صلاحُ القلوبِ.
الخطبة الأولى :
إن الحمد لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أما بعد.
فيا أيها المؤمنون.
اتقوا اللهَ حقَّ تقاتِه، واعلموا أن تقوى الله- جل وعلا- لن تستقيمَ لكم إلا بإصلاحِ قلوبِكم وتطهيرِها من الأمراضِ والآفاتِ بالبرِّ والطاعاتِ؛ ولهذا فإن اللهَ- جل ذكرُه- بعثَ الرسلَ وأنزلَ الكتبَ لإصلاحِ القلوبِ وتطهيرِها، وتزكيتِها وتطييبِها.
كيف لا ؟ وبالقلبِ يعرفُ العبدُ ربَّه، فيتعرفُ على أسمائِه وصفاته، وبالقلبِ يعلم العبد أمرَ الله ونهيه، وبالقلبِ يحب العبدُ ربه ويخافُه ويرجوه، وبالقلبِ يفلحُ العبدُ وينجو يومَ القيامة ،قال الله تعالى: ﴿يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ سورة الشعراء: 88-89.؛ أي: أتى اللهَ بقلبٍ سليمٍ من كلِّ شهوةٍ تخالفُ أمرَ اللهِ ونهيَه، ومن كلِّ شُبهةٍ تعارضُ خبرَه ونبأَه.
وبالقلبِ يا عباد الله يُقطعُ سفرُ الآخرةِ، فإن السَّيرَ إلى الله تعالى سيرُ القلوبِ لا سيرُ الأبدانِ.
قطعُ المسافةِ بالقلوبِ إليهِ لا بالسَّيرِ فوقَ مقاعدِ الرُّكبانِ
قال ابن رجب رحمه الله: "فأفضلُ الناسِ من سلك طريقَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وخواصِّ أصحابِه في الاجتهادِ في الأحوالِ القلبيَّةِ، فإن سفرَ الآخرةِ يُقطعُ بسيرِ القلوبِ، لا بسير الأبدان".
والقلبُ يا عباد الله هو موضعُ نظرِ اللهِ سبحانه من عبدِه، ففي "صحيح مسلم" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن اللهَ لا ينظُرُ إلى صُورِكم وأبشارِكم، وإنما ينظرُ إلى قلوبِكم وأعمالِكم»"صحيح مسلم" (2564)..
فيا للهِ العجبُ، من أقوامٍ صرفوا جلَّ اهتمامِهم في تحسينِ ظواهرهم، وغفلوا عن قلوبِهم وأفئدتِهم، وما أصدقَ ما قاله ابن القيم رحمه الله:
فالفضلُ عِندِ اللهِ ليس بُصورةِ ال أعمالِ بل بحقائقِ الإيمانِ القصيدة النونية (306).
وبصلاحِ القلبِ يا عباد الله تصلُحُ الأجسادُ، ففي "الصحيحين" من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا وإنَّ في الجسدِ مضغةً، إذا صلُحَت صلُحَ الجسدُ كلُّه، وإذا فسدت فسَدَ الجسدُ كلُّه، ألا وهي القلبُ» صحيح البخاري" (52)، ومسلم (1599)، من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه ..
أيها المؤمنون باللهِ ورسوله،ِ يا من ترجون اللهَ والدارَ الآخرةَ، عليكم بحفظِ قلوبِكم وإصلاحِها وحسنِ النظرِ فيها وبذلِ المجهودِ في استقامتِها، واعلموا أنه لن يتمَّ لكم ما ترجونه من صلاحِ قلوبِكم حتى تسلمَ قلوبُكم من أربعةِ أمورٍ:
الأول: أن تسلَمَ من الشركِ صغيرِه وكبيرِه، فإنه من أعظم مفسداتِ القلوبِ، قال ابن القيم رحمه الله: "ولا صلاح له – أي: للقلب – إلا بتوجيهِ محبتِه وعبادتِه وخوفِه ورجائِه" إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان 1/30.
الثاني: أن تسلَمَ من البدعةِ ومخالفةِ السنةِ، فإن كلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكل ضلالةٍ في النارِ، فإذا امتلأ القلبُ بالبدعِ أظلمَ، وإذا أظلمَ مرِضَ ولم يصح.
الثالث: أن تسلمَ من الشبهاتِ التي تزيغُها وتحملُها على اتباعِ الهوى والتكذيبِ بالحقِّ.
