إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفُسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِل له، ومَن يُضلل فلن تجد له وليًا مُرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهد أن مُحمدًا عبد الله ورسوله خيرته من خلقه صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومَن اتبع سنته واقتفى أثره بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد.
فاتقوا الله عباد الله، اتقوا الله في السر والعلن، وقوموا بما فرض الله تعالى عليكم من الحقوق له ولخلقه، ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾النساء:58 ، فالسعادة في الدُنيا مُرتكزةٌ على ثلاث قواعد: « اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحسنةَ تَمْحُهَا، وخَالقِ النَّاسَ بخُلُقٍ حَسَنٍ»، هكذا أجمل رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- في هذه الوصايا الثلاث مُرتكزات السعادة التي يُدرِك بها الإنسان نعيم الدُنيا وفوز الآخرة، ﴿إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ﴾الانفطار:13 ، نعم إنهم لفي نعيم بطاعة الله -عز وجل-، وبالقيام بحقه، وبأداء الأمانة إلى الخلق فإن ذلك مما تطيب به القلوب، ويُدرك به الإنسان الحياة الطيبة في دُنياه، وفي قبره، ويوم بعثه ونشوره، اللهم اجعلنا من عبادك المُتقين، وحزبك المُفلحين، وأوليائك الصالحين.
أيها المؤمنون عباد الله إن أعظم ما تقوم به الصلات الحسنة بين الناس أن يكون الإنسان في معاملته للخلق على نُصحٍ وصدق، فالصدق والبيان، والنُصح وسلامة السريرة من أعظم ما يُدرك به الإنسان صلاح ما بينه وبين الخلق، فصلاح ما بينك وبين الناس مُرتكزٌ على النصيحة التي قال فيها رسول الله-صلَّى الله عليه وسلَّم-: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ، الدِّينُ النَّصِيحَةُ، الدِّينُ النَّصِيحَةُ، قُلْنَا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لِلَّهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ».
وقد بايع رسول الله-صلَّى الله عليه وسلَّم- جماعةً من أصحابه على النُصح لكل مُسلِم، بايعهم على السمع والطاعة والنُصح لكل مُسلِم فإن النُصح يجلب كل خيرٍ ويدفع كل سيئةٍ وشر، النُصح مبدأه سلامةٌ في القلب، وصلاحٌ في السريرة، فإنه لا يؤمن أحدُكم حتى يُحب لأخيه ما يُحب لنفسه، ولن يسلم الإنسان من النار، ولن يفوز بالجنة، ولن تستقيم حاله ومعاشه ومآله إلا بأن يأتي إلى الناس الذي يُحب أن يؤتى، قال النبي-صلَّى الله عليه وسلَّم-: «مَن أحَبَّ أن يُزَحْزَحَ عن النَّار وأن يُدْخَلَ الجَنَّةَ فَلْتأْتِه مَنِيَّتُه وهو يؤمِنُ باللهِ واليَوم الآخِر وليأتِ إلى النَّاسِ الذي يُحِبُّ أن يُؤْتَى إليه»، أي يُعامل الناس بما يُحب أن يُعاملوه، فكل ما شق عليك بمعاملة الناس كلما وجدت فيه غضاضةً على نفسك، أو كراهيةً من مُعاملة غيرك لك، فلا تُعامل به غيرك، بذلك تُحقق النصيحة، وبذلك تُحقق النجاح، وبذلك تَكمُل الديانة، وبذلك يستقيم سرك وإعلانُك، فإن العبد إذا جرى على هاتين القاعدتين أن يُحب لأخيه ما يُحب لنفسه، وهذا عملٌ قلبي، وأن يأتي للناس الذي يُحب أن يُعاملوه به، وهذا مسلكٌ عملي بهما يستقيم الحال، ويصلُح المعاش، ويستقيم للإنسان ما أمره الله تعالى به من الحقوق.
أيها المؤمنون عباد الله، إن الله تعالى أمرنا بالعدل، ونهانا عن الظُلم، والأمر بالعدل يشمل كل شيءٍ في أحوال الإنسان وأعماله، كما أن النهي عن الظلم يشمل كل شيءٍ دقيقٍ أو جليل، فالظلم ليس مقصورًا على فئةٍ من الناس، ولا على بعض مَن تولوا الولايات، أو صار في أيديهم شيئًا من المسؤوليات بل هو في كل حالٍ وشأن، لذلك قال الله -عز وجل- في عباده في خطابٍ عام: «يا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ علَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فلا تَظَالَمُوا»، فليحذر الإنسان الظلم دقيقه وجليله، وليسعى إلى إقامة العدل في كل شأن صغيرٍ أو كبير، دقيقٍ أو جليل، وإن من أسباب الظُلم التي يقع فيها كثيرٌ من الناس ويتورط فيها فئامٌ من الخلق الغش، ذاك المسلك الرديء الذي يُخِل بهاتين القاعدتين، فالغشاش لا يُحب لأخيه ما يُحبه لنفسه، والغشاش لا يُعامل الناس بما يُحب أن يُعاملوه به، وبالتالي فإنه فَقَدَ من الإيمان ما يسلم به من المؤاخذة، وما يذهب عنه ما يكون للمؤمنين من النعيم في الدُنيا والفوز .
