الحلقة التاسعة والعشرون: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60]
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مرحبًا بكم أيها الإخوة والأخوات في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم: "عباد الرحمن".
الحمد لله ربِّ العالمين ذي الفضلِ والإحسانِ وجزيل العطاء والإنعام، أحمدُه حقَّ حمده، لا أحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين، والآخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم.
وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسوله صلى اللهُ عليه وعلى آله وصحبه ومنِ اتبعَ سنته واقتفى أثره بإحسانٍ إلى يومِ الدين، أمَّا بعد:
فحياكم الله، وأهلًا وسهلًا بكم أيها الإخوة والأخوات في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم: "عباد الرحمن".
هذه الحلقة سنتكلمُ فيها عن آخرِ ما ذكرهُ اللهُ ـ تعالى ـ بعدَ أن وصفَ من أعمالِ وخصالِ وصفاتِ عباد الرحمن ما وصف قال ـ جلَّ وعلا ـ: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان: 75، 76] اللهُ أكبر، ما أعظم الجزاء، وما أكرمَ العطاء، إنهُ ربُّ العالمين، عظيمُ الإحسان، جزيل الإنعام، الذي يُعطي على القليلِ الكثير، إنَّ حقَّ الله على عبادة عظيم، ولن يفِي العبادُ حقَّ اللهِ عز وجل، ولو بذلوا ما بذلوا، وفعلوا ما فعلوا.
فإن ما يستحقّه ـ جلَّ في علاه ـ تقصرُ عنهُ طاقاتُهم وتضعفُ عنهُ أعمالهم، وإنما هو فضلُ اللهِ ـ جلّ وعلا ـ الذي يُنعِمُ بهِ على عباده، إنهُ فضلُ الله لأولئك الذين أظهروا صدق الرغبة فيما عندَ اللهِ ـ عز وجل ـ بأعمالٍ زهيدة، ولو كانت كثيرة؛ ولذلك قال النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ» قالوا: ولا أنتَ يا رسول الله؟ قال: «وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ» صحيح البخاري(5673)، ومسلم (2816) إذًا كُلُّ أعمالنا، وكلُّ خصال عباد الرحمن، لا تستحقُ ذلكَ الجزاءَ العظيم والفضل الكبير الذي وعدهُ اللهُ ـ تعالى ـ عبادة المؤمنين، إنما بفضله وإحسانه تفضَّل على عباده بأن جعلَ أعمالهم سببًا لإدراك تلكَ الفضائل، لكنَّها لا تستقل لولا رحمته، لا تكفي لولا إحسانه، لا يبلُغُ العبد شيئًا من حقٍّ على الله عز وجل بمجردِ عمله، إنما هو فضله جلَّ في علاه، إنما هو إحسانه، إنما هو برُّه، إنما هو إنعامه، إنما هو ما يتفضلُ بهِ على عباده بصدقهم في الإقبالِ عليه، وإلا فأعمالهم تقصرُ دونَ أن تبلُغ تلك المنازل العالية، الله ـ جلّ في علاه ـ حقّهُ عظيم: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} الزمر (67) ، الله ـ جلَّ وعلا ـ قدرُه جليل، فلو بذلَ الإنسانُ ما بذل فحقُّ اللهِ أعظم، ولكنَّهُ ذو فضلٍ وإحسان، ذو إنعامٍ وبرٍّ ورحمة، يتفضَّلُ على عبادة بالعطاء الجزيل على العمل القليل؛ لذلك لَمَّا ذكر الله تعالى تلك الخصال والأعمال الجليلة المباركة من خصال عباد الرحمن، قال: {أُولَئِكَ} أي الذين اتصفوا بهذه الصفات، وتحلُّو بتلك الخصال {يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} الفرقان (75) ، أي بما كانَ من صبرهم على تلكَ الأعمال التي تحتاج إلى مكابدة، تحتاج إلى بذل، تحتاج إلى تحمُّل؛ فالفضائل لا تُبلَغ بالأماني، بل لا تُبلغ إلا بالصبرِ والمكابدة، والبذل والمصابرة؛ {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200] رجاء أن تفلحوا، فلا فلاح دونَ هذه الخصال: الصبر، والمصابرة، والتقوى، والمجاهدة التي ينالُون بها الفلاح، إنَّ الفلاح لا يُدرك بالأماني، ولا يُدرك بالتمني، إنما يُدرَك بسير القلوب أولًا إلى الله، وإذا سار القلب إلى الله تبعتهُ الجوارح، فالسيرُ إليه سيرُ القلوب، قبل أن تسير الأبدان، فالأبدان كليلة ضعيفة حسيرة، والسبق إليه بسبق القلبِ محبةً لهُ وتعظيمًا وإخلاصًا وقصدًا، ونيةً، ولذلك ينبغي للمؤمن أن يَجِدَّ في السير، وأن يعلم أنَّ فضلَ اللهِ ـ تعالى ـ عليه عظيم، إذا صدقَ في التوجه إليه، وإذا بذلَ وسعه، هذا الجزاء وذلك الأجر إنما لتلكَ الأعمال المباركة التي تقدمت من الصبر على طاعة الله، ومن الصبر عن معصية الله، ومن الصبر على ما يلقاهُ من أكدارٍ وأقذارٍ، جُبِلَت عليها الدنيا.