الرابع: أن تسلمَ من الشهواتِ التي تمرضُها وتفسدُها.
أيها المؤمنون.
إن السلامةَ من هذه الآفاتِ الكبرى، لا تتأتَّى إلا بأسبابٍ، لا بد من الأخذِ بها، ومقدماتٍ لا بد من تحصيلِها.
فمن أسبابِ صلاحِ القلوبِ واستقامتِها: الأخذُ بالقرآنِ العظيمِ، تلاوةً وحفظاً وتدبراً وتعلُّماً، فإن الله -سبحانه وتعالى -أنزلَه شفاءً لما في الصدورِ وهدى، ورحمةً للمؤمنين، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ سورة يونس: 57.
فالقرآنُ أبلغُ موعظةٍ لمن كانَ له قلبٌ أو ألقى السمعَ وهو شهيدٌ، وهو أنفعُ الأدويةشفاء لما في الصدورِ من أمراضِ الشبهاتِ والشهواتِ، قال ابن القيم رحمه الله: "جماعُ أمراضِ القلوبِ هي أمراضُ الشبهاتِ والشهواتِ، والقرآنُ شفاءٌ للنوعين إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان 1/44.
فأقبلوا على كتابِ الله يا عبادَ اللهِ، فإنه لا صلاحَ لكم، ولا سعادةَ إلا بالتمسُّكِ به، فاعتصموا به ومن يعتصمْ باللهِ فقد هُدي إلى صراطٍ مستقيمٍ.
ومن أسبابِ صلاح القلوب واستقامتِها: إعمارُها بمحبةِ الله تعالى،ٍ فلا فلاحَ ولا صلاحَ ولا استقامةَ ولا لذةَ ولا طِيبَ إلا بمحبَّةِ اللهِ تعالى، قال النبي صلى الله عليه وسلم : «ثلاثٌ من كُنَّ فيه وجَدَ بهنَّ حلاوةَ الإيمانِ: أن يكون اللهُ ورسولُه أحبَ إليه مما سواهما» أخرجه البخاري (16)، ومسلم (43) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فالمحبةُ أعظمُ واجبات الدين وأكثرُ أصولِه وأجلُّ قواعدِه، بل هي أصلُ كلِّ عملٍ من أعمالِ الإيمانِ والدِّينِ" مجموع الفتاوى 10/48.
فاجتهدوا يا عبادَ اللهِ في تحصيلِ محبَّةِ اللهِ تعالى، واعلمُوا أن طريقَها الأكبرَ أداءُ الفرائضِ والواجباتِ، والاجتهادُ في النوافلِ والمستحباتِ، قال الله تعالى في الحديث الإلهي: «وما يزالُ عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنوافلِ حتى أحبَّه» أخرجه البخاري (6502) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه..
ومن أسبابِ صلاحِ القلوبِ وتطييبِها: ذِكرُ الله تعالى: ﴿أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ سورة الرعد: 28.،وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «مثَلَ الذي يذكرُ ربَّه والذي لا يذكُرُ ربَّه كمثَلِ الحيِّ والميتِ» أخرجه البخاري (6407) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه..
فذكر الله تعالى أيها المؤمنون جلاءُ القلوبِ، فإن القلبَ يصدأُ كما يصدأُ النحاسُ والفضةُ، وجلاؤُه ذكرُ اللهِ تعالى، فأكثروا أيها المؤمنون من ذكرِ اللهِ تعالى في جميعِ الأوقاتِ، لا سيما في أدبارِ الصلواتِ، وفي الصباح والمساء، وغيرِ ذلك من المناسباتِ، فإنها من أعظمِ ما يصلِحُ القلوبَ.
عباد الله، إن من أسبابِ صلاحِ القلوبِ: تطهيرَها من الآفاتِ والأمراضِ، التي تفسِدُها وتعطبُها كالحسدِ والغلِّ والعجبِ والرياءِ والشحِّ، فإن هذه الأمراضَ تفسدُ القلبَ وتصرفُه عن صحتِه واستقامتِه، فاحرصوا -بارك الله فيكم- على تطهيرِ قلوبِكم من هذه الآفاتِ، فإنه لا نجاةَ للقلبِ إلا بالنجاةِ منها.
