسولَ الله  صلى الله عليه  وسلم قد ماتَ، قال ابن عباس رضي الله عنهما: فما أسمعُ بشراً من الناسِ إلا يتلوها، ثم غُسِّل رسول الله  صلى الله عليه  وسلم ، وكُفِّن وصُلي عليه، ودُفن يومَ الثلاثاءِ في مكانِه الذي توفي فيه، لقوله  صلى الله عليه  وسلم : «ما قبض نبيٌّ، إلا دفن حيث قبض» رواه البزار (3) من حديث أبي بكر  رضي الله عنه .
وصدق الله ومن أصدق من الله قيلاً: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ سورة الزمر: 30.

الخطبة الثانية:
أما بعد.
فمازال الناسُ بعد وفاة النبي  صلى الله عليه  وسلم  في أمرٍ مريجٍ، حتى جاد اللهُ بالصديق المؤيَّدِ المنصورِ رضي الله عنه، فبعد أن تحقَّق من وفاتِه خرجَ رضي الله عنه إلى المسجدِ، وعمرُ يكلمُ الناسَ، فقال أبو بكر: اجلس يا عمرُ، فأبى رضي الله عنه، فقال: اجلس فأبى، فتشهدَ أبو بكر رضي الله عنه، فأقبلَ الناسُ إليه وتركوا عمرَ، فقال أبو بكر: أما بعد، فمن كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبدُ الله فإن اللهَ حيٌّ لا يموت، قال الله تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً﴾ سورة آل عمران  144 ،فكأن الناسَ لم يعلموا من شدةِ ما أصابهم أن اللهَ أنزل هذه الآيةَ، حتى تلاها أبو بكر رضي الله عنه، فتلقاه من الناسِ كلُّهم، قال ابن عباس: فما أسمع بشراً من الناس إلا يتلوها، قال عمر: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها، فعقرت حتى ما تقلني رجلاي، وحتى أني أهويتُ إلى الأرض، وعرفتُ حين تلاها أن رسول الله  صلى الله عليه  وسلم قد مات، فما لبثَ الصحابةُ رضي الله عنهم أن اجتمعوا على أبي بكرٍ رضي الله عنه، وبايعوه بالخلافةِ قبلَ أن يدفنوا رسولَ اللهِ  صلى الله عليه  وسلم ، وفي يومِ الثلاثاءِ اليومِ التالي لموتِه  صلى الله عليه  وسلم غُسِّل وكفِّن وصُلِّيَ عليه، ثم دُفن في مكانه الذي توفي فيه، فجزاه الله عنا خيرَ ما جزى نبيًّا عن أمتِه.
جزى اللهُ عنَّا كلَّ خيرٍ محمداً       فقد كان مهديًّا وقد كان هاديا
أيها المؤمنون.
هذا نبأُ وفاةِ نبيِّكم  صلى الله عليه  وسلم ، وفيه من العِبرِ والعظاتِ الشيءُ الكثيرُ، من أبرزِها: ما قاله الغزالي رحمه الله: "فما بالنا لا نتعظُ بمصرعِ محمدٍ  صلى الله عليه  وسلم سيدِ المرسلين، وإمام المتقين، وحبيبِ ربِّ العالمين، لعلنا نظن أننا مخلدون، أو نتوهَّم أنَّا مع سوءِ أفعالِنا عند اللهِ مكرمون، هيهات هيهات" إحياء علوم الدين 7/174.
فأعدُّوا عباد الله عدةَ الرحيلِ قبلَ فواتِ الأوانِ، فإن الآجالَ تنزلُ بلا استئذانٍ، وتحلُّ بلا إعلانٍ، فأكثروا عبادَ اللهِ من ذكرِ هادمِ اللذاتِ، فليس بعد موتِ نبيِّنا محمدٍ  صلى خالدٌ، ولا في البقاءِ مطمعٌ، بل الأمرُ كما قال الله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ سورة الأنبياء: 35.
ومن الفوائدِ الظاهرةِ في هذا النبأ: شدةُ حرصِ النبي  صلى الله عليه  وسلم على أمتِه، حتى وهو في آخر لحظاتِ حياته، يوصي وينصح يأمر بالمعروفِ، وينهى عن المنكرِ، فما أصدقَ ما قاله الله تعالى فيه: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) سورة التوبة: 128.
ومن فوائده: شدةُ اعتناءِ النبي  صلى الله عليه  وسلم بأمرِ التوحيدِ، وذلك يتضح من أن النبي  صلى الله عليه  وسلم افتتح دعوته بالدعوة إلى عبادة الله وحده سبحانه، واختتم حياتَه بالتحذيرِ من الشرك وتعظيمِ غيرِ اللهِ، فإن من آخرِ وصاياه قوله  صلى الله عليه  وسلم : «لعنةُ الله على اليهودِ والنصارى اتخذوا قبورَ أنبيائِهم مساجدَ» أخرجه البخاري (1265)، ومسلم (529) من حديث عائشة رضي الله عنها .
ومن فوائد هذا النبأ: عظمُ شأنِ الصلاةِ وخطرُها، فإن النبيَّ  صلى الله عليه  وسلم  كرَّر الأمرَ بها، وحثَّ على الاهتمامِ بها وهو يعاني سكراتِ الموتِ، فاللهَ اللهَ بالصلاةِ يا عبادَ اللهِ، فإنها عمودُ الإسلام، ولا إسلامَ لمن لا صلاةَ له.
ومن فوائد هذا النبأ: خطورةُ بقاءِ الكفارِ من المشركين واليهودِ والنصارى في جزيرةِ العربِ، فإن النبيَّ  صلى الله عليه  وسلم أوصى بإخراجِهم في آخرِ حياتِه، وما ذلك إلا لخطرِ بقائِهم في هذه الجزيرةِ، فإن هذه الجزيرةَ جزيرةُ الإسلامِ وحصنُه الحصينُ.
ومن فوائد هذا الحدث العظيم: عِظمُ منزلةِ أبي بكر  رضي الله عنه ، فقد نصرَ اللهُ به الدِّينَ، وثبَّتَ به المؤمنين، وليس في الناسِ بعد الأنبياءِ خيرٌ منه، فهو أعمقُ الصحابةِ رضي الله عنهم إيماناً، وأثبتُهم يقيناً وأعلمُهم باللهِ ورسوله  صلى الله عليه  وسلم وأحزمُهم في دينِ اللهِ، وأطوعُهم للهِ ورسوله،  رضي الله عنه ، وجزاه عنا وعن المسلمين خير الجزاء.

المادة السابقة

الاكثر مشاهدة

1. خطبة : أهمية الدعاء ( عدد المشاهدات85992 )
3. خطبة: التقوى ( عدد المشاهدات80482 )
4. خطبة: حسن الخلق ( عدد المشاهدات74767 )
5. خطبة: بمناسبة تأخر نزول المطر ( عدد المشاهدات61836 )
6. خطبة: آفات اللسان - الغيبة ( عدد المشاهدات56369 )
8. خطبة: صلاح القلوب ( عدد المشاهدات53355 )
11. خطبة:بر الوالدين ( عدد المشاهدات50920 )
12. فما ظنكم برب العالمين ( عدد المشاهدات50645 )
13. خطبة: حق الجار ( عدد المشاهدات46026 )
14. خطبة : الإسراف والتبذير ( عدد المشاهدات45573 )
15. خطبة: أهمية العلم الشرعي ( عدد المشاهدات43535 )

التعليقات


×

هل ترغب فعلا بحذف المواد التي تمت زيارتها ؟؟

نعم؛ حذف