الخطبة الأولى:
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، ملء السماء والأرض، وملء ما شاء من شيء بعد، أحمده حق حمده، له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم.
وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، ومن اتبعه سنته، واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين:
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، الزموا تقواه في السر والعلن، في المنشط والمكره، في دقيق أمركم وجليله، فتقوى الله - جل في علاه - خير ما تزود به العبد للقاء مولاه: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ [البقرة: 197]، وإنما يتزود الراحل المسافر، وكلنا إلى الله سائر، اللهم أعنا على طاعتك، واصرف عنا معصيتك، واجعلنا من حزبك وأوليائك.
أيها المؤمنون عباد الله، إن الله - تعالى - خَلَقَ البشر من نفس واحدة، وجعل منها زوجها، وبَثَّ منهما رجالًا كثيرًا ونساءَ، ومِن هذا انبثق كل هؤلاء الذين ترونهم من بني آدم في القديم والحديث ممن تشاهدون أو تسمعون خبره ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ [الحجرات: 13].
أيها المؤمنون عباد الله، هذا هو ما أجرى الله - تعالى - عليه شأن الخليقة؛ من أنه لا يكون إلا من التقاء زوجين، فجعل ذلك من آياته: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ [الروم: 21].
عباد الله، إن أعظم ما يهدد البشرية اليوم هو اختلال المعايير بانتكاس الفطر، وزوال ما عليه يتم بناء الأمم؛ فإنَّ البشرية اليوم تنكَّبت الصراط المستقيم في كثير من شؤونها، ومن ذلك ما تنكبته في شأن الأسرة؛ فإنَّ تكوين الأسرة وبناءها، وحفظها وتقويمها؛ مما يضمن للبشرية السلامة والاستقامة، وعندما يخرج الناس في هذا إلى طرق ملتوية، ومداخل رديئة، وإلى سبل الشيطان التي يزينها؛ فإنهم سيتنكَّبون الطريق، وستتعثَّر المسيرة البشرية، وما نشاهده اليوم خير شاهدٍ على هذا؛ فإن الأمم تعاني معاناةً شديدةً في كثير من نواحيها، وأصل ذلك ومصدره في كثير من الأحيان اختلال اللبنة الأولى التي تنشأ عنها المجتمعات، وهي الأساس الذي تُبنى به الأمم: اختلال الأسرة، إما في تكوينها بعدم رفع الرأس بإقامة العلاقة الطبيعية بين الرجل والمرأة في ظل الأسرة المشروعة، وإما في اختراع صورٍ كثيرة من الأسر التي يسمونها أُسَرًا وهي في الحقيقة تدمير للبشرية، وإنهاء للجنس البشري؛ من مثلية أو غير ذلك مما لا ينتج عنه إلا الهلاك والفساد، والشر العظيم، والفساد العريض.
أيها المؤمنون عباد الله، نَدَبَ الله تعالى المؤمنين إلى النكاح؛ لما فيه من تحقيق المصالح الكبرى التي تستقر بها المجتمعات، وتنمو، وتصلح، ويطيب معاشها، كما أنها وسيلة كبرى لحفظ الديانة، وإقامة الشريعة «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج»قال - صلى الله عليه وسلم - : «فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج»وعى ذلك أئمة وعلماء فبيَّنوا مرتبة النكاح في ضرورة الإنسان إليه لحفظ معاشه، وإقامة دينه؛ قال عبد الله بن مسعود: «لو لم يبق مِن أَجَلي إلا عشرة أيام أعلم أني أموت في آخرها، ولي طَوْلٌ» أي: قدرة «على النكاح لتزوَّجتُ مخافة الفتنة»، وقال الإمام أحمد: «ليست العزوبة من أمر الإسلام في شيء، ومَن دعاك إلى غير الزواج دعاك إلى غير الإسلام».
وإنَّ من المشكلات التي تواجه المجتمعات سواءً ما كان منها مسلمًا أو غير مسلم - عزوفَ كثير من الناس عن الزواج، مما أفضى إلى كثير من البلايا التي بُليت بها المجتمعات، فالعزوف عن الزواج، وقلة إقبال الشباب عليه؛ مشكلة منبثقة عن مجموعة من الأسباب، كما أنها مؤشر إلى أن المجتمع يمر بمجموعة من الإشكالات والاضطرابات التي ينجم عنها تعثر المجتمع في دنياه، وتعثر المجتمع في دينه، وإِنَّ أي رابطة بين الرجل والمرأة في غير ظل الزواج لا تحقق المقاصد الشرعية، ولا المصالح المرعية، ولا تحفظ بها ما يؤمل من المنافع التي شرعها الله – تعالى - في التقاء هذين الجنسين.