جُبِلَتْ عَلَى كَدَرٍ وَأَنْتَ تُرِيدُهَا *** صَفْوًا مِنْ الْأَقْذَاءِ وَالْأَكْدَارِ
وَمُكَلِّفُ الْأَيَّامِ ضِدَّ طِبَاعِهَا *** مُتَطَلِّبٌ فِي الْمَاءِ جَذْوَةَ نَارِ
إنَّ العبد المؤمن يُدرك حقيقة الدنيا، ولذلك تجدهُ يصبر على طاعة الله، ويصبر عن معصية الله، ويصبر على أقدار الله؛ رغبةً فيما عنده أن يفوز بهذا الأجر، هذا الأجر ليسَ منقطعًا عن نعيمٍ في الدنيا، بل إنهُ يدركُ في الدنيا من النعيم ما تطمئنُ بهِ نفسه، وينشرحُ بهِ فؤاده، فليسَ الأمر فقط في نعيم الآخرة، بل يُدرك بطاعته وعبادته لله ـ عز وجل ـ في الدنيا من خيراتها ما تنشرح بهِ صدره؛ ولذلك يقول اللهُ ـ تعالى ـ: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} [النور: 55] فلهم الخلافة في الأرض، بمعنى أنَّ اللهَ ـ تعالى ـ يُظهِرُهم على من عاداهم، ويُبقِي ذِكْرَهم وعملَهم ورسالتهم، مهما اجتمع عليهم من الأعداء الذين يسعون لاستئصال شأفتهم والانقضاض عليهم، {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55]، ويقول ـ جلَّ في علاه ـ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36]، كُلُّنا لهُ هم، وكُلُّنا يخافُ شيئًا، هذا الشيء وذاكَ المخوف يزولُ بصدق الإقبال على الله.
إنَّ عبادة الرحمن يُدركُ بها الإنسان من الأمنِ وصيانة العبد من كيد الشيطان ما لا يفوزُ بهِ إلا بتمام الإخلاص لله ـ عز وجل ـ ولذلك يقولُ اللهُ ـ جلَّ وعلا ـ في ردِّه على الشيطان، عندما تكفَّلَ بغِوايةِ بني آدم؛ {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 39] قال: {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر: 40] قال اللهُ تعالى: {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي } [الحجر: 41، 42] فكن منهم {لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}، وفي الآية الأخرى يقول: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 82، 83].
إنَّ العبودية لله تَصْرِفُ عن الإنسان كيد الشيطان وسيئ الخصال؛ ولذلك يقول اللهُ ـ تعالى ـ في سببِ إنجاء يوسف من إغواءِ امرأة العزيز وقد تجملت له وظهرت بأبهى صورةٍ تدعوه إلى مواقعة السوء والشر: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24].
إنَّ طاعة الله ـ عز وجل ـ في الدنيا نعيمٌ لأهلها؛ ولذلك يقول اللهُ ـ تعالى ـ: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} [الانفطار: 13].
إنهم في نعيمٌ في الدنيا بما سكنَ قلوبهم من الطمأنينةِ والرحمةِ والأنس بالله الذي لا وحشةَ معه، ثم يوم القيامة يدخلون هذه المنزلة: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان: 75] وليسَ جزاءً باردًا، بل يحتفُ بالتحية والإكرام، ولذلك يقول ـ جلّ وعلا ـ: {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا}.
فتستقبلُهم الملائكة وتُلقى عليهم التحيات، وقد قال اللهُ ـ تعالى ـ في ذلك: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 23، 24] ويقول: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 58].
فاللهُ تعالى يُسلِّمُ عليه وتُسلِّمُ عليهم الملائكة، ولا يسمعونَ شيئًا من الردى وسيئ القول، بل: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا} [الواقعة: 25، 26] ، وقد قال ـ جلّ في علاه ـ في بيان ذلك: {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً} [الفرقان: 75] وهذا في الاستقبال: {وَسَلَامًا} في الأقوالِ، والأعمال التي يفوزون فيها بعطاء الله ـ عز وجل ـ ذاكَ كُلُّه ليسَ شيئًا زائلًا أو مُرتحلًا، بل هو مقيم مستقر، لا يخافون فواته، ولا يخشون زواله، بل هم في {جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} [البينة: 8]، فيا أهل الجنةِ حياةٌ ولا موت.
أسألُ اللهَ أن يجزينا وإياكم الأجر العظيم وأن يُبلِّغنا هذه المنازل الفاضلة وأن يجعلنا من عبادة، وأوليائه.
إلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم: "عباد الرحمن" استودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.