الحلقة السادسة والعشرون: {خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58]
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
الحمدُ لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، حمدًا يرضيه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسوله، صلى اللهُ عليه، وعلى آله وصحبه، ومنِ اتبعَ سنته واقتفى أثره بإحسانٍ إلى يومِ الدين، أمَّا بعد:
فحياكم الله أيها الإخوة والأخوات في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم: "عباد الرحمن"، هذه الحلقة سنتناولُ فيها وصفًا ذكرَهُ اللهُ ـ تعالى ـ لأوليائه؛ إنهم أهلُ تَدَبُّرٍ وتَأَثُّرٍ وانتفاعٍ بالقرآنِ، قال ـ تعالى ـ: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} [الفرقان: 73] إنَّ اللهَ ـ تعالى ـ يخبرُ عن عباد الرحمن بصفةٍ عظيمة، هي صفةُ الانتفاعِ بالذكر، اللهُ ـ تعالى ـ يقول: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} [الأعراف: 204] ولم يقتصر على الأمر بالاستماع، بل قال: {وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204] فالاستماعُ والإنصات الذي يتجاوز مجرد سماع الصوت إلى الإصغاء الذي هو مفتاحُ التدبر والفهم، هو مفتاحُ العقلِ والإدراك، هو مما يفتحُ على العبدِ أبوابًا من العلم، ويفتحُ للعبدِ أبوابًا من الرحمات؛ ولذلك قال ـ جلَّ وعلا ـ: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204]، فمن موجباتِ رحمة الله ـ عز وجل ـ العاجلة والآجلة أن يُنصِتَ المؤمنُ لكتابِ ربِّه، وأن يكون كما ذكرَ اللهُ ـ تعالى ـ في حالِ أولئك: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} [الفرقان: 73].
{لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا} [الفرقان: 73] على هذه الحال، لم يقعُ عليها دونَ إدراك، فالعمى هُنا: هو عمى القلوب، وكذلكَ عمَى البصائر والأبصار التي لا تُدرك ما لفتَ اللهُ ـ تعالى ـ إليه الأنظار في الآيات في السماواتِ وفي الأرض، وفي الشواهد الدالة على صدق ما جاءَ بهِ رسوله، وما جاءت بهِ رسله ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53] إنهم فتحوا أعين قلوبهم، وأعين أبصارهم، وأعين أسماعهم، لتدبُّر القرآن وفهمه ووعيه، فنفذ ذلكَ إلى قلوبهم؛ ولذلك يقول اللهُ ـ جلَّ وعلا ـ: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58] هُناك قال: {لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} [الفرقان: 73].
{لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا} لا يسمعون، {وَعُمْيَانًا} لا يبصرون، ولا يتبصرون، بل إنهم {خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} لتأثُرِهم بالقرآن وعِلْمهم بمعانيه، كما قال اللهُ ـ تعالى ـ في بيان أحوال أهل البصائر من أهل العلم الذين يتلون كتاب الله حقَّ تلاوته، ويقرءونهُ حقَّ قراءته، يتدبرون آياته، ويقفون عندَ معانيه، ويتلمسونَ ما فيهِ من سُبُل الهدايةِ والبر، {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 107 - 109] إنَّ أولياء الله ـ تعالى ـ إنَّ عباد الرحمن، إذا تُلِيَ عليهم القرآن، أدرَكُوا معانيه، فآمنوا بما فيه، كما قال ـ تعالى ـ: {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} [القصص: 53] لا يقولُ هذا مَنْ يستمع إلى القرآن، بمجرد سماعًا لا تدبُّرَ فيه، ولا اعتناء، {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الزمر: 23]، إنها آياتٌ تنفذُ إلى قلوبهم، فتنعكسُ أثرُها على أبدانهم فتقشعرُّ جلودهم، خشيةً لله ـ عز وجل ـ وتعظيم لما يسمعونهُ من كلامه: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 23]، إنَّ تأمُّل القرآن وتدبُرهُ يفتحُ للعبدِ أبوابًا عظيمة من الخيراتِ والبركات، يقولُ الله ـ جلَّ في علاه ـ: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]، إنَّ التَّذكُّرَ لهُ صورة من صُوَرِ حصولِ البرِ والخير بالتدبر، هو من بركات القرآن، فالقرآنُ مبارك، فهو ذكرى {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2]، وأعظمُ ما تُنالُ بهِ بركات القرآن في الدنيا والآخرة، أن يُقبِل عليه الإنسان مُتدبر لمعانيه؛ ولذلك قال ـ جلَّ وعلا ـ: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ} [ص: 29] هو مُباركٌ في ذاته، وهذه البركة لا تُنال بمجردِ تلاوةٍ لا عقلَ فيها لمعاني الكتاب، ولا بمجرد سماعًا القلبُ عنها وعن آياتهِ مُعرض، بل إنهُ يُنال بالتدبر الذي هو فَهمُ المعنى، التأمّل في معاني كتاب الله ـ عز وجل ـ الوقوف عندَ آياته، فإنَّ كتاب اللهِ تعالى وكلامه رسالة لعبادة؛ {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} كم من آيةٍ خاطبَ فيها ربُنا الناس؟ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} كم من آيةٍ خاطبَ اللهُ تعالى فيها المؤمنين؟ إنها آياتٌ كثيرة هو مخاطب لي ولك؛ لذلك جديرٌ بنا أن نقفَ عندَ هذا الخطاب، أن نتدبر آياته لنفوز ببركاته؛ فالقرآنُ مُباركٌ في تلاوته، مُباركٌ في فهمه، مُباركٌ في العملِ بِه، مُباركٌ في الدنيا على أصحابه، مُباركٌ في القبرِ على أصحابه، مُباركٌ يوم العرض فيأتي شفيعًا لأصحابهِ يوم القيامة، مُباركٌ على أهلِ الجنة إذا دخلوها؛ فتالي القرآن يُقال لهُ: «اُتْلُ وَارْتَقِ، فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ كُنْتَ تَقْرَؤُهَا» سنن الترمذي (2915)، وأحمد (10087)، حكم الألباني: حسن صحيح هذا الفضلُ وذلك العطاء وذلك السبق وذلك الفوز لا يُنالُ فقط بمجردِ تلاوةِ الألفاظ، إنَّما بالوقوف عندَ المعاني والتدبُّرِ لما في الكتاب من الآيات، وهذا لا يحتاج أن يكونَ الإنسانُ مُتخصِّصًا في دراساتٍ أكاديمية، أو جامعية أو دراساتٍ شرعية متخصصة، بل تدبُّر القرآن نَدَبَ اللهُ ـ تعالى ـ إليه الجميع؛ {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]، فكلُّ من فتحَ اللهُ ـ تعالى ـ عليه بالفهم فإنهُ مندوبٌ إلى أن يتدبر القرآن، وأن يقف عندَ معانيه.