وإنَّ مِن أعظم ما يحقق هذه الغاية أن يتنادى الجميع إلى ضرورة العناية بشأن الزواج تيسيرًا وتسهيلًا؛ وذلك مراعاةً لما جاءت به النصوص؛ فإن النصوص ندبت إلى تيسير النكاح وتسهيله، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أحمد وغيره: «إن من يمن المرأة تيسير خطبتها، وتيسير صداقها، وتيسير رحمها»قال عروة - رحمه الله - : «وأنا أقول من عندي: مِن أول شؤمها أن يكثر صداقها»، أي: أن يكثر مهرها، ويغلو ثمن الارتباط بها.
وقد جاء عن عقبة بن عامر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال: «خير النكاح أيسره»، وقال - صلى الله عليه وسلم - : «خير الصداق أيسره».
وقد روى السلمي أن عمر بن الخطاب خطب الناس فقال: «ألا لا تغالوا بِصُدُقِ النساء» يعني: بمهورهن «فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - »، ثم يقول في بيان صداق النبي - صلى الله عليه وسلم - لأزواجه وبناته: «ما أصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأةً من نسائه، ولا أُصدقت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية، وإن أحدكم ليغالي بصداق امرأته حتى يُبقي لها في نفسه عداوة، حتى يقول: كلفت لكم عَلَقَ القِرْبة» يعني الأمر الشاق العسير، وذاك تنبيهٌ إلى آثار تعسير الزواج بارتفاع تكاليفه على الحياة الزوجية بعد ارتباط الزوجين؛ فإن كثيرًا من الإشكالات التي تقع بين الزوجين هي ثمرة عسر، ومشقة حصول الرجل على المرأة، وحصول المرأة على الرجل.
أيها المؤمنون، رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هكذا كان صداقه خمسمائة درهم، وهو ما يعادل ما بين الألف والخمسمائة ريـال، إلى الثلاثة آلاف، على اختلاف سعر الفضة في سوق بيعها بين الناس.
أيها المؤمنون عباد الله، إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ندب إلى التيسير في أمور الزواج كلها في خطبة المرأة، وفي صداقها، وفي الإيلام عليه، فقد جاءه عبد الرحمن بن عوف - رضي الله تعالى عنه - ، فرأى عليه أثر تهيؤ وتزوُّج، فقال: «ما هذا؟»فقال: إني تزوجت امرأةً يا رسول الله على وزن نواة من الذهب - النواة: نواة التمرة - قال: «بارك الله لك، أولم ولو بشاة».
وقفة مع هذا الحديث:
عبد الرحمن لم يدع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى زواجه، مع أنه أكرم من يحضر زفافه، لكنه لم يدعه، ثم إن النبي لم يلمه في ذلك بشيء، بل قال له: «بارك الله لك، أولم ولو بشاة»بأيسر ما يكون، قيل: ولو بشاة في أكثر ما تبذل، وقيل: ولو بشاة في أقل ما تبذل، والواقع من سيرته - صلى الله عليه وسلم - أن المراد فيه أكثر ما تبذل؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صداقه لم يكن عاليًا، ولا في وليمته، لم يكن فاحشًا في ذلك بكثرة أو إسراف، بل إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أولم على صفية بنت حيي بسويق وتمر، وهذا شيء يسير من الطعام، كما أنه أولم - صلى الله عليه وسلم - على زينب بنت جحش - رضي الله تعالى عنها – بشاة، وكانت كما يقول أنس: «ما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أولم على أحد من نسائه أكثر أو أفضل مما أولم عليها»، وكانت وليمته شاة - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -.
أيها المؤمنون عباد الله، إن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا إلى تيسير الارتباط بين الرجل والمرأة بشرط تحقُّق الوصف الذي ذكره موجبًا للقبول «إذا أتاكم من ترضون دينه، وأمانته فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عظيم».
