قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى :" الفناء " الذي يوجد في كلام الصوفية يفسر بثلاثة أمور: ( أحدها ) : فناء القلب عن إرادة ما سوى الرب والتوكل عليه وعبادته وما يتبع ذلك ، فهذا حق صحيح وهو محض التوحيد والإخلاص وهو في " الحقيقة " عبادة القلب وتوكله واستعانته وتألهه وإنابته وتوجهه إلى الله وحده لا شريك له وما يتبع ذلك من المعارف والأحوال . وليس لأحد خروج عن هذا، وهذا هو " القلب السليم " الذي قال الله فيه : {إلا من أتى الله بقلب سليم} وهو سلامة القلب عن الاعتقادات الفاسدة، والإرادات الفاسدة وما يتبع ذلك. وهذا " الفناء " لا ينافيه البقاء ؛ بل يجتمع هو والبقاء فيكون العبد فانيا عن إرادة ما سواه وإن كان شاعرا بالله وبالسوى وترجمته قول لا إله إلا الله وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول :«لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن». وهذا في "الجملة " هو أول الدين وآخره . ( الأمر الثاني ) : فناء القلب عن شهود ما سوى الرب فذاك فناء عن الإرادة وهذا فناء عن الشهادة . ذاك فناء عن عبادة الغير والتوكل عليه وهذا فناء عن العلم بالغير والنظر إليه، فهذا الفناء فيه نقص؛ فإن شهود الحقائق على ما هي عليه وهو شهود الرب مدبرا لعباده آمرا بشرائعه أكمل من شهود وجوده أو صفة من صفاته أو اسم من أسمائه والفناء بذلك عن شهود ما سوى ذلك . ولهذا كان الصحابة أكمل شهودا من أن ينقصهم شهود للحق مجملا عن شهوده مفصلا ولكن عرض كثير من هذا لكثير من المتأخرين من هذه الأمة . كما عرض لهم عند تجلي بعض الحقائق : الموت والغشي والصياح والاضطراب وذلك لضعف القلب عن شهود الحقائق على ما هي عليه وعن شهود التفرقة في الجمع ، والكثرة في الوحدة حتى اختلفوا في إمكان ذلك وكثير منهم يرى أنه لا يمكن سوى ذلك لما رأى أنه إذا ذكر الخلق أو الأمر اشتغل عن الخالق الآمر . وإذا عورض بالنبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه ادعى الاختصاص أو أعرض عن الجواب أو تحير في الأمر . وسبب ذلك أنه قاس جميع الخلق على ما وجده من نفسه؛ ولهذا يقول بعض هؤلاء: إنه لا يمكن حين تجلي الحق سماع كلامه ويحكى عن ابن عربي أنه لما ذكر له عن الشيخ شهاب الدين السهروردي أنه جوز اجتماع الأمرين . قال : نحن نقول له عن شهود الذات وهو يخبرنا عن شهود الصفات والصواب مع شهاب الدين فإنه كان صحيح الاعتقاد في امتياز الرب عن العبد... (الثالث) : فناء عن وجود السوى: بمعنى أنه يرى أن الله هو الوجود وأنه لا وجود لسواه لا به ولا بغيره وهذا القول والحال للاتحادية الزنادقة من المتأخرين كالبلياني والتلمساني والقونوني ونحوهم الذين يجعلون الحقيقة أنه عين الموجودات وحقيقة الكائنات وأنه لا وجود لغيره ؛ لا بمعنى أن قيام الأشياء به ووجودها به كما قال النبي صلى الله عليه وسلم أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد : "ألا كل شيء ما خلا الله باطل". "مجموع الفتاوى" ( 10/337- 343).