أيها المؤمنون! إن من أهمِّ أسبابِ صلاحِ القلوبِ: دعاءَ اللهِ سبحانه وسؤالَه إصلاحَ القلبِ وتطييبَه، فإن سؤال ذلك من أنفعِ الدعاءِ، ومن دعاءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم : «اللهمَّ مصرفَ القلوبِ صرِّفَ قلوبَنا على طاعتِك» أخرجه مسلم (2654) من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه.، ومن دعائه أيضاً: «يا مقلبَ القلوبِ ثبِّت قلبي على دينِك» أخرجه الترمذي (2140) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، والحديث حسنه الترمذي ،فأكثروا من سؤال الله التثبيتَ وإصلاحَ القلوب.
الخطبة الثانية :
أما بعد.
فيا أيها المؤمنون.
توبوا إلى اللهِ توبةً نصوحاً، فإن الذنوبَ فسادُ القلوبِ وخرابُها، ففي الصحيحِ قال النبي صلى الله عليه وسلم : «تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَىُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَىُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ :عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلاَ تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ ،وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لاَ يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلاَ يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلاَّ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ» أخرجه مسلم (144) من حديث حذيفة رضي الله عنه.، فبيَّن هذا الحديثُ أثرَ الذنوبِ على القلبِ، وأنه يطمِسُها ويختمُ عليها، كما قال ابنُ المبارك رحمه الله:
رأيتُ الذنوبَ تميتُ القلوبَ ***وقد يورثُ الذلُّ إدمانَها
وتركُ الذنوبِ حياةُ القلوبِ*** وخيرٌ لنفسِك عصيانُها ديوان ابن المبارك (26)
وفي الحديثِ أيضاً أثرُ التوبةِ في تصفيةِ القلبِ وتطهيرِه وتنقيتِه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "القلبُ إذا تابَ من الذنوبِ كان ذلك استفراغاً من تخليطاتِه حيثَ خلطَ عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فإذا تابَ من الذنوبِ تخلصت قوةُ القلبِ وإرادتُه للأعمالِ الصالحةِ، واستراحَ القلبُ من تلك الحوادثِ الفاسدةِ التي كانت فيه" مجموع الفتاوى 10/97، وقال ابن القيم رحمه الله: "فإذا عزمت التوبةُ وصحَّت ونشأت من صميمِ القلبِ أحرقت ما مرَّت عليه من السيئاتِ، حتى كأنها لم تكن، فإن التائبَ من الذنبِ كمن لا ذنبَ له" الوابل الصيب (15).
فأكثروا أيها المؤمنون من التوبةِ والاستغفارِ، فإن التوبة تجلو القلبَ وتزيل عنه أوضارَ المعاصي والسيئاتِ، ففي الصحيح من حديث الأغَرِّ المزني أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنه ليغانُ على قلب، وإني لأستغفرُ اللهَ في اليومِ مائةَ مرةٍ» أخرجه مسلم (2702) ..
أيها الحريصون على إصلاحِ قلوبهم، إن من أسبابِ استقامةِِ القلبِ وصلاحِه: تعظيمَ اللهِ تعالى الذي ينشأُ عنه تعظيمِ أمرِه ونهيِه، قالَ اللهُ تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ سورة الحج : 32، وشعائرُ اللهِ هي أوامرُه ونواهيه، فعظِّموا اللهَ -سبحانه وتعالى -يصلحْ لكم قلوبَكم ويغفرْ لكم ذنوبَكم.
ومن أسبابِ صلاحِ القلوب وتطييبِها: الحرصُ على البُعدِ عن أسبابِ فسادِها وخرابِها، قال تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ﴾ سورة الأحزاب : 53 ، قال الشيخ عبدُ الرحمنِ السِّعدي رحمه الله: "وكلما بعد الإنسانُ عن الأسبابِ الداعيةِ إلى الشرِّ فإنه أسلمُ له وأطهرُ لقلبه" تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 4/166.
فكلُّ شيءٍ يفسدُ قلبَك أيها العبدُ، فاحرص على تجنُّبِه والبعدِ عنه، فإن قلبك أعظمُ ما تملكُه، وإذا فسدَ عليك فسدَتْ عليك حياتُك وآخرتُك.
اللهم أصلح قلوبَنا ،وآت نفوسَنا تقواها، وزكها فأنت خير من زكاها.