أيها المؤمنون عباد الله «مَن غشَّ فليس منَّا»، هذا ما ذكره رسول الله-صلَّى الله عليه وسلَّم- وهو منبثقٌ من القواعد المُتقدمة التي تكلمنا عنها في أداء الحقوق للخلق، وقواعد السعادة، وما ينبغي أن يكون عليه الإنسان في مُعاملة غيره في سره وإعلانه، في اعتقاده وقلبه، وفي مُعاملته وعمله، ينبغي أن يُعلَم أن الغش يهدم ذلك كله، ولذلك قال-صلَّى الله عليه وسلَّم-: «مَن غشَّ فليس منَّا».
والغش منظومةً من الأخلاق تظهر في القول، وتظهر في العمل، تظهر في معاملة الله، وتظهر في مُعاملة الخلق، ولذلك ينبغي للمؤمن أن يحرص على قطع دابر الغش في سلوكه، وفي أخلاقه، وفي مُعاملته، وفي دقيق شأنه وجليله ليُحقق السلامة من تلك الخِصال فالمنافقون غششة، والمؤمنون نَصَحة، المُنافقون لُب مسارهم ومُنطلق أعمالهم إظهار الإيمان وإبطان الكُفر، فغشوا الناس، إن المنافقين ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ﴾البقرة:9 ، فكل مضن غش في معاملة الله، أو في مُعاملة الخلق فإنما يغُش نفسه، ولذلك جاءت النصوص متوافرة في النهي عن الغش في كل صوره، ولا يفهمن فاهم أو لا يتوهمن متوهم أن الغش محصورٌ في معاملةٍ مالية، أو في صورةٍ من صور التجارات ونحو ذلك، بل الغش منظومةٌ من الأخلاق مُنبثقةٌ من خلط الرديء بالطيب، وعدم إقامة ما أمر الله تعالى به من سلامة الباطن، وصلاح الظاهر، «مَن أحَبَّ أن يُزَحْزَحَ عن النَّار ويُدْخَلَ الجَنَّةَ فَلْتأْتِه مَنِيَّتُه وهو يؤمِنُ باللهِ واليَوم الآخِر وليأتِ إلى النَّاسِ الذي يُحِبُّ أن يُؤْتَى إليه»، لو غُششت في عود أراك لوجدت في ذلك غضاضةً، ولرأيت أنك قد بُخِست حقك ولو كان في أدنى ما يكون، فكيف بالغش فيما هو أكبر من ذلك، فواجبٌ على المؤمن أن يحذر الغش في كل معاملاته، وفي كل شأنه دقيقه وجليله.
اللهم اجعلنا من عبادك المُتقين، وحزبك المُفلحين وأوليائك الصالحين يا رب العالمين، أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مُباركًا فيه، أحمده حق حمده، له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحُكم وإليه تُرجعون.
أيها المؤمنون عباد الله، إن الله تعالى أمرنا بتوحيده، وجعل على توحيده نجاة الدُنيا وفوز الآخرة، فمن كان آخر كلامه من الدُنيا لا إله إلا الله دخل الجنَّة، فنشهد شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله إلا الله وأن مُحمدًا عبده ورسوله، ونسأله أن يُقيمنا على هذه الشهادة، وأن يتوفانا عليها، وأن يبعثنا في زمرة رسوله-صلَّى الله عليه وسلَّم-.
عباد الله إن الله تعالى أمرنا بالعدل، ونهانا عن الظُلم، أمرنا بالعدل في كل شؤوننا، وليُعلم أن العدل لا يقتصر فقط على مقام الحُكم، وفي مقام فصل النزاعات، بل العدل يكون في كل شأن، ولذلك يجب أن يستحضر المؤمن أن العدل المأمور به ينتظم به معاشه، وتستقيم به حياته، يصلح ما بينه وبين زوجه، ما بينه وبين ولده، ما بينه وبين والديه، ما بينه وبين أرحامه، ما بينه وبين قراباته، ما بينه وبين جيرانه، ما بينه وبين مَن يتعامل معهم من عموم الخلق، ما بينه وبين أصحاب العمل فإن ذلك كله ينتظم بالعدل، والنُصح، وإقامة الحق، وأداء الواجب لمن أُمِر الإنسان أن يبذل إليه الحق والواجب، ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾النساء:58 .
عباد الله إن الفساد الواقع في حياة الناس يرجع كثيرٌ منه إلى عدم النُصح الذي به تستقيم المُعاملات، فذاك الذي يأخذ الرِشوة على عمل، وذاك الذي يُقصِّر في وظيفته، وذاك الذي يُقصِّر في حق زوجته، أو يُقصِّر في حق أولاده، أو لا يقوم بما يجب عليه من الحقوق لجيرانه، أو لغير ذلك من أصحاب الحقوق فإنما يحمله على ذلك جهله بأن النُصح يُخالف هذا المسار، ويُباعد هذا المسلك، فإن النُصح بيانٌ وصدق، مُبادرةٌ إلى كل برٍ وخير، وقيامٌ بكل ما ينبغي أن تستقيم به مُعاملتُك مع الخلق، وقبل ذلك به ما يستقيم به مُعاملتُك مع الخالق فإن المُعاملة مع الله -عز وجل- مبناها على النُصح، لذلك قال-صلَّى الله عليه وسلَّم-: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ قُلْنَا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لِلَّهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ»، فالنُصح لله بإخلاص العمل له وبألَّا يبتغي أجرًا من سواه، والنُصح لكتابه بالإقبال عليه والأخذ منه وتعظيمه، وتلاوته آناء الليل والنهار، والقيام بما فيه من الحقوق والأوامر والنواهي، وأما النُصح لرسوله، فذاك باتباع ما كان عليه من الهدي القويم، ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾الأحزاب:21 ، والنُصح لولاة الأمر بالذب عنهم، والنصح لهم فيما يُرشدهم إلى البر ويُباعدهم عن السوء، والاجتماع عليهم وترك المُخالفة وعدم نزع يد الطاعة من أيديهم، والنُصح لعموم المُسلمين يكون بتلك القاعدتين أن تحب لأخيك ما تُحب لنفسك، وأن تعاملهم بما تُحب أن يُعاملوك به.
أيها المؤمنون عباد الله «مَن غشَّ ليس منَّا»، هكذا قال رسول الله-صلَّى الله عليه وسلَّم-، يظهر هذا في كل شؤونك، وإليك هذه القصة التي جاءت في خبر جرير بن عبد الله الذي أخبر أن النبي-صلَّى الله عليه وسلَّم- بايعه على النُصح لكل مُسلِم، بعث جرير رجلًا يشتري له فرسًا، فجاءه بفرسٍ بثلاثمائة درهم، فلمَّا جاء رأى الفرس في الجودة والطيب أعلى من ذلك سعرًا، فأتى إلى صاحبه، قال إن فرسك ثمنه أعلى من ذلك، أترضى بأربعمائة، قال: نعم، ثُمَّ عاود التفكير في جودة الفرس فقال: هو بأكثر من ذلك حتى بلَّغه ثمانمائة درهم، وقد رضيَّ الرجل في بيعه الأول بثلاثمائة، الذي حمله على ذلك أنه بايع رسول الله-صلَّى الله عليه وسلَّم- على النُصح لكل مُسلِم، هكذا يُحقق المؤمن وليأتِ إلى الناس الذي يُحب أن يُؤتى، عامل الناس بما تُحب أن يُعاملوك به، ولا تنتظر منهم جزاءً، فالناس قد قال الله تعالى في شأنهم: ﴿إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ﴾العاديات:6 ، أي يجحد نعمه، ويبخس حقَّه جلَّ في عُلاه، فإذا كان هذا هو مسلك الإنسان مع ربه الذي لم ينفك عن إحسانه، لم ينفك عن جوده، وكرمه، وعطائه في كل لحظة، فكيف بمعاملته مع الخلق، إنه ظلومٌ جهول في غالب أحواله، لا يسلم من ذلك إلا مَن زَكى إيمانه، وصلُح قلبه وظاهره، واستقام على شرع ربه، ذاك هو الذي يسلم من الظُلم والجهل والكنود، لذلك لا تنتظر من الناس مُقابل على تقوى الله والقيام بحقه، وأداء الحقوق وصلاح العمل، فإنك ستتعب ولن تجني من الناس إلا في الغالب حنظلًا.
ذلك هو المسلك الذي تسلم به من كل ضيقٍ في النفس لأنك لا ترجو الأجر والجزاء إلا من الرب، ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا﴾الإنسان:9 ، فأدِ النصيحة، واحذر الغش، واعدِل في مُعاملتك مع الخلق، وخالق الناس بخُلُقٍ حسن، وانتظر الأجر من الله لأنه -جلَّ وعلا- سيُبادرُك بعظيم الجور في دُنياك قبل أُخراك، فالأبرار في نعيم في دُنياهم، وفي قبورهم، وفي أُخراهم.
اللهم اجعلنا من عبادك المُتقين، وحزبك المُفلحين يا ذا الجلال والإكرام، اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقِنا عذاب النار، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، اللهم آمنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمتنا ووُلاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم مَن سعى في بلاد المُسلمين بسوءٍ أو شر أو فسادٍ أو ضُر فرُدَّ كيده في نحره، واكف المُسلمين شرَّه، اللهم إنَّا نسألك أن تعيذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم إذا أردت بعبادك فتنةً فاقبضنا إليك غير مفتونين يا ذا الجلال والإكرام، اللهم إنَّا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن، نعوذ بك من فتنة القبر وعذاب جهنَّم، ومن فتنة المسيح الدجال، ونعوذ بك من فتنة كل ذي فتنةٍ يا ذا الجلال والإكرام، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.