وإنَّ الخطوةَ الأولى التي يدركُ الإنسان بها التدبُّر أن يفهم معاني القرآن؛ فإنهُ لا يمكن أن يتأمّل الإنسان ويتفكر في معنى آياتٍ لا يدركُ معناها، أو في آياتٍ لا يدركُ معانيها، لذلك كُلُّ من أرادَ أن يتدبر فليفهم معنى الآية؛ عندما تقرأ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] تحتاج إلى أن تفهم معنى الحمد ومعنى الإلهية، ومعنى الربوبية، حتى ينفتحَ لكَ باب التدبر، وتُدرك عظيمَ ما في هذه الآيات الكريمات من الخيرات والأنوار.
إنَّ تدبُر القرآن هو الوقوف عندَ معانيه بالفكرِ والتأمُّلِ والنظر وتلمس مواطن الهداية وتلمس أسرارِ القرآن وهداياته؛ {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]، لكن لا يُنالُ بهذٍّ كهذِّ الشعر، ولا بنثرٍ كنثرِ الدقل؛ لذلك جاءَ رجلٌ إلى عبد الله بن مسعود، فقال لهُ: يا أبا عبد الرحمن: قرأتُ المفصّلَ في ركعة - المفصّل من سورة ق أو من سورة الحجرات إلى الناس قرأهُ في ركعة - فقال لهُ عبد الله بن مسعود ـ رضي اللهُ تعالى عنه ـ: أهذًّا كهذِّ الشعر، ونثرًا كنثرِ الدقل، ثم قال: قِفُوا عندَ عجائبه، وحرِّكُوا بهِ القلوب. ليسَ الشأن في أن تقرأ آياتٍ كثيرات، دونَ الوقوف عندَ معناها، وتدبُرٍ لمضمونها، وما احتوته من المعاني الشريفة الجليلة.
إنَّ المقصود الأعظم، هو أن تعيَ ما في الكتاب من دلالات، وإذا فعلتَ ذلك انفتح لك بابُ الخيرات، ذاكَ الرجل الذي كان يقرأُ بأصحابه لَمَّا بعثهُ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على قومٍ، فكانَ يقرأ في الصلاة ويختم بسورة الإخلاص، فلمَّا رجعوا إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قالوا له: "إنَّهُ صنعَ شيئًا لم نرك تصنعه، يقرأ ما يسَّر الله ـ تعالى ـ بعدَ الفاتحة، ثم يختم بالإخلاص ويركع، فقال لهم النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ سلوه: لم يصنعُ ذلك؟ - لماذا يفعلُ هذا؟ يختم بسورة الإخلاص في كل ركعة؟ - فقال لَمَّا سألوه، قال لهم: إنها صفةُ الرحمن، وأنا أحبُ أن أقرأ بها" كيف اهتدى إلى هذا المعنى؟ اهتدى إلى هذا المعنى، بعلمه بمعاني الآيات بتدبُّرٍ وفهمٍ، فماذا كان؟ قال النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ لَمَّا أخبروه، بهذا المقولة: "أنهُ يقرأها ؛ لأنها صفةُ الرحمن، وهو يُحبُ أن يقرأ بها، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ» صحيح البخاري(7375) ، فنال هذه المرتبة العظيمة، وهيَ إخبارُ النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهُ بأنَّ الله يُحِبُّه بما فتحَ اللهُ عليه من تدبُّرِ آياتِ كتابه التي ساقته إلى هذا الفضل العظيم وأوصلته إلى هذه المنزلة السامية؛ أنَّ الله يُخبرُ رسوله بأنهُ يُحبه.
نسألُ الله أن يجعلنا وإياكم من أحبابه، وأن يفتح قلوبنا لتدبُّرِ آياته، وأن يجعلنا من أهل القرآن، الذين هم أهله وخاصته.
إلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم: "عباد الرحمن" أستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.