اللهم ألهمنا رشدنا، وقنا شر أنفسنا، أَعِنَّا على طاعتك، واصرف عنا معصيتك، وارزقنا يا ذا الجلال والإكرام حفظ حدودك، والقيام بشرعك في السر والعلن، أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، أحمده حق حمده، له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون، وأشهد أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين:
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، اتقوا الله - تعالى - حق التقوى، واسألوه - جل في علاه - ما يعينكم على طاعته، وما يجنبكم معصيته ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
أيها المؤمنون عباد الله، إن الله تعالى أمر بإنكاح الأيامى والصالحين ممن عبَّدنا، وهم في الأصل لا مال لهم؛ لأن الأيامى هن الجواري، والعباد هم الأرقاء الذين ليس لهم مال، فالأمر بتزويج الأحرار من الشباب والفتيات من آكد ما ينبغي أن يعتني به المؤمن؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - حث على ذلك، وندب إليه، وأمر بتسهيله وتيسيره؛ ولذلك ينبغي أن نتواصى وأن نتعاون في تيسير أمر النكاح؛ فكلنا له ابن أو أخ أو قريب، أو بنت أو أخت أو قريبة، فتيسير نكاحهم مما يحقق المقصود الشرعي، والله - تعالى - يقول:﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ [النساء: 3]،وهذا يدل على أن النكاح مطلوب تكثيره؛ لأن الله - عز وجل - أمر بالزواج وندب إليه، مثنى وثلاث ورباع بشرط تحقيق العدل الذي تستقيم به المعيشة، وتصلح به الحياة.
أيها المؤمنون عباد الله، إن التعاون على تيسير أمر الزواج سواءً كان في إعانة الشباب على الزواج في تيسير أمورهم في مهورهم، أو في ولائمهم، أو في معيشتهم بعد ارتباطهم - هو من الأعمال الجليلة الصالحة التي يُرجى عاقبتها، وجميل أثرها في الدنيا والآخرة.
ولأهمية ذلك جاء الحديث الشريف في بيان أهمية إعانة الناكح الذي يريد العفاف؛ ففي المسند بإسناد جيد من حديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثة حق على الله عونهم، المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء»ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: «والناكح الذي يريد العفاف».
فمما ينبغي لكل مؤمن أن يسعى وأن يجتهد في إعانة الراغب في الزواج، وإعانته تكون بكل وسيلة إما بمالك، أو بجاهك، أو بسعيك، أو بدعمك، أو بالسعي معه في قضاء شؤونه وحوائجه؛ فإن ذلك كله من عون هؤلاء على ما به صلاح أحوالهم.
وإن الراقب لأحوال الناس، المطالع لشؤون المجتمعات؛ يرى عزوف الشباب عن النكاح، وكثرة العنوسة، وهذا أمر ينذر بخطر؛ فإن رغبة الرجال في النساء، والنساء في الرجال أمر لا مناص منه ولا مخلص، إلا بأن توجد تلك السبل التي من خلالها يدرك كل طرف حاجته من غير أن يقع في محرم أو يقع فيما يغضب الله - عز وجل -.
فليس رشيدًا ولا عدلًا، ولا قويمًا في حال الناس أن يتأخر الشباب عن الزواج، وأن تتكدس البيوت بمن رغبن في الزواج ولم يتقدم لهن راغب.
فينبغي أن نسعى جميعًا وأن نتعاون في تيسير أمر الزواج وتذليله، وإعطاء المحتاج إلى الزواج الذي لا يقدر عليه من الزكاة، أو الصدقة، أو الأوقاف أو غير ذلك من أوجه الإحسان، هو من العمل الصالح الذي يرجى نفعه وعاقبته على ذلك الفرد، وعلى المجتمع كله؛ ولهذا إنفاق الأموال زكاةً ووقفًا ووصيةً وصدقةً في هذا الباب مِن أَجَلِّ الأبواب التي ينبغي أن نعتني بها، وأن نتواصى بها، وأن نبذل فيها، وأن يحث بعضنا بعضًا عليها، فإنها مما يحقق المقصود، ومما تدرك به الأمة مصالح جمة.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا وإياكم الاستقامة على طاعته، وأن يعين كل من رغب في الحلال على ما رغب، وأن ييسر له ما طلب، وأن يرزق الشباب العفاف، وأن يرزق الفتيات الأزواج الصالحين، وأن يجعل ذلك عونًا لهم على إقامة الدين.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف، والرشاد والغنى، ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الأعراف: 23].
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا حي يا قيوم.